جاء في كتاب الله المجيد في وصف الباري تعالى " لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَ هُوَ اللَّطيفُ الْخَبيرُ"[1] و مدرك على وزن "فاعل" اسم من اسماء الله تعالى.[2] كذلك ورد في القرآن الكريم و الروايات توصيف الله تعالى بالمُدرك،[3] و صفة "مُدرك" في الرواية تأتي بنفس المعنى الذي ورد في الآية الشريفة " یُدْرِكُ".
و قد وقع البحث بين المتكلمين حول صفة الادراك هذه و اختلاف الآراء فيها، من هنا نحاول الاشارة الى ما ذكرة الشيخ السبحاني في كتاب الالهيات:
قد عدّ بعض المتكلمين الإِدراك من صفاته، و المدرِك بصيغة الفاعل من أَسمائه، تَبَعاً لقوله سبحانه: «لَّاتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ».
و لا شك أَنَّه سبحانه بحكم الآية الشريفة مُدْرِك، لكن الكلام في أنَّ الإِدراك هل هو وصف وراء العلم بالكليّات و الجزئيات؟، أو هو يعادل العلم و يرادفه؟، أو هو عِلْم خاص و هو العِلم بالموجودات الجزئية العَيْنِيّة، فإِدراكُه سبحانه هو شهود الأَشياء الخارجية ووقوفه عليها وقوفاً تاماً؟.
يقول العلامة الطباطبائي: الأَلفاظ المستعملة في القرآن الكريم في أَنواع الإِدراك كثيرة ربما بلغت العشرين كالعِلْم والظَّن و الحُسبان و الشعور و الذِكر و العِرفان والفَهْم و الفِقْه و الدِراية و اليقين و الفِكر و الرَأي و الزَّعم و الحِفْظ و الحِكْمة و الخِبْرة و الشَّهادة و العَقْل و يلحق بها مثل القَوْل و الفَتوى و البَصيرة.
و هذه الأَلفاظ لا تخلو معانيها عن ملابسة المادَّة و الحركة و التَّغيّر، غير خمسة منها و هي: العِلْم الحفظ و الحكمة و الخبرة و الشهادة. فلأجل عدم استلزامها النقص والفقدان استعملت في حقه سبحانه. قال تعالى: «وَاللَّهُ بِكُلّ شَيءٍ عَلِيمُ» [4]. و قال تعالى «وَ رَبُّكَ عَلَى كُلّ شَيءٍ حَفِيظٌ»[5]. و قال تعالى: «وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ»[6] و قال سبحانه: «إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ».[7]و قال تعالى: «أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلّ شَيءٍ شَهِيدٌ»[8].
و بذلك يظهر أنّ إدراكه سبحانه ليس شيئاً وراءَ ما جاءَ في هذه الآيات و عبّر عنه بالعليم و الحفيظ و الخبير و الحكيم و الشهيد. و الأقرب هو كونه بمعنى الأَخير (الشهيد)، فشهوده للموجودات و حضورها لدى ذاته و قيامُها به قيام المعنى الحرفي بالإِسمي، معنى كونه مدركاً للأَشياء «لَّاتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ».[9]
و الجدير بالذكر ان المتكلمين لم يختلفوا في جواز اطلاق الاسماء و الصفات التي ثبت ان الله تعالى اطلقها على نفسه، و المنع من اطلاق الصفات التي صرح الشرع بمنع اطلاقها عليه سبحانه، نعم، وقع الخلاف في الامور التي لم يصرح بالاذن فيها و لم يصرح بمنع اطلاقها على ذات الله تعالى، و بقيت كحالة برزخية بين المنع و الجواز. حيث ذهب بعض الاعلام الى نفي توقيفية الاسماء و الصفات؛ بمعنى أنه لا يشترط في إطلاق الصفة أو الاسم على الله تعالى وجودها في آية أو رواية، بل يكفي في كون الاسم أو الصفة غير موهم و يكون من الامور التي لا يستحيل وصف الباري بها. و في المقابل ذهب بعض الاعلام الى القول بتوقيفية الاسماء و الصفات و أنه لا يمكن وصفه تعالى الا بما جاء في الكتاب أو السنة الصحيحة. و هناك طائفة ثالثة ذهبت الى التفصيل بين الاسماء و الصفات فقالت بتوقيفية الاسماء دون الصفات.[10]
[1] الانعام، 103.
[2] السبحاني، جعفر، الإلهيات على هدى الكتاب و السنة و العقل، ج 1، ص 163، المركز العالمي للدراسات الإسلامية، قم، 1412 ق.
[3] من قبيل: «وَ اللَّهِ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ... الْمُدْرِكُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ وَ الْعَلَانِيَةَ»؛ الطوسي، محمد بن الحسن، تهذيب الأحكام، تحقيق و تصحيح: موسوي خرسان، حسن، ج 6، ص 319، دار الكتب الإسلامية، طهران، الطبعة الرابعة، 1407ق.
[4] النساء، 176.
[5] سبأ، 21.
[6] البقرة، 234.
[7] يوسف، 83.
[8] سورة فصلت: الآية 53، لا حظ فيما ذكرناه الميزان، ج 2، ص 259- 261.
[9] الانعام، 103؛ و انظر: الإلهيات على هدى الكتاب و السنة و العقل، ج 1، ص 163.
[10] پژوهشكده تحقيقات اسلامي، فرهنگ شيعة، ص 321، زمزم هدايت، قم، الطبعة الثانية، 1386ش؛ الطباطبائي، سید محمدحسین، المیزان في تفسیر القرآن، ج 8، ص 358 و 359، مكتب الاعلام الاسلامي، قم، الطبعة الخامسة، 1374ش.