إن الرقیّة لا تنافی الکرامة الانسانیة، فکم من عبید نالوا على مقامات إنسانیة عالیة. و أما بقاء عنوان العبید على اولاد الکافر لیست عقوبة لهم حتى تنافی الآیة المذکورة أعلاه، بل هو لحرسهم و الحفاظ علیهم.
للاجابة عن هذا السؤال، بدایة لابد أن نؤکد بأن نظرة الاسلام تجاه العبید لیست بالشکل الذی لا یتلائم الکرامة الانسانیة، بل الاسلام یفضل العبد المؤمن على الحر غیر المؤمن. و هذا التفضیل قد أثار عجب الناس آنذاک کما أشارت الیه الآیة القرآنیة[1].
و لهذا ما کان للمولى أن یتعامل مع عبیده کیفما شاء بل لابد أن یحترم کرامته الانسانیة مهما کانت الظروف، و على سبیل المثال یقول الامام الصادق(ع) فی هذا الصدد:لا ینبغی قذف المملوک، و قد جاء فیه تغلیظ و تشدید. سأل رجل من الانصار رسول الله (ص) عن إمراة له قذفت مملوکة لها، فقال رسول الله: قل لها فَلْتُصَبِّر لها نفسها و إلا اقیدت منها یوم القیامة[2].
و هناک روایات کثیرة تدل على هذا المعنى.
فکان تعامل المسلم الحقیقی آنذالک مع العبد ـ الذی شارک بنفسه فی القتال مع المسلمین و أصبح عبداً بعد أن وقع أسیراً بیدهم ـ تعاملاً إنسانیاً و إسلامیاً فضلا عن أولاده الذین لم یقاتلوا المسلمین.
اما بالنسبة الى جواب سؤالکم ـ لماذا الحکم برقیّة اولاد العبید ـ فنقول إن الحکم برقیّة اولاد العبید لیست عقوبة لهم حتى تنافی الآیة الکریمة التی احتججت بها، بل علینا أن نبحث عن بواعث هذا الموضوع فی عرف العلاقات القائمة فی ذلک العهد بین أفراد المجتمع. و بامکانک دراسة المسألة بمقارنة العلاقات الأسریة، فعندما یولد الطفل و یفتح عینیه على الحیاة یجد علاقة متقابلة مع أبویه، و علیه فإن الأولیاء یجب علیهم تحمل مسؤولیة حضانة و نمو و تربیة الولید، و على الولد أیضا أن یخضع لإدارة الأبوین و ولایتهم فی الاسرة، و على قدر الامکان یتبع توجیهاتهم ما دامت لا تخالف الأوامر الشرعیة.
و بهذا التوظیف، یقی النظام الاسری و الاجتماعی من الانهیار و من ولادة من لا قیم له و لا قدرة له على إدارة شؤونه، فوفقاً لهذا النظام تنتقل ولایة من فقد أبویه الى قرابته.
و کذلک الحال فی العبد، فمع أن الاسلام یسعى لاستئصال بیع و شراء العبید و وضَعَ طرقاً مختلفة لتحققه، لکن حتى الوصول إلى الغایة المتوخاة لابد من وجود نظام یحتضن و یتکفل العبد، و کما نعلم أن مسؤولیة ولایة العبد و رعایته کانت على عاتق مالکه, و لذلک کان للعبد صلة و علاقة اجتماعیة مع أسرة المالک و عشیرته و أقربائه الى حد تبقى ـ الصلة و العلاقة ـ بین العبد و بین سیده و عشیرة السد و لم تنقطع حتى بعد عتقه، فکان إمّا أن یصبح بمنزلة المولى أو یبقى تحت رعایة و حراسة المعتق و أسرته.
فمن الواضح، أن قطع هذا الارتباط و الإعلان عن إعتاق أولاد العبید أجمع، کان یسبب فقدان القیّم لعدد کبیر منهم؛ و ذلک لفقدان الأسرة و العشیرة التی تحمیهم و ترعاهم من جهة، و عدم إلزام مالک الأب بالاهتمام و الرعایة بشؤون الابن إذا لم تدر تلک الحمایة نفعا للمالک، من جهة أخرى.
و على هذا الأساس، لم یقبل الإسلام بهذا النمط من إعتاق أولاد العبید، بل استطاع أن یکافح ذلک بوضع أحکام الحمایة و أحکام العتق و الکفارات، مضافاً إلى أنه حث على عتق العبد فی حال عدم وجود کفارة تحرره من العبودیة، و جعله عتقاً یطلب به المعتق مرضاة الله فقط[3]. و بذلک انتهى الأمر شیئاً فشیئاً الى زمان قضى فیه الإسلام على بیع و شراء العبید من دون أیة ضرر اجتماعی یصیب شریحة العبید بل تأقلموا مع المجتمع الإسلامی و أصبحوا لا فرق بینهم و بین باقی أفراد المجتمع.
و قد استنتجنا هذه الإجابة من بعض الروایات، منها ما ورد عن محمد بن مسلم عن الإمام الباقر أو الصادق قال: سألته عن الصبی یعتقه الرجل؟ قال نعم قد أعتق علی (ع) ولدانا کثیرة[4].
کما شاهدتم إن مضمون هذه الروایة تدل على جواز عتق الصبیان من العبید و لکن من جهة أکدت على توفر شروط العتق، منها قدرة العبید على إدارة شؤونه بعد أن أصبح حرا.
و منها ما ورد عن علی بن جعفر عن أخیه أبی الحسن موسى (ع) قال: سألته عن رجل علیه عتق رقبة و أراد أن یعتق نسمة أیهما افضل أن یعتق شیخا کبیر او شابا أجرد؟ قال: أعتق من اغنى نفسه الشیخ الکبیر الضعیف أفضل من الشاب الاجرد[5].
فلننتبه أن الامام الکاظم(ع) اعتبر الملاک فی اختیار الشیخ الکبیر هی قدرته على دوام الحیاة المکرمة، و بتعبیر آخر استمرار رقیّة الشباب و الصبیان مع وجود الاهتمام و الاعتناء بشؤونهم أفضل من إخلاء سبیلهم و هم لا قدرة علیهم بتوفیق إمرار معیشتهم، مما یسبب انسیاقهم إلى ارتکاب الجرائم من قبیل السرقة و ...
و الثمرة التی نستخلصها مما طرح فی هذا البحث، هی ان الاسلام برغم تأکیده على القضاء على نظام بیع و شراء العبید، بحیث اشترى أمیر المؤمنین (ع) من کد یده ألف مملوک ثم اعتقهم[6]، لکن لیس من المعقول التخلص من هذا النظام باستعجال و من دون تدبیر لأن هذا الأمر یضر بالمالک و یلحق ضرراً اجتماعیاً بالعبد أیضا، و هذا هو المبرّر فی الحکم بالرقیّة على ذریة العبید، فالحکم شرّع للحفاظ علیهم من الضرر لا لأجل فرض عقوبة على الذین لم یصدر منهم ذنبً. و الشاهد على هذا، أنک ترى فی تأریخ الاسلام انه لم یبق من العبید على رقیته جیلا بعد جیل ـ کما عبرت أنت فی سؤالک ـ إلا القلیل بل و قد لا نجد منهم أحداً، لأنه کیفما کان إن عتق عبدٍ فی جیلٍ یوجب تلقائیا عتق ذریته فی الأجیال القادمة.
طبعاً ربما نجد شخصاً من أولاد العبید من دون واسطة بینهم، مع أن له القدرة على إدارة شؤونه لکنه ما زال باق على رقیته، و لکن یجب الالتفات إلى أن القوانین الموجودة فی الإسلام و المجتمع البشری عامة و شاملة، و لا نستطیع أن نلغی القوانین التی وضعت لمصلحة عامة المجتمع بسبب استثناء و هو بقاء عدد معدود من اولاد العبید على الرقیّة مع القدرة على إدارة شؤونهم.