العارف الصدّیق یکون فی مقام و مرتبة یفطع معها کل تعلقاته الدنیویة و یعتبر أی لون من ألوان المنِّ کفراً بالله. فإذا ما أظهر بعضاً من مقاماته العرفانیة و بینها لأجل هدایة الناس فإنه یؤدی بذلک العمل رسالته إزاء الناس إذ یعرفهم بحقیقة الإنسان و مقاماته و منزلته عند الله، و بذلک یرسخ و یقوی أمان الناس بالغیب.
هناک مبدأن أساسیان مسلمان أحدهما أن کتمان العلم و المعرفة فی موضع الحاجة إلى إظهارها أمر غیر جائز و من جهة أخرى فإن بیان المراتب و المقامات العرفانیة من قبل العارف بقصد التظاهر أمر غیر محبب و مرفوض، و من هنا یجب القول: إن العارف الصادق هو الذی یشخص المدى الضروری لمقدار المطالب التی یظهرها و یبینها للناس و کذلک مقدار ما ینبغی کتمانه و إخفاءه، و علیه فمن غیر الممکن الحکم بحسب السؤال بشکل مطلق على صحة أیٍّ من الطریقتین و السلوکین.
العرفاء:
یطلق اصطلاح العرفاء على الناس الذین ترقوا فی مدارج الإیمان و الصدق فی الدین، و قد بلغوا مرتبة سامیة و هی التخلق بأخلاق الله و مقام خلافة الله فی أسمائه و صفاته، کما نقرأ فی الروایة: (لا یزال العبد یتقرب إلی بالنوافل و العبادات حتى أحبه، فإذا أحببته کنت سمعه الذی یسمع به و بصره الذی یبصر به و یده التی یبطش بها و رجله التی یمشی بها)[1].
و علیه فالعارف هو الشخص الذی له مقام الولایة الإلهیة یمتلک خوارق العادات، و کما یقال فی الاصطلاح أن الکرامات لیست بما هی هی میزان لکون الإنسان عارفاً، کما أن تداول العرفان النظری لیس له ارتباط بحقیقة العرفان.
التفاوت فی مراتب العرفاء و مقاماتهم:
إن التخلق بأخلاق الله له درجات و مراتب، و علیه فإن العرفاء مع اختلاف مراتبهم و مقاماتهم أصبحوا مظهراً من مظاهر صفات الله بصورة کلیة أو جزئیة، و کذلک فإن العارف الکامل و تبعاً للإمام المعصوم صاحب الولایة الإلهیة الکلیة أصبح مظهراً من مظاهر الاسم الأعظم، فالإنسان ذاتاً یمتلک مثل هذا الاستعداد للوصول إلى هذا المقام و هذه المرتبة من خلال العشق و العبادة لله تعالى.
و أما فیما یتعلق بسلسلة مراتب العرفاء و مقاماتهم و أصنافهم فقد بسط الکلام فیها العرفاء الکبار من أمثال ابن عربی و کذلک جاءت الإشارة إلیها فی بعض الروایات[2].
و قد بلغ عیسى (ع) و الخضر ذروة هذه المقامات و المراتب، و لکن المرتبة الأعلى للإمام المهدی (عج) لأنه موعود جمیع الأمم، و أن باقی العرفاء و بحسب سلسلة مراتبهم فإنهم متصلون بهذه الوجودات المقدسة، کما أنهم یعدون من أنصار الإمام (عج) فی کل عصر و زمان، کالأقمار المحیطة بشمس الولایة.
رسالة العرفان:
للعرفاء حالات مختلفة تبعاً لتجلیاتهم القلبیة و المقامات و المنازل التی یطوونها فی مسیرهم، و علیه فلیسوا جمیعاً على سیرة واحدة، مع أن أصوله الاصیلة و قواعده واحدة و جمیعهم یقتبس من نور واحد.
و من هنا فإن بعض العرفاء لیس لهم ارتباط إلا بأفراد خاصین بل أن بعضهم فی حال غیبة عن العالم الظاهری و عیون أهل الظاهر کما هو حال بالنسبة إلى عیسى (ع) و الخضر و هما من أصحاب الولایة و لکن بعض العرفاء یبقون على ارتباط عادی مع سائر الناس.
و لکن کل عارف صادق و مستقیم و فی أی وضع کان ألا و هو حامل لرسالة عرفانیة، و لم یعتبر نجاة نفسه منفصلة عن نجاة الناس، لأن جمیع الناس خلقوا من نفس واحدة.
ظروف المحیط (الزمان و المکان):
إن للمحیط الذی یعیش فیه العارفی بلحاظ المکان و الزمان أثرٌ کبیر على منهج العارف فی مسیرته فی إطاره الاجتماعی، ففی بعض الحقب التاریخیة یتوفر محیط ملائم و مناسب لإظهار و بیان المطالب العرفانیة و ذلک بوجود الکثیر من الناس المحتاجین لمثل هذه الهدایة، فی حین لم تکن مثل هذه الأرضیة موجودة فی حقب أخرى من التاریخ.
بیان المقامات العرفانیة:
العارف الصدّیق یکون فی مقام و مرتبة یقطع معها کل تعلقاته الدنیویة و یعتبر أی لون من ألوان المنِّ کفراً بالله. فإذا ما أظهر بعضاً من مقاماته العرفانیة و بینها لأجل هدایة الناس فإنه یؤدی بذلک العمل رسالته إزاء الناس إذ یعرفهم بحقیقة الإنسان و مقاماته و منزلته عند الله، و بذلک یرسخ و یقوی أیمان الناس بالغیب.
إن نبی الإسلام و الأئمة الأطهار و بعض العرفاء یظهرون بعض مقاماتهم العرفانیة لأجل المعرفة فقط، حتى یتعرف علیهم الناس فیکون تلک المعرفة سبیلاً إلى الهدایة و النجاة، و لو لم تکن هذه الرسالة موجودة لما أظهروا هذه المقامات و لم یعرفها الناس بها، و لما تعرضوا إلى هذه المتاعب و الأذى، کما خاطب الباری تعالى نبیه بالقول (و أما بنعمة ربک فحدث)[3]،[4].
و هذه النعمة هی مقام النبوة حیث أمر النبی (ص) بالکلام عنها و إظهارها[5] و کذلک حینما تحدث الإمام (ع) عن مقاماته و حالته فإنه جعل من هذه الآیة السبب و الداعی لکلامه و ما أفصح به من الأمر.
و طبقاً لهذه الآیة فإن کل عارف مأمور فی الجملة على الإجمال بإظهار علومه من أجل تنویر الناس و هدایتهم. و من هنا فلیس بیان المطالب العرفانیة لدى العرفاء الکبار أصبح أمراً معتاداً و حسب، بل اعتبروا فی بعض الأحیان هدایة السالکین إلى الطریق واجب و تکلیف. و لکن إظهار هذه المطالب و بیانها یکون مذموماً عندما یکون التصریح بها لأجل التظاهر أو اقترانها بمحذورات أخرى، و لکن العارف الحقیقی یکون بریئاً من هذه النقائض و منزهاً عن هذه الأمور المذمومة التی تکشف عن الجهل و عدم المعرفة، لأنه قد تخطى هذه المراتب.
و فی بعض الأوقات لم یحصل العرفاء و الأئمة من بیان مقاماتهم و حقائق عرفانهم إلا الأذى و عداوة الجهال و الجن و القتل و لذلک لا یمکن تصور أن هؤلاء العظماء یظهرون حالاتهم و یصرحون بمقاماتهم من أجل التظاهر و ریاء الناس. و لکن هذا الأمر کان الأثر الأکبر فی هدایة الناس و إرشادهم.
و علیه فالعارف نفسه یشخص الحد الممکن لبیان مثل هذه المطالب و الحد الضروری من الکتمان، و بذلک من غیر الممکن أن نحکم بشکل مطلق على صحة اتجاه دون آخر و ترجیح طریقة على أخرى، و إن الاختلاف بین العرفاء بخصوص هذه المسألة مرده إلى اختلاف الرسالة التی یحملها العارف و یرید إیصالها إلى المجتمع.
نعم قد یوجد من یدعی العرفان کاذباً و لیس لدیه أهداف وراء الخوض فی المسائل العرفانیة النظریة إلا لفت أنظار الناس الیه، و بذلک یخدعون الناس بواسطة خوارق العادات و الکذب و الریاء، و یکتمون من جهة أخرى إذا کان فی ذلک الکتمان مصلحة أو منفعة، و یختارون السکوت فی مقابل الجهل و البدعة، و مثل هذه الفئة خارجة عن محل البحث، و لم یعدوا من العرفاء بأی شکلٍ من الأشکال.
للاطلاع یراجع الجواب 11876 (الموقع: 11637).