ان مقولة "الزهد" وبساطة العیش من جملة الکمالات الاخلاقیة، والمراجع لمصادرنا الدینیة یجدها قد أهتمت بهذه المقولة کثیرا وأکدت علیها کثیرا فی معرض الحث على عدم التعلّق بالدنیا وزخرفها، ولکن - ولشدید الاسف- کان للافراط والتفریط - وعلى مرّ التاریخ - فی تفسیر الزهد وعدم الالتفات الى سنة النبی الاکرم (صلى الله علیه و آله) وسیرة الائمة الطاهرین (علیهم السلام) ، الأ ثر الکبیر فی تشویه الصورة الناصعة للزهد وبساطة العیش، یقول الامام الکاظم (علیه السلام) مشیرا الى ضرورة الوسطیة والتعادل فی النظرة الى الحیاة والدین ونوعیة العیش:
"لیس منا من ترک دنیاه لدینه، ودینه لدنیاه".
ثم اننا لو نظر الى الادیان والمذاهب الاخرى لا نجد دینا کالدین الاسلامی قد حث اتباعه على التطوّر والرقی وطلب المعرفة وکسبها والسعی العقلانی فی الحیاة.
ان هذه الظاهرة ثابتة وواضحة المعالم فی الکثیر من المتون الدینیة ولذلک نجد الاسلام وعلى مرّ العصور یحث على التطوّر والارتقاء والحداثة، وهذه سمة بارزة ونقطة مضیئة فی الفکر الاسلامی، ولکن هذا لا یعنی ان الاسلام حینما یحث على التطوّر والارتقاء وعدم ایقاف عجلة الحیاة وحبسها على السنن والعادات وسبل الحیاة القدیمة یعنی انه یحث على الحداثة فی بعدها الغربی اللامسؤول.
ثم ان هناک نکتة جدیرة بالاهتمام وهی: ان الرقی والتطوّر الذی یحث علیه الاسلام هو من النوع الذی لا یخلق من الانسان موجودا اسیرا للمیول والشهوات و الغرائز النفسیة ، بل یسعى الى تحریر الانسان وعتقه من ربقة المیول والاهواء.
اعطى الاسلام عنایة کبیرة لمقولة الزهد وبساطة العیش، ولقد أکدت المتون الدینیة فی مجال الحث على الزهد فی الدنیا وعدم الانجرار مع زخارفها وزبرجها وعدم الاسلاس والانقیاد للشهوات وجماح النفس فی میولها الدنیویة، من هنا خاطب القرآن الکریم النبی الاکرم بالقول:
(ولا تمدنّ عینیک الى ما متعنا به ازواجا منهم زهرة الحیاة الدنیا لنفتنهم فیه و رزق ربک خیر وابقى).[1]
یقول احد المفکرین الاسلامیین فی هذا الصدد:"انّ ازهار الدنیا لا تثمر لاحد، لأن عالم الطبیعة شدید البرودة فکلما اقتربت تلک الازهار من ان تعطی ثمارها و تینع، هبت علیها تلک الریاح القارصة واسقطتها من اغصانها وجعلتها هشیما تذروه الریاح".[2]
نعم، اننا نواجه وعلى مرّ التاریخ ظهور الکثیر من النظریات والآراء وظهور التفاسیر المختلفة لظاهرة الزهد والتقوى على المستوى الفردی والاجتماعی، ولشدید الاسف ترددت تلک التفاسیر والنظریات بین الافراط والتفریط ، وان هذه المقولة الدینیة فهمت فهما خاطئا وفسرت الآیات والروایات تفسیرا غیر صحیح، کما انّ سنة المعصومین وسیرتهم علیهم السلام قد أهملت فی هذا المجال، الأمر الذی ادّى الى تشویه الصورة الجمیلة لمفهوم الزهد وبساطة العیش، حتى انجر الامر الى ان اقترنت کلمة الزهد بالانزواء والانطواء والعزلة والابتعاد عن الناس و المدنیة و الحضارة والتطوّر و الرقی، و فهمت على أنها دعوة الى العبادة و الدعاء و الخلوة و الابتعاد عن مشاغل الحیاة!!!.
هذا هو ما یتبادر الى ذهن الانسان من مفهوم "الزهد" وسببه تلک التفسیرات الخاطئة التی دنست هذا المفهوم الملکوتی الذی لم یفهم على حقیقته، من هنا نرى الامام الصادق (علیه السلام) یقول: "لیس الزهد فی الدنیا باضاعة المال، و لا بتحریم الحلال، بل الزهد فی الدنیا ان لا تکون بما فی یدک اوثق منک بما فی ید الله عزّ وجل" [3]
وعن امیر المؤمنین (علیه السلام) انه قال: "الزهد کله فی کلمتین من القرآن، قال الله تعالى: "لکیلا تأسوا على ما فاتکم ولا تفرحوا بما آتاکم " [4]
اذا الزهد والتقوى یعنیان عدم التعلّق بالدنیا وزینتها وزخارفها وعدم التعلّق بالامور الفانیة والموجودات الدنیویة الزائلة والتقرّب من الملک الحق سبحانه وتعالى، الامر الذی یعنی راحة البال وخفة الجناح للعروج والرقی فی سماء الفضائل والملکات الانسانیة.
اذا عرفنا ذلک نتساءل هل التطوّر والنمو والتعلیم والتربیة والاستفادة من النعم الالهیة لسعادة الانسان تتنافى مع الزهد والتقوى وتمنع من تحققها؟
لو نظرنا الى الادیان والمذاهب کافة لا نجد دینا کالدین الاسلامی أولى العلم والمعرفة أهمیة کبرى وحث على طلب الرقی والتطوّر والازدهار العقلی.
الم یقل النبی الاکرم (صلى الله علیه و آله و سلم): " اطلب العلم ولو فی الصین"،[5] وقال أیضا: "طلب العلم فریضة على کل مسلم"[6]
وروی عن امیر المؤمنین (علیه السلام) انه قال: "العلم حیاة القلوب من الجهل، وضیاء الابصار من الظلمة".[7]
وهذا بیان واضح وصریح لمنزلة العلم وشأنه فی الفکر الاسلامی وحقارة الدنیا والتعلق بها.
اما بالنسبة الى العلاقة بین الدین والتطوّر ینبغی ان نقول: الملاحظ وعلى مرّ التاریخ الاسلامی ان الاسلام کان ولا یزال داعیا الى التطوّر والرقی والحداثة، الاّ ان ذلک لا یعنی أن الاسلام یدعو الى الحداثة بمفهومها الغربی Modernus وبما یستلزمه هذا المفهوم من لوازم وتبعات لاتنسجم مع الفکر الاسلامی وقیمه السامیة، بل الاسلام یدعو الى الحداثة والتطوّر والارتقاء بمعنى عدم ایقاف حرکة عجلة الحیاة على السنن والعادات والتقالید البالیة التی لا تستند الى أی دلیل عقلی أو شرعی، وعدم مواکبة العصر، فالاسلام یحث على مواکبة الحیاة والتطوّر مع الحفاظ على القیم الاسلامیة والثوابت الالهیة، وهذه نقطة مضیئة فی الفکر الاسلامی.
نعم هناک نقاط اشتراک بین الرؤیتین ، فعلى سبیل المثال یمکن الاشارة الى: الحث نحو الرقی والتوجه العلمی فی الفکر الاسلامی، الامرالذی یعد احدى رکائزالفکر الغربی ومثل الحداثة الغربیة، وکذلک الدفاع عن حقوق الانسان، العقلانیة، مداراة المخالفین واتباع الدیانات الاخرى، کل هذه القیم التی تعد من رکائز الحداثة الغربیة نجدها موجودة وعلى اکمل وجه فی الفکر الاسلامی، ومن هذه المثل أیضا التی اقتبسها الفکر الغربی من الاسلام مسألة الحریة الفکریة مجال المعرفة الدینیة واجتناب الجزمیة فی الاحکام.[8]
ولکن النکتة الجدیرة بالاهتمام هی انّ الاسلام حینما یحث على التطوّر والرقی انما یرید ان یحرر الانسان من الاهواء والمیول النفسانیة وان لا یجعل منه کائنا أسیرا للنفس وشهواتها، ومن هنا نشاهد أمیر المؤمنین(علیه السلام( یرى ان کلّ علم لا یؤیده العقل فهو ضلال وانحراف. قائلا:" کل علم لایؤیده عقل مضلة"[9]، وحینما نرى الاسلام یرى ان الانسان الذی یتساوى یوماه فهو مغبون، فانما یحکی هذا الفهم و المنطق عن الاهمیة القصوى التی یولیها الاسلام للتطوّر والرقی والحداثة.
ثم ان الروایات الواردة فی هذا المجال کثیرة جدا نقتطف منها:
قال الامام الصادق (علیه السلام): "العالم بزمانه لا تهجم علیه اللوابس".[10]
وعن امیر المؤمنین (علیه السلام) انه قال:
"حق على العاقل ان یضیف الى رأیه رأی العقلاء ویضم الى علمه علوم الحکماء".[11]
وعنه (علیه السلام): "التجارب لا تنقضی والعاقل منها فی زیادة".[12]
وعن الامام الکاظم (علیه السلام): " لیس منا من ترک دنیاه لدینه، ودینه لدنیاه".[13]
[1] طه: 131.
[2] جوادی آملی ، عبدالله، التفسیر الموضوعی للقرآن، مراحل الاخلاق فی القرآن، ص 172.
[3] المجلسی، بحارالأنوار ج 67 ص310.
[4] المصدر
[5] سید حمید الحسینی، منتخب میزان الحکمة، رقم الحدیث 4480.
[6] محمد بن یعقوب الکلینی، الکافی: 1/30/1.
[7] بحارالأنوار ج 1ص .171
[8] بازتاب اندیشه، مرکز الدراسات الاسلامیة لمؤسسة الاذاعة والتلفزیون، العدد 20 ص 21.
[9] عبد الواحد الامدی، غرر الحکم: ص 384.
[10] الحرانی، تحف العقول: 356.
[11] غرر الحکم: 384.
[12] المصدر:42.
[13] بحارالأنوارج 75 ص321