بعض الآیات التی استدّلت بها السیدة الزهراء (س) لإثبات ملکها لفدک لها صلة بالإرث المادی و بعضها عامّة، و على فرض ظهورها فی الإرث المعنوی أکثر، لا یمکن إخراج الإرث المادی من دائرة شمولها. لذلک، فالنکتة الرئیسیة فی إستدلال السیدة الزهراء -س- هو إثباتها وجود أصل وراثة الإبن لأبیه فی القرآن الکریم، لکن هل یمکن أن نحصل على آیة واحدة فی القرآن الکریم تنصّ على أن أبناء الأنبیاء خارجون عن هذا القانون؟!
و بالطبع إن الإستدلال بحدیث عن النبی محمد (ص) ـ خصوصاً من قبل أشخاص أصبح شعار "حسبنا کتاب الله" - بالنسبة لهم أحد حلقات المسلسل الذی وصلوا به إلى السلطة ـ لا یمکن أن یکون جواباً مناسباً فی قبال الإستدلال المتین لبنت الأکرم (ص).
قد یعتبر هذا الاشکال للوهلة الأولى إشکالاً منطقیاً معقولاً. و قد حرص البعض إنطلاقاً من رؤیتهم السطحیة أن یردّ مستند السیدة الزهراء (س) و استدلالها ببعض الآیات القرآنیة لإثبات ملکها لفدک، ظاناً أن الدلیل قابل للمناقشة و الخدشة فیه.
و من الطبیعی أن هکذا بحث یحتاج فی هذه الواقعة التاریخیة إلى تحلیل فی المواضیع التی تدور حوله، من هنا سنتناولها دراسة القضیة باختصار شدید مع رعایة الترتیب حسب الأولویات.
الموضوع الأول: إن من الأمور المسلّمة تقریباً فی التاریخ أن فدکاً هی من الأموال التی حصل علیها الرسول (ص) من غیر حرب و لا سفک دم، و قد أثبت القرآن الکریم ملکیة الرسول (ص) لها فی الآیة السادسة من سورة الحشر و قد عدّ المفسّرون فدکاً المصداق الأصلی و الرئیسی لتلک الآیة المبارکة.[1] هذا من جهة، و من جهة أخرى إن أموال النبی الأکرم (ص) ستنتقل بالطبع إلى ورثته بعد وفاته، و بما أن السیدة الزهراء (س) هی الوحیدة التی بقیت من أولاده لذلک سینتقل إلیها القسم الأکبر من أمواله (ص) عدا الجزء القلیل الذی یکون من نصیب زوجاته.
الموضوع الثانی: یعتقد الشیعة بأن الرسول (ص) قد أهدى فدکاً للسیدة الزهراء ـ س ـ فی حیاته، و على کل حال، فلا یختلف الأمر کثیراً بعد وفاته، إذ لو کانت هدیة فلا یصل الدور إلى الإرث و إذا لم تثبت أنها هدیة فهی ملک للزهراء ـ س ـ بقانون الإرث.
الموضوع الثالث: بتصریح أکثر المصادر السنیة اعتباراً، أن النبی (ص) قد أقدم على کتابة وصیة عند وفاته، و قد منعه الخلیفة الثانی تحت شعار " حسبنا کتاب الله" و قد أعلن صراحة ـ طبقاً لسیاسة اتخذها ـ أن القرآن الکریم هو النص الوحید الذی یعترف به رسمیاً![2] و تعد هذه الحرکة منه حلقة من مسلسل أدى فی النهایة إلى إخراج الخلافة من أهل بیت العصمة و الطهارة (ع).
و بالطبع یصل الدور بعد هذه الحادثة إلى حرمان أهل البیت (ع) من أی شیء یمکن أن یکون لهم دعماً مالیّاً، کما حصل ذلک بالفعل.
و هذا هو الموقف الذی اتخذ و المنهج الذی إعتمده القوم فی الوصول الى هدفهم فی المرحلة التالیة، فلا یختلف الأمر لدى أصحاب المشروع الاقصائی سواء کانت فدک قد وصلت عن طریق الارث او غیرها للسیدة الزهراء (س)؟ و من المحتمل جداً أنهم قد اعدّوا خطتهم و قرروا سلبها منها على کلا الإحتمالین.
الموضوع الرابع: ففی ذلک الوقت حیث أن الظروف کانت بحیث لا یمکن إحقاق الحق بالمسیر الطبیعی و القانون، فلابد من السیر فی مسیر یکون الحکم فیه للأجیال القادمة و طالبی الحق سهلا. ففی هذا الإطار، قطعت السیدة الزهراء "س" لإثبات حقها مسیرا و استدلت بدلیل جعلت الطرف المقابل لا یمکنه الرد بأی جواب منطقی حیث تدرجت بالقضیة من مرحلة الى اخرى سلبت الحجة من الخصم، و قد تمثل ردها (س) بمجموعة من الاسالیب اشار الیها أهل البیت (ع) فی کلماتهم و التی تناولنا فی السؤال رقم 20834 نموذجاً منها.
لمزید من الإیضاح، لو أن السیدة الزهراء –س- ذکرت أن فدکاً کانت هدیة لطالبوها بشاهد على ذلک، و سیصبح عندئذ الأفراد المطّلعون على هذا الأمر تحت ضغط شدید یضطرهم إلى عدم الإدلاء بشهادتهم، بل و حتى لو تجرّؤوا و شهدوا لصالح السیدة الزهراء "س" ستبذل الجهود فی سبیل تخطئتهم و إظهارهم بأنهم غیر عدول و أن شهادتهم غیر کافیة، و هذا ما حدث بحیث لم تثبت قضائیا مسألة إهداء النبی (ص) فدکاً لإبنته، لذلک لم تطرح السیدة الزهراء –س- مسألة الهدیة بشکل واضح و قوی، بل تمسّکت بمسألة الإرث، إذ إن کل المسلمین کانوا على إطلاع کامل بأن فدکاً کانت ملکاً للرسول الأعظم (ص) و هذا الموضوع کان من البداهة و الوضوح بحیث لا یحتاج إلى شاهد و حتى الطرف المقابل لم یمکنه إنکاره. فالسیدة الزهراء –س- طرحت مسألة إدعائها للإرث، و کانت تعنی بذلک أن هذا المال لو لم یُهدى لی فسیصلنی على أقل التقادیر عن طریق الإرث، فلذلک طالبت بإرثها!.
لم تستشهد السیدة الزهراء "س" بأی روایة عن النبی (ص) کدلیل على إحقاق حقها، بل إستشهدت و استدلت بمجموعة من الآیات القرآنیة ـ لا بآیة واحدة کما یحاول البعض تصویر ذلک ـ و التی بعضها له صله بالإرث المالی[3] صراحةً و البعض الآخر یمکن أن یکون شاملاً للإرثین ـ المالی و المعنوی ـ[4]،
و أهم الملاحظات التی یمکن أن نقتبسها من إستدلالها هی:
الف) إن أصل موضوع الإرث قد بیّنه القرآن الکریم و قد حظی بمصادقة جمیع المسلمین علیه، و أن الحکم شامل لجمیع المسلمین بما فیهم أبناء الأنبیاء، و لا یوجد ما یدل على استنائهم عن هذا الحکم العام، فأی آیة من القرآن الکریم تدل على الحرمان المدعى، هذا فیما لو إقتصرنا على الدلیل القرآنی[5]؟!
ب) حتى لو قبلنا بأن بعض آیات الإرث لها ظهور فی الإرث المعنوی، فأی آیة من القرآن الکریم تدل على عدم شمول هذه الآیات للإرث المادی؟
ج) کان لسان السیدة الزهراء (س) فی خطابها للقوم: أنتم الذین منعتم أبی من کتابة وصیته بشعار "حسبنا کتاب الله"، أعطونی دلیلاً و احداً على حرمانی من الإرث قرآنیاً، و لا یحق لکم الاستناد الى أحادیث منسوبه الى أبی (ص) لان ذلک ینافی ما رفعتموه من شعار و التزمتم به.
بعد هذه الملاحظات التی قدمناها، نمر على بعض أجزاء هذه الواقعة کما جاء فی أقدم المصادر السنیة،
الف) ثم قالت فی متصل کلامها: أفعلى عمد ترکتم کتاب الله و نبذتموه وراء ظهورکم؟! إذ یقول الله تبارک و تعالى:
1ـ "و ورث سلیمان داوود".
2ـ "فهب لی من لدنک ولیاً یرثنی و یرث من آل یعقوب".
3ـ "و أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض فی کتاب الله".
4ـ "یوصیکم الله فی أولادکم للذکر مثل حظّ الأنثیین".
5ـ "إن ترک خیراً الوصیةُ للوالدین و الأقربین بالمعروف حقاً على المتقین".
و زعمتم أن لا حق و لا إرث لی من أبی و لا رحم بیننا؟!
أفخصکم الله بأیة أخرج نبیّه (ص) منها؟!
أم تقولون أهل ملتین لا یتوارثون؟! أو لست أنا و أبی من أهل ملة واحدة؟! لعلکم أعلم بخصوص القرآن و عمومه من النبی (ص)؟! أفحکم الجاهلیة تبغون؟! أأغلب على إرثی جوراً و ظلماً؟!
و سیعلم الذین ظلموا أی منقلب ینقلبون؟![6]
ب) جاءت فاطمة (ع) إلى أبی بکر تطلب میراثها و جاء العباس ابن عبد المطلب یطلب میراثه و جاء معهما علی (ع) فقال أبوبکر: قال رسول الله (ص): "لا نورّث ما ترکنا صدقة" و ما کان النبی یعول فعلیّ!!
فقال علی (ع): و ورث سلیمان داوود. و قال زکریا یرثنی و یرث من آل یعقوب!
قال أبوبکر: هو هکذا و أنت و الله تعلم مثلما أعلم!
فقال علی (ع): هذا کتاب الله ینطق!
فسکتوا و انصرفوا![7]
ج) عن عمر: لمّا کان الیوم الذی توفی فیه رسول الله (ص)، بویع لأبی بکر فی ذلک الیوم. فلما کان الغد جاءت فاطمة "س" إلى أبی بکر معها علی فقالت: میراثی من رسول الله (ص) أبی!
فقال أبوبکر: أمن الرثة أم من العقد؟!
قالت: فدک و خیبر و صدقاته بالمدینة أرثها کما یرثک بناتک إذ امتّ.
فقال أبوبکر: أبوک و الله خیر منّی، و أنت و الله خیر من بناتی، و قد قال رسول الله (ص): "لا نورّث ما ترکنا صدقة". یعنی هذه الأموال القائمة فتعلمین أن أباک أعطاکها فوالله لإن قلت نعم لأقبلنّ قولک و لأصدقنّک!
قالت: جاءتنی أم أیمن فأخبرتنی أنه أعطانی فدکاً.
قال: فسمعته یقول هی لک؟ إذا قلت قد سمعته فهی لک فأنا أصدّقک و أقبل قولک!
قالت: قد أخبرتک ما عندی![8]
و بمثل هذه الاحادیث یحاولون تبریر موقف الخلیفة الاول فی منعه، و الشاهد على أحقیة الزهراء (س) ان فدکا قد اعیدت الى أهل البیت اکثی من مرة على مر التأریخ الاسلامی، و هذا اعتراف ضمنی بعدم صوابیه موقف الخلیفة الاول.
و نختم الکلام بقصة لطیفة جداً فی هذا المجال یطرحها العالم السنی المشهور «ابن أبی الحدید المعتزلی» فی شرح«نهج البلاغة» بصورة ظریفة حیث یقول:
«سألت علی بن الفارقی مدرس المدرسة الغربیة ببغداد، فقلت له: أکانت فاطمة صادقة؟
قال: نعم، قلت: فلم لم یدفع إلیها أبوبکر فدکاً و هی عنده صادقة؟
فتبسم، ثم قال کلاماً لطیفاً مستحسناً مع ناموسه و حرمته وقلّة دعابته، قال: لو أعطاها الیوم فدک بمجرد دعواها لجاءت إلیه غداً و ادعت لزوجها الخلافة، و زحزحته عن مقامه، و لم یکن یمکنه الاعتذار و المدافعة بشیء، لأنه یکون قد سجل على نفسه أنها صادقة فیما تدعیه کائناً ما کان من غیر حاجة إلى بیِّنة و لا شهود» و بعدها یضیف «ابن أبی الحدید» قائلا:
«و هذا کلام صحیح، و إن کان أخرجه مخرج الدعابة و الهزل».[9]
فالقضیة تفوح منها رائحة السیاسة و الحصار الاقتصادی الذی مورس ضد أهل البیت (ع)
[1] الطبری، أبو جعفر محمد بن جریر، جامع البیان فی تفسیر القرآن، ج 28، ص 24، دار المعرفة، بیروت، 1412 ق.
[2] کصحیح البخاری، باب کتابة العلم، باب مرض النبی (ص) و وفاته و باب کراهیة الخلاف، لمزید من المعلومات فی هذا المضمار اقرؤا الأسئلة رقم 3672، 6278، 10163، 11080.
[3] النساء 11، الاحزاب 6، البقرة 180.
[4] مریم، 6؛ النمل، 16.
[5] على خلاف عقیدتنا حیث نعتقد بالمحورین معاً القرآن و أهل البیت (ع) طبقاً لحدیث الثقلین، و بالطبع أن القرآن هو الثقل الأکبر حسبما جاء فی هذا الحدیث.
[6] ابن طیفور، احمد بن أبی طاهر، بلاغات النساء، ص 29، قم الطبعة الأولى، بی تا.
[7] محمد بن سعد، الطبقات الکبرى، ج 2، ص 315، دار الکتب العلمیة، بیروت، 1410 ق.
[8] نفس المصدر.
[9] شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 283.