يلاحظ من خلال بعض المقامات العالية للمعصومين التي اشارت اليها الروايات الشريفة، أن بعض تلك المقامات لا تستوعبها النشأة المادية و لا تتحقق في هذا العالم المادي؛ فعلى سبيل المثال احاطة الامام في مقام خلافة الصفات الالهية هي من هذا القبيل. و من الطبيعي أن تلك المقامات ناظرة الى المراتب الباطنية للامام لا المرتبة الظاهرية، و لاريب ان شخص الامام يعتمد في كل نشأة ما يناسبها من المراتب المتوفرة لديه، و لا يداخل بين احكام تلك المراتب الوجودية.
الف: الامام الحي مرتبة جامعة بين الصفات البشرية و الالهية
المقامات السامية و العالية في الامامة (الامامة العامة) هي عين مقامات الانسان الكامل الذي عاش بين الناس بعد طي الكثير من الاسفار و السلوكيات المعنوية فوصل الى نهاية الكمالات. و هذا يشبه ما ذكره العرفاء في خصوص الكمّل من الاولياء، كذلك ذكر في مورد الائمة المعصومين ( الامامة الخاصة) بصورة اكمل كما نقرأ في الزيارة: «خلقكمُ اللَّهُ أَنواراً فجعلكم بعرشه محدقین حتَّى منَّ علینا بکمْ فجعلكمْ فی بیوتٍ أَذن اللَّهُ أَن تُرفع و یذکر فیها اسمه».[1]
فالامام في أسمى مقاماته هو في الظاهر بشر له باطن واصل الى الحق (سواء كانه وصوله الى الحق من الاول ثم بعد ذلك خرج الى الفعلية، أم
أنه وصل الى ذلك من خلال السلوكيات و النشاطات العبادية و الحركات التطهيرية التي قام بها). و من هنا تجد الامام متوفراً على جميع مراتب الكمال الظاهرية و الباطنية.
و أول ما يواجهه الباحث عن معرفة المعصوم و الطالب له هو البعد الظاهري المشهود و المحدود بالزمان و المكان اللذين يعيش فيهما الامام (ع) لاجل هداية البشرية و الاخذ بيدها الى الصلاح من خلال هذا الطريق، و الحال أن الامام يتوفر في بعده الباطني على أسمى المراتب و الدرجات و يقف على قمة في سلسلة المخلوقات.
فالامام في بعده الباطني ليس انسانا عاديا و ليس محصورا في دائرة ضيقة. و بعبارة أخرى، الانسان العادي بعد الوصول الى تلك المقامات و المراتب السابقة يخرج عن كونه انسانا عادياً؛ بمعنى أنه في الوقت الذي يعيش في اطار الزمان و المكان ظاهراً هو في باطنه أسمى و أرفع من تلك الحدود.
و لعل الامور التي أدت الى انحراف الكافرين عن جادة الحق و عدم ايمانهم بالانبياء و الائمة، تكمن في هذه النقطة و هي أنهم تصوروا أن الامام لما ادعى مظهرية الباري تعالى في قالبه المادي المحدود فلابد ان يكون في بعده المادي ذا طابع ماورائي لا يخضع لجميع الحدود و القيود (و ان كان كذلك حقا).
فالقالب البشري للامام قبل بتلك المحدوديات و لم يخرج منها الا في بعض الاحيان التي اقتضتها شروط المعجزة؛ و الا لا يتمكن أحد من الحاق الاذى بالامام مهما كان ذلك فلا يؤسر و لا يقتل و... فالامام (ع) مكلف بهداية البشرية و نجاتها من الضلال فلابد أن يعيش معهم في ضمن تلك الدائرة التي يعيشون فيها، و هذا ما زاد في عظمة الائمة (ع) لا انه يعد نقضا لتلك العظمة، و إن لم يدرك ذلك من أعشت بصره الماديات و لم يتجاوز في نظرته ما تدركه الابصار.
و هناك من كفر لانه رأى النبي أو الامام (ص) يعيش الفقر المادي بل قد يكون من أفقر الناس و يراهم قد تعرضوا لانواع البلاء و السجون و الغربة من قبل بشر من نفس جنسهم فلو كان خارج هذه الدائرة لما تعرضوا لكل ذلك حسب زعمه!!
و هناك من اطلع على المقامات الباطنية للائمة (ع) بنحو اجمالي مما انجر بهم الى سلوك طريق الغلو و المغالات فيهم (ع) حيث ظنوا أن بدن الائمة لا يشعر بالاذى و لا يتحسس الالم أبداً و أنه خارج عن اقتضاءات البشر، و بهذا انكروا عظيم مقام الاختيار و الانتخاب عند الائمة عليهم السلام.
ب: احاطة الامام بما وراء الزمان و المكان في عين حضوره في الزمان و المكان
يلاحظ من خلال بعض المقامات العالية للمعصومين التي اشارت اليها الروايات الشريفة، أن بعض تلك المقامات لا تستوعبها النشأة المادية و لا تتحقق في هذا العالم المادي؛ فعلى سبيل المثال احاطة الامام في مقام خلافة الصفات الالهية هي من هذا القبيل. و من الطبيعي أن تلك المقامات ناظرة الى المراتب الباطنية للامام لا المرتبة الظاهرية، و لاريب ان شخص الامام يعتمد في كل نشأة ما يناسبها من المراتب المتوفرة لديه، و لا يداخل بين احكام تلك المراتب الوجودية. فعلى سبيل المثال الامام بجسده انسان يعيش مع سائر البشر، و لكنه في بعده الروحاني خارج عن حدود الكثرة المادية و مرتفع عنها فقد يكون في اكثر من موضع و يكون لكل واحدة من تلك المراتب احكامها الخاصة. و إن تحققت كل تلك المراتب في شخصية الامام المتكاملة و تمظهرت في شيء واحد.
فالعارفون بالامام حقيقة هم تلك الثلة من الناس التي اتصلت بالامام من خلال بعده الباطني و لم ينظروا الى الامام من هذه الزاوية الضيفة و المحدودة (الجسم المادي)، و هؤلاء هم الشيعة الحق الذين صارَت الْغيبَةُ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُشاهَدَةِ [2]؛ و ذلك لانهم وفقوا من خلال العرفان و المعرفة لادراك حضور الامام ببعده الباطني فارتبطوا به من خلال هذا البعد لا البعد المادي.
ج: أصحاب الاعراف و الجمع بين المقامات الارضية و الملكوتية
قال تعالى في كتابه الكريم: «وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ یعْرِفُونَ كُلاًّ بِسیماهُمْ وَ نادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَیكُمْ لَمْ یدْخُلُوها وَ هُمْ یطْمَعُونَ * وَ إِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمینَ»؛[3]
و طبقا للكثير من الروايات أن مقام الاعراف هو مقام الكمل من العرفاء و انه مطلق يمشل الائمة الاطهار (ع) و هو بين الجنة و النار، بل ارفع من ذلك.
من تلك الروايات:
الروايات التي دلت ضمنا على أن الآية استعملت في مادة الاعراف و العرفان و المعرفة، فقد جاء في مجمع البيان: « أن بكر بن عبد الله المزني قال: للحسن بلغني أنهم قوم استوت حسناتهم و سيئاتهم! فضرب الحسن يده على فخذه ثم قال: هؤلاء قوم جعلهم الله على تعريف أهل الجنة و النار يميزون بعضهم من بعض، و الله لا أدري لعل بعضهم معنا في هذا البيت»،[4]
و روي عن الامام الباقر (ع) أنه قال: « هم آل محمد علیهم السلام؛ لا یدخل الجنة إلا من عرفهم و عرفوه، و لا یدخل النار إلا من أنکرهم و أنکروه.«[5]
و روى العياشي عن الثمالي قال: سئل أبو جعفر (ع) عن قول الله: وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ؟ فقال (ع): «نحن الأعراف الذين لا يعرف الله إلا بسبب معرفتنا، و نحن الأعراف الذين لا يدخل الجنة إلا من عرفنا و عرفناه، و لا يدخل النار إلا من أنكرنا و أنكرناه، و ذلك بأن الله لو شاء أن يعرف الناس نفسه لعرفهم، و لكنه جعلنا سببه و سبيله و بابه الذي يؤتى منه».[6]
و رى العياشي ايضاً عن سلمان الفارسي أنه قال: سمعت رسول الله (ص) يقول لعلي (ع) أكثر من عشر مرات: «يا علي، إنك و الأوصياء من بعدك أعراف بين الجنة و النار، لا يدخل الجنة إلا من عرفكم و عرفتموه، و لا يدخل النار إلا من أنكركم و أنكرتموه».[7]
النتيجة:
أن جميع تلك الروايات تدل على أن الامام الحي في هذا المقام هو في مقام الاعراف و العرفان و ناظر الى الجنة و النار. و هذا المقام الجامع حسب المباني العرفانية هو آخر مراحل العرفاء بعد العودة من السفر من الحق الى الخلق، و الائمة المعصومون (ع) كانوا في هذا المقام و يشملهم الاطلاق ايضا.
و هدفنا من بيان هذا البحث هو أن المباني القرآنية في مقام الجمع بين مقامات الامام الارضية و الملكوتية، اشارت الى أن المقام الجامع هو مقام الاعراف. و هذا ما يحتاج الى الكثير من التفصيل الذي لا يسع المجال له هنا.
فالامام في عين اشرافه على عالم المادة، بل على عالم البرزخ، إلا انه ليس بمأمن من التبعات السيئة لعالم المادة، فالامام يعيش هذا العالم باخيتاره ليكشف عن مدى عظمته و تسليمه للباري تعالى و هذا من أرفع المقامات الالهية للإمام.
[1] الشیخ الصدوق، من لایحضره الفقیه، ج2، ص 613. انتشارات جامعة مدرسین، قم.
[2] «اَلْمُنْتِظرونَ لِظُهورِهِ اَفْضَلُ اَهْلِ كُلِ زَمانٍ لانَّ اللهَ تعالي ذِكْرُهُ اَعْطاهُمْ مِنَ الْعُقولِ وَ الْاَفْهامِ وَ الْمَعْرِفَةَ ما صارَت بِهِ الْغيبَةُ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُشاهَدَةِ وَ جَعَلَهُمْ في ذلِكَ الزَّمانِ بِمَنْزِلَةِ الْمُجاهِدينَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ بِالسَّيْفِ اولئِكَ الْمُخَلَصونَ حَقّاً وَ شيعَتُنا صِدْقاً وَ الدُّعاةُ اِلي دينِ اللهِ سِراً وَ جَهْراً»، المجلسْ، محمد باقر، بحارالانوار، ج 5، ص 122، موسسه الوفاء، بیروت، 1409ق.
[3] الاعراف،46-47.
[4] الطبرسي مجمع البیان، ج 4، ص 653، انتشارات ناصر خسرو، طهران،1372 ش.
[5] بحار الانوار، ج 8، ص 331.
[6] البحراني، السيد هاشم، البرهان في تفسير القرآن، ج2، ص: 554، نشر مؤسسة بعثة، الطبعة الاولى، طهران، 1416هـ.
[7] البرهان في تفسير القرآن، ج2، ص: 553.