للانسان فی مقابل الباری تعالى مقامان و منزلتان، الاولى منزلة البشر فی مقام التکوین و الانشاء و الاخرى فی مقام السیر التکاملی و النمو الروحی من النقص الى الکمال.
و قد اشارت الکثیر من الآیات و الروایات الى المقام و المنزلة الاولى و أکدت تساوی بنی آدم فیها بلا فرق بین الاسود و الابیض و العربی و العجمی و الرجل و المرأة، فالکل متساوون فی تلک المرتبة بلا أدنى تفاوت.
و اما المقام الثانی (عالم التکامل و الرقی و عالم الاختیار و الارادة) فالامر مختلف جداَ حیث تختلف درجات البشر و منزلتهم من فرد الى آخر إذ الملاک هنا التقوى و القرب الالهی و على هذا الاساس یختلف الافراد فی المنزلة و القرب من الله تعالى لان کل انسان یحظى بالمنزلة التی یصنعها مدى التزامه بالقوانین و الشرائع و بدرجة التقوى التی یتحلّى بها.
لکی تتضح الاجابة عن السؤال المطروح لابد من بحث المسألة من زاویتین:
1. مکانة الانسان و منزلته عند الله تعالى فی مقام التکوین و الخلق:
لو نظرنا الى الانسان مجرداً عن السلوکیات الحسنة أو السیئة و نظرنا الیه بما هو انسان لنبحث عن منزلته أمام الله تعالى سنصل الى نتیجة مهمة مؤداها بان للانسان منزلة ً کبیرة عند الله تعالى اذا ما قورن بسائر المخلوقات، و بعبارة اخرى ان للانسان کرامة ذاتیة. و هذا النوع من الکرامة یحکی عن العنایة الخاصة التی أولاها الباری تعالى للانسان و لا علاقة لها باختیار الانسان و حریته بتاتاً؛ بمعنى أن الانسان یتصف بتلک الکرامة و یتوفر علیها شاء أم أبى ذلک.
و فی خصوص الکرامة الذاتیة للانسان یمکن الاشارة الى النکات التالیة:
الف) هبة الکرامة للانسان: فالانسان و طبقا لکلام الله تعالى ذو مرتبة سامیة قد سخرت له سائر الاشیاء و هو مسلط علیها، و لقد أشار القرآن الکریم الى هذه الحقیقة فی قوله تعالى: "وَ لَقَدْ کَرَّمْنا بَنِی آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِی الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّیِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى کَثِیرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِیلاً".[1]
ب) خلافة الله فی الارض: و قد اشار تعالى فی کتابه الکریم الى هذه المنزلة فی قوله تعالى: "وَ إِذْ قالَ رَبُّکَ لِلْمَلائِکَةِ إِنِّی جاعِلٌ فِی الْأَرْضِ خَلِیفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِیها مَنْ یُفْسِدُ فِیها وَ یَسْفِکُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِکَ وَ نُقَدِّسُ لَکَ قالَ إِنِّی أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ".[2] و هذه المنزلة تخص آدم علیه السلام و بعض افراد نسله ممن وصلوا الى مرتبة انسانیة عالیة و علم بالاسماء الالهیة المقدسة.
ج) تسخیر الکون للانسان: هناک الکثیر من آیات الذکر الحکیم التی قررت حقیقة تسخیر السماوات و الارض للانسان و وضعها تحت تصرفه و التی تکشف عن المکانة و المنزلة الرفیعة التی یتحلى بها الانسان و من تلک الآیات قوله تعالى: "وَ سَخَّرَ لَکُمْ ما فِی السَّماواتِ وَ ما فِی الْأَرْضِ جَمیعاً مِنْهُ إِنَّ فی ذلِکَ لَآیاتٍ لِقَوْمٍ یَتَفَکَّرُون".[3]
د) تحمل مسؤولیة الامانة: من الکرامات التی حظی بها الانسان بما هو انسان تحمل مسؤولیة و شرف الامانة، و قد قرر القرآن الکریم تلک الحقیقة فی قوله تعالى: "إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَیْنَ أَنْ یَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ کانَ ظَلُوماً جَهُولاً".[4]
الى هنا اتضح ان للانسان بما هو انسان – الابیض و الاسود و الرجل و المرأة و العربی و العجمی- منزلة کبیرة و مقاما رفیعاً عند الله تعالى، و ان جمیع ما ذکرنا من النماذج یعد مصداقا لقوله تعالى "وَ لَقَدْ کَرَّمْنا بَنِی آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِی الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ" إضافة الى الآیات الاخرى التی تقرر بالاضافة الى منزلة الانسان و مکانته، تساویه فی تلک المنزلة و عمومیتها لجمیع افراد الانسان بما هم بشر و بصرف النظر عن السلوکیات و الافعال التی تصدر منهم.
یقول المفسر الکبیر العلامة الطباطبائی فی ذیل تفسیره لقوله تعالى: "وَ لَقَدْ کَرَّمْنا بَنِی آدَمَ": و بذلک یظهر أن المراد بالآیة بیان حال لعامة البشر مع الغض عما یختص بعضهم من الکرامة الخاصة الإلهیة و القرب و الفضیلة الروحیة المحضة فالکلام یعم المشرکین و الکفار و الفساق و إلا لم یتم معنى الامتنان و العتاب.[5]
و لا ینحصر الامر فی آیات الذکر الحکیم بل الروایات هی الاخرى اشارت الى هذه الحقیقة، و من تلک الروایات:
"أَنَّ سلمان الفارِسیَّ دخل مسجد رسول اللَّهِ (ص) ذات یوم فعظَّمُوهُ و قدَّمُوهُ و صدَّرُوهُ إِجْلَالًا لحقِّهِ و إِعظاماً لشیبته و اختصاصه بالمصطفى و آله (ص) فدخل عمر فنظر إِلیه فقال: من هذا العجمیُّ المتصدِّرُ فیما بین العرب. فصعد رسول اللَّه (ص) المنبر فخطب فقال: إِنَّ النَّاس من عهد آدم إِلى یومنا هذا مثلُ أَسنان المشطِ لا فضل للعربِیِّ على العجمیِّ و لا للأَحمرِ على الأَسود إِلا بالتقوى".[6]
و فی حدیث آخر عن أمیر المؤمنین (ع) أنه قال: "و ما الْجلیلُ و اللَّطِیفُ و الثَّقِیلُ و الْخَفِیفُ و الْقَوِیُّ و الضَّعِیفُ فی خَلْقِهِ إِلَّا سَوَاءٌ".[7]
و فی روایة أخرى عن النبی الاکرم (ص) أنه قال ما مضمونه: "لا اکرم على الله من بنی آدم".[8]
تحصل أن جمیع الناس متساوون فی مقام التکوین أمام الله تعالى.
2. منزلة الانسان عند الله فی مسیرة التکامل و السیر من النقص الى الکمال:
اتضح الى هنا تساوی المنزلة البشریة فی مقام التکوین. و لکن الامر یختلف فی مقام الرقی و التکامل البشری حیث تختلف درجات البشر و منزلتهم من فرد الى آخر إذ الملاک هنا التقوى و القرب الالهی و کما قال سبحانه و تعالى: "إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاکُمْ".[9] و على هذا الاساس یختلف الافراد فی المنزلة و القرب من الله تعالى و ذلک لان کل انسان یحظى بالمنزلة التی یصنعها مدى التزامه بالقوانین و الشرائع و بدرجة التقوى التی یتحلى بها حیث یصنف البشر وفقاً لهذا المعیار لا على اساس القومیة و العرق او اللون و اللغة، بل المعیار الایمان و العمل الصالح و المعرفة الحقة التی یکتسبها الانسان و التی ترفعه الى مقام الکمال و الرقی الانسانی خلافا للشرک و المعاصی و النفاق التی تنزل بصاحبها الى الحضیض و النقص.
واذا ما اخذنا هذا المعیار و المیزان بنظر الاعتبار فحینئذ یستنم الانبیاء و الائمة قمة الهرم البشری و ذروة الکمال الانسانی و أسمى درجات القرب من الباری تعالى، و فی المقابل یقع المنحرفون و الاراذل و الجهلة فی اسفل الدرجات و ینحدرون الى أدنى درجات النقص و الانحطاط.