ان ارادة الناس فی مثل هذه الأسفار لا تتنافی مع کونهم قد طُلبوا من قبل الله و أولیائه بل ان السفر الذی یکون بارادة الزائر المقرونة بالطلب هو مثل من یذهب بارادة لضیافة قد دعاه الیها المضیّف، فإنه سیحظی یاحترام خاص، و لکن من الممکن أن یأتی الی هذه الضیافة أشخاص بارادتهم و لکن لا بدعوة مسبقة، فمن البدیهی ان مثل هؤلاء سوف لا یواجهون عادة بالاستقبال المناسب من قبل المضیفین.
للإجابة عن هذا السؤال ینبغی أن نعلم أولاً أنه و طبقاً لعقیدة الشیعة فإن الناس لیسوا مجبرین فی أفعالهم و تصرّفاتهم، فإن الله بعد أن أوضح الطریق الصحیح، أعطی للناس جمیعاً القدرة علی تحدید مصیرهم باختیارهم[1] و رغم ان البشر لا یمکنهم فعل أی شیء مهما کان صغیراً بدون إذن الله[2] و لکن الإرادة الإلهیة تعلّقت بأن یکون الإنسان مخیّراً فی انتخاب الخیر و الشر و ان الثواب و العقاب الاخروی یتحدّد علی هذا الأساس أیضاً.
و لهذا لا یمکننا أن نعتبر الحج و باقی أسفار الزیارات موضوعاً خارجاً تماماً عن ارادة الناس و مرتبطاً بالطلب فقط.
و لتوضیح هذه المسألة نلفت نظرکم الی نموذج مشابه یقع فی حیاتنا الیومیة:
افترضوا أن شخصاً کبیراً و محترماً قد أقام ضیافة کبیرة فی بیته، فالناس الذین یحضرون هذه الضیافة یمکن تصنیفهم الی عدة اصناف مختلفة.
1. ففریق منهم هم أصدقاء المضیّف و جاءوا لهذه الضیافة عن دعوة مسبقة، و من الطبیعی أن یقعوا مورداً للإحترام و توفّر لهم امکانیات أکبر و یُستقبلون بحفاوة من قبل المضیّف و یکون حضورهم فی هذه الضیافة موجباً لتقویة العلاقة و الحب بینهم، و سوف یغادر هؤلاء الضیوف المحلّ بکل احترام و تبجیل.
2. هناک مجموعة اخری تاتی لهذا المجلس الکبیر أیضاً من دون دعوة مسبقة، فإن کان صاحب المجلس إنساناً کریماً و سخیّاً فإنه سیُکرم هؤلاء بحسب القدرة و الإمکان.
3. و قد یحضر أشخاص لا لأجل الحب و المودّة لصاحب المجلس و لا بدعوة مسبقة منه، بل لأجل ان یُعلم بأنهم یتمتعون بموقع اجتماعی جیّد و لذلک یوحون للاخرین بانهم قد دعوا ایضا، و یسعون دوماً الی حشر أنفسهم بقرب المضیّف و ان یفخروا علی الآخرین بمعرفتهم به. و من الطبیعی أن یتعامل المضیّف مع مثل هؤلاء المرائین الذین لا هدف لهم سوی التفاخر ببرود و عدم مبالاة.
4. و یمکن أن یفرض أخیراً أن یدخل فی هذه الضیافة أفراد هدفهم إثارة البلبلة فی المجلس و مثل هؤلاء لیس فقط لا منزلة لهم عند المضیّف بل هم یؤذونه و یسببّون الحرج له.
دققوا فی أن جمیع الأشخاص المذکورین قد جاءوا بارادتهم الی هذه الضیافة،و الفارق بینهم هو أن بعضهم جاء بدعوة و طلب من قبل المضیّف و البعض الآخر لم یحظ بمثل هذا الامتیاز. و یمکن فرض نفس هذا التقسیم فی مورد السفر الی مکة و المدینة و باقی العتبات العالیات أیضاً و ذلک:
1. ان بعض الأشخاص بسبب ارتباطهم القویّ و المحکم بالله و أولیائه، فإنهم یکونون مورداً لعنایة خاصة منهم، و تتوفّر لهم الظروف المناسبة لمثل هذه الأسفار القیّمة و ترتفع الموانع أیضاً، و کثیراً ما نشاهد بعض الأفراد کانوا من المحبّین الخلّص لله و رسوله و أهل بیته و یرغبون فی أداء فریضة الحج و باقی الزیارات أیضاً، و لکنهم یعیشون بظروف مادیة أو جسمیة و ... بحیث یکون تحویل أمانیهم الی الواقع شیئاً قریباً من المحال!
و لکن مع هذا تتوفر لهم فجأة فرص من حیث لا یحتسبون و یوفقون لمثل هذه الزیارة. و من الطبیعی أن نتیقّن بأن هؤلاء قد طُلبوا من قبل الله و أولیائه و ان هذا الطلب هو الذی تسبّب فی توفیر الفرص التی تمکّن هؤلاء من أن یسیروا فی هذا الطریق بارادتهم.
و علی هذا الأساس فإن الطلب و ارادتهم یقعان فی صعید واحد، لا أنهما متضادان. فمثل هؤلاء الأشخاص المؤمنین حتی لو لم یوفّقوا للحج و الزیارة فی الظاهر فإن الله تعالی یثیبهم بسبب نوایاهم الخاصة. و کمثال علی ذلک فإن الإمام الحسن العسکری(ع) و بسبب کونه محکوماً بالاقامة الجبریة فی معسکر للجیش فی سامراء و لم یأذن له حکّام ذلک العصر بالسفر فلم یوفّق فی الظاهر لزیارة بیت الله و أداء مناسک الحج و لکن من البدیهی ان هذا لم ینقص من شأن و منزلة و أجر ذلک الإمام العظیم.
2. أحیاناً تکون الدوافع التجاریة أو السیاحیة و ... هی التی توجب ارادة بعض الأفراد الآخرین للسفر الی الأماکن المقدسة. ان مثل هؤلاء الأشخاص کمثل الضیوف غیر المدعوین الذی حضروا الی هذه الضیافة فهم رغم عدم تمتعهم بالقرب و المنزلة التی هی للفریق الأول و لکنهم إذا راعوا حرمة المضیّف و تجنّبوا سوء التصرف فی هذه الأمکنة، فإنه یمکنهم أن ینالوا بعض المنافع المعنویة الی حدّ ما.
3. و العامل الثالث الذی یمکنه أن یحقّق ارادة السفر الی أماکن الزیارة لبعض الأشخاص هو الدوافع الناشئة من وساوس الشیطان، کأن یعتبرهم الناس متدیّنین أو ولائیین أو أن تضاف الی أسمائهم القاب مثل (الحاج) و (الکربلائی)، أو مجرد المنافسة و المراءاة لجیرانهم أو أصدقائهم الذین تشرّفوا بالذهاب الی هذه الأمکنة.
و من الطبیعی انه لا یمکن لمثل هؤلاء أن یتوقّعوا لطف الله و عنایته، لأن عنایة الله تتعلّق بالحجّاج الذین یقصدون رضاه فقط.[3] و ان جمیع الوعود التی جعلت لزوّار کربلاء مختصّة بالأفراد غیر المرائین و غیر طالبی السمعة.[4]
بل انتفاع مثل هؤلاء المرائین من هذا السفر لیس هو سوی الوصول الی تلک المنافع الرخیصة.
4. و اخیراً هناک فریق رابع یأتی الی هذه الأماکن المقدّسة بقصد الفتنة و إحداث الفوضی بین الزائرین، فیقومون أحیاناً بطرح الشبهات و التصرّفات غیر المناسبة سعیاً لإزالة الدوافع المعنویة للزائرین، و أحیاناً یُقدمون عملیاً علی تخریب و ازالة هذه الأماکن، و من البدیهی ان مثل هؤلاء لا یمکن أن یکونوا مورداً لطلب الله و المعصومین(ع)!
و یقول الله تعالی فی هذا الصدد " إِنَّ الَّذینَ کَفَرُوا وَ یَصُدُّونَ عَنْ سَبیلِ اللَّهِ وَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذی جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاکِفُ فیهِ وَ الْبادِ وَ مَنْ یُرِدْ فیهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلیمٍ ".[5]
و بمراجعة الأمور التی ذکرناها یمکننا أن نصل الی هذه النتیجة و هی انه یمکن للناس أن یحضروا الی هذه الأمکنة بدوافع مختلفة و کلّها ناشئة من إرادتهم ، فکما نشاهد النبی(ص) و باقی الأولیاء یطوفون حول الکعبة لجلب رضا الله، نشاهد أمثال معاویة و یزید أیضاً یطوفون نفس هذا المسیر فی الظاهر الی جنب بیت الله، و لکن أین هذا من ذلک!
و لقد کانُ مرقد سید الشهداء الحسین بن علی(ع) أیضاً منذ البدایة مقصداً و قبلةً للعاشقین الإلهیین، و لکنّا رأینا فی زماننا مجرمین من أمثال صدام المقبور أیضاً یذهب أحیاناً الی هذا المرقد للزیارة و یصدر فی حین آخر بکل وقاحة أمراً بضربه و تدمیره.
و کل ذلک یشیر الی هذه الحقیقة و هی انه لا یمکن اعتبار حضور جمیع الأشخاص فی الأماکن المقدّسة ناشئاً من کونهم طلبوا، و علی هذا الأساس فجوابنا عن سؤالکم هو انه لابدّ من ارادة فی مثل هذه الأسفار علی أی حال، و بدون هذه الإرادة لا تتحقّق الزیارة، و لکن إذا کان الدافع لهذه الإرادة إلهیّاً خالصاً، فهو دلیل علی کون الشخص مطلوباً و انه یمکنه أن یجنی من سفره فوائد معنویّة کثیرة و بغیر ذلک سوف لا یختلف السفر الی مکة و العتبات العالیة عن باقی الأسفار.