تصنف الدساتیر الصادرة من الشارع المقدس الى طائفتین: الاول التی تمثل الاصول المسلمة و الثابتة على مر العصور و الاجیال و لا تطالها ید التغییر أبداً و التی یجب على الجمیع امتثالها على مر العصور و فی جمیع البقاع؛ کالتوحید، النبوّة، العدل الالهی، قبح الظلم و وجوب اجتنابه و حسن العدل و الاحسان و الحث علیه. و الطائفة الثانیة هی الدساتیر و الاوامر الدینیة التابعة للشروط الموضوعیة و الزمان و المکان، و هی متغیره بتغیر الاحوال و الازمان. و قد تعرض الائمة (ع) لبیان هذه القضیة و عالجوها و بینوا لاصحابهم انها من المتغیرات التابعة للزمان و المکان.
و بطبیعة الحال أن طریقة المأکل و الملبس التی کان یعتمدها الرسول الاکرم (ص) و أمیر المؤمنین (ع) تختلف عن طریقة من تأخر عنهم من الائمة و خاصة فی عصر الامام الصادق (ع)، و ذلک لاختلاف الظروف و تحسن الحالة المعیشیة لعامة الناس. فعندما کان الفقر هو الحاکم و الطابع السائد على المجتمع الاسلامی فی عصر الرسول (ص) و أمیر المؤمنین (ع)، تراهم (ع) یواسون الناس فی المعیشة بل یحثون سائر الموسرین على ذلک، لانه من غیر المناسب عندما یکون عامة الناس یحیون حیاة الفرق و الفاقة، ترى البعض الآخر یعیش الرفاه المطلق و یرفلون بالنعم و الملذات تحت ذریعة التمسک بقوله تعالى " قُلْ مَنْ حَرَّمَ زینَةَ اللَّهِ الَّتى اخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّیِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ" و ان کانوا قد حصلوا على المال عن طریق الحلال. و اما اذا عم الرفاه و تحسنت الحالة المعیشیة فعلى المؤمن الانتفاع بها، لان الانتفاع من النعم و المواهب الالهیة لیس بالامر المستقبح، بل من الجید أن یظهر الانسان آثار نعمة ربّه علیه " انَّ اللَّهَ إِذَا أَنْعَمَ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً أَحَبَّ أَنْ یَرَى عَلَیْهِ أَثَرَهَا" و لکن شریطة الا تکون الملذات و النعم سببا فی جرّه للانغماس فیها و نسیان الله تعالى و حصول حالة من العجب و الغرور، و لا تکون على حساب حقوق الناس. فاذا تجردت من ذلک فلا بأس بها، بل قد تکون سببا فی تکامل الانسان و رقیه.
للاجابة عن السؤال المطروح لابد من الحدیث فی ثلاثة محاور، هی:
1. الاشارة الى الآیات و الروایات التی تشیر الى کون الباری تعالی یحب أن یرى على عباده آثار نعمته.
2. سیرة المعصومین (ع) و هل کانوا ملتزمین بطریقة واحدة فی اللباس؟
3. الحد المسموح به من التنعم و الرفاه.
و سنحاول تفصیل البحث فی المحاور المطروحة حسب الترتیب المذکور:
1. قال تعالى مخاطبا الرسول الاکرم (ص): "وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّکَ فَحَدِّث".[1]
و روی عن عن فضل البَقْبَاقِ قال: سأَلتُ أَبا عبد اللَّه (ع) عن قول اللَّه عزَّ و جَلَّ (وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّکَ فَحَدِّثْ)؟ قال: الَّذِی أَنْعَمَ عَلَیْکَ بِمَا فَضَّلَکَ وَ أَعْطَاکَ وَ أَحْسَنَ إِلَیْکَ ثُمَّ قَالَ فَحَدَّثَ بِدِینِهِ وَ مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ وَ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَیْهِ.[2]
و جاء فی نهج البلاغة و غیره من المصادر أنه لما دخل أمیر المؤمنین (ع) على العلاء بن زیاد الحارثی و هو من أصحابه یعوده، فلما رأى سعة داره، قال: ما کُنْتَ تَصْنَعُ بِسِعَةِ هَذِهِ الدَّارِ فِی الدُّنْیَا وَ أَنْتَ إِلَیْهَا فِی الْآخِرَةِ کُنْتَ أَحْوَجَ؟! و بَلَى إِنْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا الْآخِرَةَ، تَقْرِی فِیهَا الضَّیْفَ وَ تَصِلُ فِیهَا الرَّحِمَ وَ تُطْلِعُ مِنْهَا الْحُقُوقَ مَطَالِعَهَا، فَإِذاً أَنْتَ قَدْ بَلَغْتَ بِهَا الْآخِرَةَ. فقال لهُ العلاءُ: یا أَمیرَ المؤمنِینَ أَشکو إِلَیْکَ أَخِی عَاصِمَ بْنَ زِیَادٍ! قال: و ما لهُ؟ قالَ: لَبِسَ الْعَبَاءَةَ وَ تَخَلَّى عَنِ الدُّنْیَا!! قال: عَلَیَّ بِهِ. فَلَمَّا جَاءَ، قَال: یا عُدَیَّ نَفْسِهِ لَقَدِ اسْتَهَامَ بِکَ الْخَبِیثُ، أَ مَا رَحِمْتَ أَهْلَکَ وَ وَلَدَکَ؟! أَ تَرَى اللَّهَ أَحَلَّ لَکَ الطَّیِّبَاتِ وَ هُوَ یَکْرَهُ أَنْ تَأْخُذَهَا أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِکَ!!
قال: یا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ هَذَا أَنْتَ فِی خُشُونَةِ مَلْبَسِکَ وَ جُشُوبَةِ مَأْکَلِکَ!!
قال: وَیْحَکَ إِنِّی لَسْتُ کَأَنْتَ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ أَنْ یُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ کَیْلا یَتَبَیَّغَ بِالْفَقِیرِ فَقْرُهُ.[3]
والاصرح من ذلک کله ما روی عن الامام الصادق (ع) أنه قال: "إِنَّ اللَّهَ یُحِبُّ الْجَمَالَ وَ التَّجَمُّلَ وَ یَکْرَهُ الْبُؤْسَ وَ التَّبَاؤُسَ، فَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَنْعَمَ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً أَحَبَّ أَنْ یَرَى عَلَیْهِ أَثَرَهَا. قِیلَ: کَیْفَ ذَلِکَ؟ قَال: یُنَظِّفُ ثَوْبَهُ وَ یُطَیِّبُ رِیحَه....".[4]
2. تصنف الدساتیر الصادرة من الشارع المقدس الى طائفتین: الاول التی تمثل الاصول المسلمة و الثابتة على مر العصور و الاجیال و لا تطالها ید التغییر أبداً و التی یجب على الجمیع امتثالها على مر العصور و فی جمیع البقاع؛ کالتوحید، النبوّة، العدل الالهی، قبح الظلم و وجوب اجتنابه و حسن العدل و الاحسان و الحث علیه.
هذه الطائفة تؤدى بنفس الصورة التی کانت فی عصر الرسول الاکرم (ص) و ستبقى على حالها الى یوم القیامة، فقد روی عن الامام الصادق (ص) أنه قال: " حَلالُ مُحَمَّدٍ حَلالٌ أَبَداً إِلَى یَوْمِ الْقِیَامَةِ وَ حَرَامُهُ حَرَامٌ أَبَداً إِلَى یَوْمِ الْقِیَامَةِ لا یَکُونُ غَیْرُهُ وَ لا یَجِیءُ غَیْرُه".[5]
أما الطائفة الثانیة فهی الدساتیر و الاوامر الدینیة التابعة للشروط الموضوعیة و الزمان و المکان، و هی متغیره بتغیر الاحوال و الازمان. و قد تعرض الائمة (ع) لبیان هذه القضیة و عالجوها و بینوا لاصحابهم انها من المتغیرات التابعة للزمان و المکان، روی أن سفیان الثوری دخل على أبی عبد الله الصادق (ع) فرأى علیه ثیابا بیضاء کأنها غرقئ البیاض، فقال له: إن هذا لیس من لباسک!!
فقال (ع): له اسمع منی و ع ما أقول لک، فإنه خیر لک عاجلا و آجلا إن کنت أنت مت على السنة و الحق و لم تمت على بدعة، أخبرک أن رسول الله (ص) کان فی زمان مقفر جشب فإذا أقبلت الدنیا فأحق أهلها بها أبرارها لا فجارها و مؤمنوها لا منافقوها، و مسلموها لا کفارها، فما أنکرت یا ثوری فو الله إنی لمع ما ترى ما أتى علی مذ عقلت صباح و لا مساء و لله فی مالی حق أمرنی أن أضعه موضعا إلا وضعته.[6]
و قد تعرض الشهید المطهری (ره) لهذا البحث قائلا: ان الاختلاف و التعارض الظاهری بین سیرة المعصومین (ع) بعضهم البعض، یحل من خلال ملاحظة ما ورد عنهم (ع) فی بیان ذلک، و الذی یستنتج منه أن من الدساتیر ما هو ثابت لا تسمه ید التغییر حتى قیام الساعة و منها ما هو متغیر بتغیر الظروف و الشروط الموضوعیة.
ولکن هذا لا یعنی عدم الاعتناء بالحالة العامة للمسلمین و مراعاة الوضع السائد فی المجتمع فی ذلک الوقت، فمن غیر المناسب عندما یکون عامة الناس یحیون حیاة الفرق و الفاقة، ترى البعض الآخر یعیش الرفاه المطلق و یرفلون بالنعم و الملذات تحت ذریعة التمسک بقوله تعالى " قُلْ مَنْ حَرَّمَ زینَةَ اللَّهِ الَّتى اخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّیِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ"[7] و ان کانوا قد حصلوا على المال عن طریق الحلال. فهذا الامام الصادق (ع) الذی وسّع على عیاله فی العیش- انسجاما مع الظرف العام فی عصره- و لکن عندما عمّ القحط المنطقة و زادت الاسعار فیها، قال لخادمه مُعَتِّب: " کمْ عندنا من طعامٍ؟ قال: قلت عندنا ما یکفیک أَشهراً کثیرةً! قال: أَخرِجهُ و بِعْهُ! قال: قلت لهُ و لیس بالمدینة طعامٌ! قال: بعهُ. فَلَمَّا بِعْتُهُ قال: اشتَرِ مع النَّاسِ یوماً بیومٍ. و قال: یا مُعَتِّبُ اجعلْ قوتَ عِیَالِی نِصْفاً شَعِیراً وَ نِصْفاً حِنْطَةً، فَإِنَّ اللَّهَ یَعْلَمُ أَنِّی وَاجِدٌ أَنْ أُطْعِمَهُمُ الْحِنْطَةَ عَلَى وَجْهِهَا وَ لَکِنِّی أُحِبُّ أَنْ یَرَانِیَ اللَّهُ قَدْ أَحْسَنْتُ تَقْدِیرَ الْمَعِیشَةِ"[8].[9]
3. جمیع ما مرّ یتمحور حول المؤمنین و کیفیة انتفاعهم بالنعم الالهیة، فقد روی عن الامام الرضا (ع) أنه قال: " المؤمن یعترض کل خیر لو قرض بالمقاریض کان خیرا له و إن ملک ما بین المشرق و المغرب کان خیرا له".[10]
وفی الختام نشیر الى نماذج من الناس الذین لم ینتفعوا بالنعم الالهیة على النحو الاحسن فاصبحوا موضعا للذم و التوبیخ:
روی عن الامام الصادق (ع) أنه: جاء رجل موسر إلى رسول الله (ص) نقی الثوب فجلس إلى جنب رسول الله فجاء رجل معسر درن الثوب فجلس إلى جنب الموسر، فجر ثیابه من تحت فخذیه! فقال له رسول الله: أ خفت أن یمسک من فقره شیء؟! فقال: لا. فقال: أ خفت أن یناله من غناک شیء؟! قال: لا. قال: فخفت أن یوسخ ثیابک؟! قال: لا. قال: فما حملک على ما صنعت؟ قال: یا رسول الله إن لی قرینا یزین لی کل قبیح و یقبح لی کل حسن، و قد جعلت له نصف مالی. فقال رسول الله (ص) للمعسر: أ تقبل؟ قال: لا. فقال له الرجل: و لم؟ قال: خوفا من أن یدخلنی ما دخل.[11]
اتضح من خلال ذلک أن الاستفادة من النعم و المواهب الالهیة لیس بالامر المستقبح بل من الجید أن یظهر الانسان آثار نعمة ربّه علیه و لکن شریطة الا تکون الملذات و النعم سببا فی جرّه للانغماس فیها و نسیان الله تعالى و حصول حالة من العجب و الغرور. فاذا تجردت من ذلک فلا بأس بها، بل قد تکون سببا فی تکامل الانسان و رقیه.
عناوین ذات صلة:
اللباس و الموضات الحدیثة فی المصادر الاسلامیة، 8734.
[1] الضحی،11.
[2] الکلینی ،محمد بن یعقوب، الکافی، ج 2، ص 94، ح 5، دار الکتب الإسلامیة ، طهران ،1365 هـ ش.
[3] نهجالبلاغة، ص 324، رقم 209.
[4]الحر العاملی، و سائل الشیعة، ج5، ص7، استحباب التَّجمُّلِ و کراهة التَّباؤُس، الحدیث رقم 5746، نشر مؤسسة آل البیت، قم، 1409هـ.
[5] الکافی، ج 1، ص 58، ح 19.
[6] الحسن بن شعبة، أبو محمد، تحف العقول، ج 1، ص 348، نشر جماعة المدرسین، قم 1404 هـ ق.
[7] اعراف، 32.
[8] الکافی ج : 5 ص : 166.
[9] مجموعه آثار الاستاد الشهید المطهری، ج 18، ص 44.
[10] فقه الرضا، ج 1، ص 360، مؤتمر الامام الرضا، مشهد، 1406هـ ق.
[11] الکافی، ج 2، ص 262، ح 11.