خلافا للاتجاهات و المدارس التی رسمت للانسان طریقا آحادی الجانب - الترکیز على البعد المادی و اهمال الجانب المعنوی بالمطلق، أو الترکیز على البعد المعنوی و إهمال الجانب المادی بکل ابعاده- نظر الاسلام الى القضیة نظرة متوسطة و متزنة فلم یهمل البعد المادی کما لم یهمل البعد المعنوی، بل جعل الانسان یرتقی بالجناحین معا للوصول الى التکامل و تحصیل القرب الالهی، و لم یر فی الدنیا منافاة للبعد المعنوی فیما اذا احسن التصرف فیها، بل هی مزرعة الآخرة.
ثم ان الانتفاع من الدنیا بحد ذاته و من الطبیعة لابد أن یکون متوازنا بعیدا عن التبذیر و الاسراف و التقتیر و العبث بالطبیعة و من هنا نجد القرآن الکریم یصرح بان من صفات المؤمنین " وَ الَّذینَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ یُسْرِفُوا وَ لَمْ یَقْتُرُوا وَ کانَ بَیْنَ ذلِکَ قَواما".
و ضعت الادیان و المذاهب المدارس الفکریة المطروحة فی الساحة الاجتماعیة، مجموعة من القوانین و الدساتیر و التوصیات لغرض تأمین متطلبات الانسان و تلبیة حاجاته الضروریة و الاخذ بیده نحو السعادة و الاستقرار.
أما المدارس المادیة فقد أهملت بنحو مطلق البعد المعنوی للانسان و قد افرط بعضها الى درجة لم یؤمن بهذا البعد أساساً، و ذهب الى تبنی النظریة التی تحصر السعادة البشریة بعامل المنفعة و الاستفادة القصوى من اللذات المادیة. و فی المقابل نجد بعض المدارس و الاتجاهات الاخرى ذهبت فی الاتجاه المعاکس للنظریة الاولى معتقدة بان سعادة الانسان تکمن فی تعزیز البعد المعنوی و تقویة الروح الى درجة أنها لم تهمل البعد المادی فقط، بل ذهبت الى القول بان السعادة البشریة تکمن فی الابتعاد المطلق عن اللذات و المظاهر المادیة داعیة البشریة الى التحرز و الابتعاد عن هذا الجانب مطلقاً.
و بطبیعة الحال أن کل نظریة تطرح على الساحة لابد أن تنطلق من رؤیة کونیة و تفسیر للکون و الحیاة.
و هنا یمکن القول بان الانجراف المفرط مع المادیات و الانتفاع اللامحدود بالملاذ المادیة المختلفة و الانحلال المطلق الذی ساد العالم المادی المعاصر و خاصة المجتمعات الغربیة، مثل ردة فعل عنیفة ضد المدارس التی ضیقت على الانسان حرکته و منعته من الانتفاع بالملاذ المادیة.
أما المدرسة الاسلامیة فقد وقفت موقفا وسطا بین الاتجاهین المذکورین، و تبنت رأی متوازنا یوفر للانسان البعد المادی و المعنوی معا، ففی الوقت الذی أهتم فیه الاسلام بالبعد المعنوی لم یهمل الجانب المادی و حاجة الانسان الى الانتفاع بها، روی عن الامام الصادق (ع) أنه قال: " إِنَّ اللَّه تبارک و تعالى أَعطى محمَّداً (ص) شرائع نوح و إِبراهیم و موسى و عیسى (ع) التوحید و الإخلاص و خلع الأَنداد و الفطرةَ الْحنیفِیَّةَ السَّمحةَ و لا رَهْبَانِیَّةَ و لا سیاحَةَ، أَحلَّ فیها الطَّیِّبَاتِ و حرَّمَ فیها الخبائث و وضع عنهم إِصرهم و الأَغلال الَّتی کانَتْ علیهِم".[1]
و قد حذر النبی الاکرم (ص) و الائمة الاطهار (ع) الامة الاسلامیة من الرهبانیة و العزلة فی کثیر من المواطن، منها:
- احتجاج أَمیر المؤمنین (ع) على عاصم بن زیادٍ حین لبس العَبَاءَ و ترکَ المُلاءَ و شکَاهُ أَخوه الرَّبِیعُ بن زیاد إِلى أَمیر المؤمنین (ع) أَنَّهُ قد غَمَّ أَهلهُ و أَحزَنَ ولْدَهُ بذلک! فقال أَمیر المؤمنین (ع): علیَّ بعاصم بن زیادٍ فجِیءَ به فلمَّا رآهُ عبس فی وجهه، فقال لهُ: أَ ما استحییتَ من أَهْلِکَ أَ ما رحمت ولْدَکَ أَ ترى اللَّهَ أَحلَّ لکَ الطَّیِّبَاتِ و هو یکرهُ أَخذکَ منها؟! أَنْتَ أَهونُ على اللَّه من ذلک.[2]
لکن ینبغی الالتفات الى أن البعد المذموم من الدنیا هو التعلق بها و الانجرار وراء ملذاتها بلا قید و شرط بنحو ینسی الانسان فیه تکالیفه الاساسیة و وظیفته الکبرى اتجاه الله و المخلوقات، و الاغترار بها و نسیان الآخرة، بالاضافة الى التفاخر و الاسراف و غیر ذلک من النتائج السلبیة المترتبة علیها. و لا تجد ذما للدنیا اذا أخذت قنطرة یعبر من خلالها الانسان الى عالم الآخرة و القرب الالهی. و قد اشارت الروایات الکثیرة الى هذا المعنى، نکتفی بذکر روایتین منها:
1. قال أمیر المؤمنین (ع) و قد سمع رجلا یذمُّ الدُّنْیَا: أَیها الذَّامُّ للدُّنیا المغترُّ بغرورها المخدوعُ بِأَبَاطِیلِهَا أَ تَغْتَرُّ بِالدُّنْیَا ثُمَّ تَذُمُّهَا أَنْتَ الْمُتَجَرِّمُ عَلَیْهَا أَمْ هِیَ الْمُتَجَرِّمَةُ عَلَیْکَ مَتَى اسْتَهْوَتْکَ أَمْ مَتَى غَرَّتْکَ؟ أَ بِمَصَارِعِ آبَائِکَ مِنَ الْبِلَى أَمْ بِمَضَاجِعِ أُمَّهَاتِکَ تَحْتَ الثَّرَى.... إِنَّ الدُّنْیَا دَارُ صِدْقٍ لمنْ صدقها و دارُ عافیةٍ لمن فهم عنها و دارُ غنى لمنْ تزوَّدَ منها و دارُ موعظةٍ لمن اتَعظَ بها، مسجدُ أَحبَّاء اللَّهِ، و مصلَّى ملائکةِ اللَّهِ، و مَهْبِطُ وحی اللَّهِ و متجرُ أَوْلِیَاءِ اللَّهِ اکْتَسَبُوا فِیهَا الرَّحْمَةَ و ربحوا فیها الْجَنَّةَ فمَنْ ذَا یَذُمُّهَا؟!.[3]
2. عن عبد اللَّه بن أَبی یعفُور قال: قال رجلٌ لأَبی عبد اللَّه (ع): و اللَّه إِنَّا لنطْلُبُ الدُّنْیَا و نحبُّ أَنْ نُؤْتَاها! فقال: تحبُّ أَنْ تصنعَ بها ما ذَا؟ قال: أَعود بها على نفسی و عیالی و أَصل بها و أَتصدَّقُ بها و أَحجُّ و أَعتمرُ. فقال (ع): لیس هذا طلبَ الدُّنیا هذا طلبُ الآخرة.[4]
اتضح ان الموقف الاسلامی من هذه القضیة هو الموقف الوسطی بین الافراط و التفریط. ثم ان الانتفاع من الدنیا بحد ذاته و من الطبیعة لابد أن یکون متوازنا بعیدا عن التبذیر و الاسراف و التقتیر و العبث بالطبیعة و من هنا نجد القرآن الکریم یصرح بان من صفات المؤمنین " وَ الَّذینَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ یُسْرِفُوا وَ لَمْ یَقْتُرُوا وَ کانَ بَیْنَ ذلِکَ قَواما".[5]
کذلک نجد فی الحدیث الشریف اشارة الى المسؤولیة الکبرى اتجاه البیئة و ما فیها من اشیاء، قال أمیر المؤمنین (ع): "ْ اتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ فِی عِبَادِهِ وَ بِلَادِهِ إِنَّکُمْ مَسْئُولُونَ حَتَّى عَنِ الْبِقَاعِ وَ الْبَهَائِم".[6]
لمزید الاطلاع انظر المواضیع التالیة:
الرفاه و النعیم الدنیوی و الاخروی، رقم السؤال 7576 (الموقع: 7674).
السعی للدنیا و الآخرة، 1821 (الموقع: 2130).