ان العفو من شیم النفوس الکبیرة و قد اکدت علیه الآیات و الروایات الکثیرة منها قوله تعالى: "وَ جَزاءُ سَیِّئَةٍ سَیِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا یُحِبُّ الظَّالِمین". و قوله تعالى: "وَ لا تَسْتَوِی الْحَسَنَةُ وَ لاَ السَّیِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتی هِیَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذی بَیْنَکَ وَ بَیْنَهُ عَداوَةٌ کَأَنَّهُ وَلِیٌّ حَمیم". و قوله تعالى: "إِنْ تُبْدُوا خَیْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ کانَ عَفُوًّا قَدیرا"، و هکذا الروایات الکثیرة التی حثت على الصفح و العفو، بل جعلت ذلک من مروة أهل البیت (ع) و من خصائصهم الحمیدة: "نحن أهل بیت مروتنا العفو عمن ظلمنا". و أن العافی یقع أجره على الله هو الذی یثیبه أجر عفوه عمن ظلمه: "إِذَا عَنَتْ لَکُمْ غَضْبَةٌ فَأَدُّوهَا بِالْعَفْوِ إِنَّهُ یُنَادِی مُنَادٍ یَوْمَ الْقِیَامَةِ مَنْ کَانَ لَهُ عَلَى اللَّهِ أَجْرٌ فَلْیَقُمْ فَلَا یَقُومُ إِلَّا الْعَافُونَ أَ لَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَهُ تَعَالَى فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ". فاذا کان الانسان مؤمنا حقیقیا فعلیه ان یتخلق باخلاق الله تعالى و ان یعفو عمن ظلمه، و لایحق له ان یتجاوز الحد فی رد الفعل بحیث یعمل الاعمال الخبیثة من اجل ایذاء صاحبه لان ذلک من الظلم الذی نهى الله تعالى عنه: "انه لایحب الظالمین".
فی الواقع هذه القضیة تبحث من زاویتین:
الزاویة الاولى بیان المراد من الایمان و تحدید مصادیقه.
الزاویة الثانیة بیان موقف الشریعة من التخاصم و الزعل و کیف عالجته.
اما الکلام فی معنى الایمان فنقول:
عندما تعرض المفسرون لقوله تعالى: "قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لکِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمَّا یَدْخُلِ الْإِیمانُ فِی قُلُوبِکُم".[1]
طبقا لمنطوق الآیة فإنّ الفرق بین «الإسلام» و «الإیمان» فی أنّ: الإسلام له شکل ظاهری قانونی، فمن تشهد بالشهادتین بلسانه فهو فی زمرة المسلمین و تجری علیه أحکام المسلمین.
أمّا الإیمان فهو أمر واقعی و باطنی، و مکانه قلب الإنسان لا ما یجری على اللسان أو ما یبدو ظاهرا فقط!. الإسلام ربّما کان عن دوافع متعدّدة و مختلفة بما فیها الدوافع المادیّة و المنافع الشخصیة، إلّا أنّ الإیمان ینطلق من دافع معنوی، و یسترفد من منبع العلم، و هو الذی تظهر ثمرة التقوى الیانعة على غصن شجرته الباسقة! و هذا ما أشار إلیه الرّسول الأکرم (ص) تعبیره البلیغ الرائع: "الإسلام علانیة و الإیمان فی القلب".[2]
کما إنّا نقرأ حدیثا آخر عن الإمام الصادق (ع) یقول فیه: "الإسلام یحقن الدم و تؤدّى به الأمانة و تستحل به الفروج و الثواب على الإیمان".[3]
و ربما کان لهذا السبب أنّ بعض الروایات تحصر مفهوم الإسلام بالإقرار اللفظی، فی حین أنّ الإیمان إقرار باللسان و عمل بالأرکان، إذ تقول الروایة: «الإیمان إقرار و عمل، و الإسلام إقرار بلا عمل».[4]
و هذا المعنى نفسه وارد فی تعبیر آخر فی بحث الإسلام و الإیمان، یقول فضیل بن یسار سمعت الإمام الصادق (ع) یقول: "إنّ الإیمان یشارک الإسلام و لا یشارکه الإسلام، إنّ الإیمان ما وقر فی القلوب و الإسلام ما علیه المناکح و المواریث و حقن الدماء.[5]
و هذا التفاوت فی المفهومین فیما إذا اجتمع اللفظان معا، إلّا أنّه إذا انفصل کل عن الآخر فربما أطلق الإسلام على ما یطلق علیه بالإیمان، أی أنّ اللفظین قد یستعملان فی معنى واحد أحیانا.[6]
و نقل المرحوم الشیخ محمد جواد مغنیة فی تفسیر الکاشف کلام الدکتور طه حسین قائلا: تکلمنا عن الفرق بین المؤمن و المسلم، و ننقل هنا ما ذکره الدکتور طه حسین حول هذه الآیة فی کتاب «مرآة الإسلام» لأنه أدیب یستشهد بفهمه على أسرار البلاغة قال:
«کان فی عهد النبی (ص) مؤمنون و مسلمون، فما عسى أن یکون الفرق بین الایمان و الإسلام؟. أما الایمان فالظاهر من هذه الآیة انه شیء فی القلب قوامه الإخلاص للّه و التصدیق بکل ما أوحى الى الرسول فی أعماق الضمیر، و نتیجة هذا الایمان الاستجابة للّه و لرسوله فی کل ما یدعوان الیه من غیر جمجمة و لا لجلجة و لا تردد مهما تکن الظروف و الخطوب و الکوارث و الأحداث .. و لازمة أخرى من لوازم هذا الایمان هی الخوف العمیق من اللّه إذا ذکر اسمه و الثقة العمیقة به إذا جد الجد و ازدیاد التصدیق إذا تلیت آیاته ... و الایمان یزید و ینقص ... أما الإسلام فهو الطاعة الظاهرة بأداء الواجبات و اجتناب المحظورات و ان لم یبلغ الایمان الصادق ... فمن الناس من یسلمون خوفا من البأس کما أسلم الطلقاء من قریش یوم فتح مکة، و منهم من یسلم خوفا و طمعا کالأعراب الذین ذکرهم اللّه فی هذه الآیة».[7]
من هنا ننطلق الى القول ان المؤمن الحقیقی الذی یصح ان یطلق علیه صفة المؤمن هو من یتمسک بالدین الاسلامی بجمیع قیمه و عقائده و یذعن له حتى لو کان ذلک على خلاف میوله و شهواته و رغباته.
و نحن من خلال مفروض السؤال نجد ان احد طرفی النزاع مؤمنا بنفسه[8] و سادراً فی غیه و لم یذعن للتعالیم الاسلامیة التی جاءت فی هذا المجال من الایات و الروایات الکثیرة:
فمن الآیات التی حثت على العفو و التجاوز قوله تعالى: "وَ جَزاءُ سَیِّئَةٍ سَیِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا یُحِبُّ الظَّالِمین".[9]
فالآیة المبارکة تشیر الى اکثر من مفهوم منها، ان السیئة تقابل بالسیئة و لایحق للانسان التجاوز و الظلم لان الله لایحب الظالمین. و انت تقول إن زمیلک طالما عمل الاعمال الخبیثة من اجل ایذاء صاحبه، فکیف یکون مؤمنا و هو یتجاوز الحد فی ردة الفعل.
ثانیا ان الآیة تتجاوز هذا الحد و تذهب الى أن العفو هو الافضل و ان المؤمن لاینبغی ان یرد السیئة بالسیئة، بل الافضل العفو و اذا عفا یقع اجره على الله تعالى: "فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه". و اذا تجاوز الحد فی ردة الفعل فانه یقع تحت قوله تعالى: "إِنَّهُ لا یُحِبُّ الظَّالِمین".
ثم کیف یکون مؤمنا حقیقیا و هو لایعمل بقوله تعالى: "وَ لا تَسْتَوِی الْحَسَنَةُ وَ لاَ السَّیِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتی هِیَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذی بَیْنَکَ وَ بَیْنَهُ عَداوَةٌ کَأَنَّهُ وَلِیٌّ حَمیم".[10] و قوله تعالى: "إِنْ تُبْدُوا خَیْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ کانَ عَفُوًّا قَدیرا".[11] و قوله تعالى: "وَ الْکاظِمینَ الْغَیْظَ وَ الْعافینَ عَنِ النَّاسِ وَ اللَّهُ یُحِبُّ الْمُحْسِنین".[12] و غیر ذلک الکثیر من الآیات التی تحث على العفو و المغفرة و التجاوز، أ لیس من صفات المؤمن التخلق باخلاق الله تعالى؟ فاذا کان الله تعالى بکل هذه العظمة و الجلالة یعفو عنا و یحب التائبین فما بال الانسان المؤمن لایعمل بذلک الا یرجو رحمة ربه یوم القیامة، فاذا کان حدیّا بهذه الدرجة من الانتقام لنفسه، فلا ریب ان الله تعالى سوف یتشدد علیه یوم القیامة کما تشدد هو على الاخرین و هذه معادلة لاریب فیها، فقد روی عن النبی الاکرم (ص) انه قال: "من أقال مسلما عثرته أقال الله عثرته یوم القیامة".[13] و ورد ایضا فی الحدیث: "اعف عمن ظلمک کما تحب ان یعفى عنک، فاعتبر بعفو الله عنک".[14] و اصرح من ذلک کله قوله تعالى: "وَ لْیَعْفُوا وَ لْیَصْفَحُوا أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ یَغْفِرَ اللَّهُ لَکُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحیم".[15]و الآیات و الروایات کثیرة هن و لایسع المجال لذکرها، و لکن نختم کلامنا بالقول ان العفو من شیم النفوس الکبیرة و الشخصیات العظیمة فمن لم یعفو یکشف عن ضعف شخصیته لیس الا، و کما یقول کعب بن زهیر صاحب البردة مخاطبا النبی الاکرم (ص) بعد ان اساء له: "نُبّئتُ أن رسول الله أوعدَنی ... والعفو عند رسول الله مأمول".[16]
و ما اجمل حدیث الامام الصادق (ع) الذی یکشف عن مروة أهل البیت (ع): "نحن أهل بیت مروتنا العفو عمن ظلمنا".[17]
و هل یرغب الانسان عن مثل هذه القیم و مثل هذا الثواب انتصارا لنفسه الامارة بالسوء و یفرط بالثواب الالهی الذی ادخره الله تعالى للعافین عن الناس حیث ورد فی الحدیث: "إِذَا عَنَتْ لَکُمْ غَضْبَةٌ فَأَدُّوهَا بِالْعَفْوِ إِنَّهُ یُنَادِی مُنَادٍ یَوْمَ الْقِیَامَةِ مَنْ کَانَ لَهُ عَلَى اللَّهِ أَجْرٌ فَلْیَقُمْ فَلَا یَقُومُ إِلَّا الْعَافُونَ أَ لَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَهُ تَعَالَى فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ".[18]
و لاننسى کید الشیطان و ما یقوم من إغواء بین المؤمنین و لنا فی قصة النبی یوسف علیه السلام مع اخوته درس رائع فی العفو و الالتفات الى حبائل الشیطان، قال تعالى حاکیا عن موقف یوسف (ع) حینما التقى باخوته الذین ظلموه و کادوا له ذلک الکید الخطیر: "قالَ لا تَثْریبَ عَلَیْکُمُ الْیَوْمَ یَغْفِرُ اللَّهُ لَکُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمین.... وَ قالَ یا أَبَتِ هذا تَأْویلُ رُءْیایَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّی حَقًّا وَ قَدْ أَحْسَنَ بی إِذْ أَخْرَجَنی مِنَ السِّجْنِ وَ جاءَ بِکُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّیْطانُ بَیْنی وَ بَیْنَ إِخْوَتی إِنَّ رَبِّی لَطیفٌ لِما یَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلیمُ الْحَکیم".[19]
نسال الله تعالى ان یؤلف بین قلوبهما فی هذا الشهر الفضیل.
[1] الحجرات، 14.
[2] الشیخ الطبرسی، مجمع البیان، ج 9، ص 138.
[3] الکافی، ج 2، باب أنّ الإسلام یحقن به الدم، الحدیثان 1، 2.
[4] المصدر السابق.
[5] أصول الکافی، ج 2، باب أنّ الإیمان یشرّک الإسلام، الحدیث 3.
[6] الأمثل فی تفسیر کتاب الله المنزل، ج 16، ص 571- 572.
[7] محمد جواد مغنیة، تفسیر الکاشف، ج 7، ص 125.
[8] و نجد ان عنوان الایمان یصدق على الطرف الثانی الذی اساء واعتذر و هو صابر على مایقوم به زمیله من اعمال تؤذیه و تجرج مشاعره.
[9] الشورى، 40.
[10] فصلت، 34.
[11] النساء، 149.
[12] آل عمران،134.
[13] میزان الحکمة، حرف العین، ص 367، نقلا عن کنز العمال رقم الحدیث7019.
[14] نفس المصدر، ص377.
[15] النور، 22.
[16]ابن سلام الجمحی، طبقات فحول الشعراء، ج1، ص13.
[17] میزان الحکمة، حرف العین، ص 367.
[18] بحارالأنوار ج، 74 ، ص 182.
[19] یوسف، 92-100.