صحیح أن الاحکام الاسلامیة الأولیة لاتجیز التعرض للمدنیین و قصف المناطق المأهولة بالسکان بل حتى غیر المأهولة کالمناطق الزراعیة فی أرض العدو، لکن لو اعتمد العدو هذا الاسلوب و لم یوجد طریق آخر لصده و ردعه حینئذ تقتضی مصلحة الدولة الاسلامیة و استنادا للاحکام الثانویة الرد بالمثل و لکن بشروط خاصة، وقد حدث هذا فی الحرب التی حملها النظام العراق على الجمهوریة الایرانیة رغماً عنا حیث تمادى البعثیون و استغلوا سعة صدر الدولة الاسلامیة لسنین طویلة مما اضطر المسؤولین العسکریین للرد بالمثل و لکن فی ادنى المستویات طبعا.
یمکن تفکیک السؤال المطروح الى محورین:
الاول: بیان الموقف الشرعی فیما اذا تترس العدو و هل یجوز الرد بالمثل؟
الثانی: هل حصل ذلک اثناء الحرب التحمیلیة التی شنها النظام العراقی علینا؟
اما بالنسبة الى المحور الاول: لابد من الاشارة الى ان الاحکام الاسلامیة تنقسم الى طائفتین هی الاحکام الاولیة و الاحکام الثانویة.
أما الاحکام الاولیة فلاتجیز التعرض للمدنیین من الطرف الآخر، و لکن لو انحصر الامر بذلک و اضطر المقاتل الاسلامی الى ذلک حیث لاطریق لردع العدو و الحد من تمادیة و خاصة اذا اتخذ هو هذا الاسلوب وسیلة للقضاء على الدولة الاسلامیة فحینئذ یمکن الاستناد الى الاحکام الثانویة و بشروط خاصة للرد علیه بالمثل. و لتوضیح ذلک بشکل اوضح نقول:
طبقا للتوصیات و الارشادات القرآنیة لایحق للمسلمین ان یعیشوا الحالة الانفعالیة، کما انه لاینبغی ان یؤدی الالتزام برعایة الاصول و الموازین الدینیة و الاخلاقیة الى انکسارهم و تعرض الدین للخطر بل علیهم الرد بالمثل و بالمستوى الذی تعرضوا له، فقد ورد فی قوله تعالى " فمن اعتدى علیکم فاعتدوا علیه بمثل ما اعتدى علیکم"[1] و ان التأمل فی الآیة المبارکة یکشف لنا عن نکتة دقیقة و هی أن القرآن الکریم عبر عن المقابلة بالمثل بالاعتداء یعنی التجاوز و هذا یعنی ان العمل فی نفسه تجاوز عن الحدود الالهیة الاولیة، و لکن ما الحیلة و قد فرضت علینا الظروف ذلک؟ و من البدیهی انما یصح القیام به فی الموارد التی لایکون فیها سحق لکرامة الانسان و هی محدودة بحدود الضرورة و المصلحة و فی مجال الدفاع المشروع و عدم وجود البدیل الآخر.
و على هذا الاساس، لایحق اعتماد اسلوب الرد بالمثل فی قضایا من قبل ابادة النسل و المثلة و التجاوز بعنف و ذلک لان الایة ارشدت الى أن ردت الفعل یجب ان تکون مقرونة بالتقوى و الخشیة من الله، من هنا نفهم ان الافعال الجنائیة لایمکن ان تدخل تحت عنوان الرد بالمثل لان جواز الرد بالمثل انما شرع من اجل مصلحة المسلمین و ردع العدو عن التجاوز علیهم، من هنا لابد ان تکون المقابلة محاطة بکمال التقوى و فی حدود الضرورة و المصحلة. و بعبارة اخرى یجب فی المقابلة مراعاة السیء و الاسوء. فقبل الرد لابد من توجیه التحذیر لغیر العسکریین و الطلب منهم مغادرة المکان و ارشادهم الى المناطق الامنة التی لاتتعرض للقصف؛ و هذا ما حدث فی الحرب حیث کانت الدولة ترشد المدنیین الى المناطق الامنة و خاصة المناطق المقدسة التی لم تتعرض للقصف طوال الحرب.
غیر موضوع المقابلة بالمثل فی التعامل مع المدنیین هناک موارد اخرى تنحصر بالضرورة و قد اشارت الیها الایات القرآنیة و سیرة الرسول الاکرم (ص)، منها:
الف: الحرب و قتل الناس فی الحرم المکی؛ طبقا للموازین الاسلامیة الاولیة لایجوز قتلهم و محاربتهم فی هذا المکان، لکن لو ان العدو بدأ بالحرب و اعلنها من هذا المکان المقدس، حینئذ تجوز محاربته لان فی السکوت علیه و السماح للمؤامرات و الفتنة و ترکها تسرح و تمرح خطر کبیر على الاسلام لایمکن تحمله "وَ اقْتُلُوهُمْ حَیْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَیْثُ أَخْرَجُوکُمْ وَ الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَ لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى یُقاتِلُوکُمْ فیهِ فَإِنْ قاتَلُوکُمْ فَاقْتُلُوهُمْ کَذلِکَ جَزاءُ الْکافِرینَ"[2]
ب: لایجوز التعرض للمحاصیل الزراعیة للعدو و لکن لو انحصر الامر بذلک جاز"ما قَطَعْتُمْ مِنْ لینَةٍ أَوْ تَرَکْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَ لِیُخْزِیَ الْفاسِقینَ"[3]
ان موضوع "التترس" او احتماء العسکریین بالمدنیین او الاحتماء بالاسرى و وضعوا دروعا بشریة امام الجیوش الاسلامیة هو الاخر من البحوث التی تعرض لها الفقهاء المسلمون، فقد ورد فی بعض المصادر الشیعیة: لو تترسوا بالنساء و الصبیان منهم و نحوهم ممن لا یجوز قتله منهم کالمجانین کف عنهم مع إمکان التوصل إلیهم بغیر ذلک ، إلا فی حال التحام الحرب جاز و إن استلزم قتل الترس، خصوصاً إذا خیف من الکف عنهم الغلبة، و کذا لو تترسوا بالأسارى من المسلمین و إن قتل الأسیر إذا لم یمکن جهادهم إلا کذلک.[4]
و نفس هذا التحلیل ورد فی الفقه السنی: اذا نشبت الحب و تترس العدو بالمسلمین بحیث یؤدی القصف الاسلامی الى قتلهم جاز ذلک اذا کانت فی مصحلة المجتمع الاسلامی لان فی فریضة الجهاد مصلحة أهم، و اذا لم یقم الجیش الاسلامی بذلک فان العدو سیتغلب على المجتمع الاسلامی و یقتل الجمیع بما فیهم الاسرى الذین کان قد تترس بهم؛ و لایوجد عاقل یمنع ذلک و یطلب ایقاف الحرب لانه تؤدی الى قتل المسلمین لان فی وقف الحرب مشاکل اکثر منها قتل هذه الدروع البشریة بالاضافة الى اندحار الاسلام و فناء سائر المسلمین؛ و لکن اصحاب النظرة الضیفة ترددوا فی ذلک من دون ان یتأملوا فی القضیة تأملا کافیاً.
و هناک مسالة اخرى اشار الیها بعض المحققین وهی ان الهدف من محاربة العدو القضاء هیبة جیوشه و کسرها؛ و هذا ما تقتضیة مصحلة المسلمین فاذا امتنع المسلمون عن حربه و اوقفوا الحرب معه فهذا سوف ینجر الى ان یستغل العدو ذلک و یسحم المعرکة لصالحه.[5]
اتضح من خلال ذلک انه لایوجد اختلاف بین المسلمین فی هذه القضیة.
اما الموضوع الثانی:
2- فی مقابل الحرکات العدوانیة التی قامت بها النظام العراقی السابق و قصفه للمناطق الاهلة بالسکان و حرقه للمزارع و الحقول فی ایران؛ فقد کان امام الجیش الاسلامی عدة اسالیب للحرکة منها:
الف: التسلیم للعدو و ترک الاراضی التی احتلها ثم الاعتراف رسمیاً بالاندحار و الهزیمة من اجل تجنیب غیر النظامیین عن القتل.
ب: الاستمرار بالحرب مع التحلی بالصبر و رباطة الجأش و عدم رد الفعل مقابل ما یقوم به العدو من قتل للمدنیین العزل و حصر المعرکة فی میادین القتال بین الجیشین.
ج: الرد بالمثل على المناطق المدنیة للعدو و عدم السکوت عن قتل النساء و الاطفال العزل من ابناء شعبنا.
لاشک انه لایمکن القبول بالاسلوب الاول، و لایوجد ای عاقل یحب الدین و الوطن یرتضی بهذا الاسلوب؛ فعلى فرض اعطاء القوات المعتدیة هذا الامتیار فما هی الضمانة فی ان یستغل نفس العدو او غیره هذا الاسلوب و الهجوم على بلادنا مستغلا استسلامنا له و عدم المقابلة معه؟!
اما الاسلوب الثانی، ففی الحقیقة انه اعتمد من قبل المسؤولین فی الجیش الاسلامی لکن لم یثمر نتیجة صحیحة بل نتیجته ان العدو البعثی قد تمادى فی غیه مستغلا هذا الخط الاحمر فوسع من حملاته على المناطق الاهلة بالسکان مما ادى الى وقوع اضرار کبیرة على المستوى الاقتصادی و الانسانی و الامنی حیث سلب الامن فی المدن و الحال ان المدن العراقیة تعیش الامن و الاستقرار حتى اقرب المناطق الینا و التی تقع فی مرمى جیوشنا مثل مدینة البصرة. و لاشک ان الاستمرار بهذا الاسلوب قد یؤدی –یقیناً- الى اندحارنا امامهم؛ من هنا اضطر القادة العسکرون بالرغم من عدم رغبتهم بذلک للرد بالمثل و قد سعى القادة الى ان تکون الخسائر فی صفوف العراقیین بالحد الادنى. و هذا اسلوب لایمکن ان یتجاوزه القائد العسکری أی کان.
علما ان کل ما قتل بسبب القصف الایرانی للمدن العراقیة لایساوی شیئا قیاسا اذا ما قیس بما اقترفه النظام الصدامی بحق ابناء شعبه فی قصفه لمدنیة حلبجة بالاسلحة الکیماویة و کذلک بالنسبة الى المؤمنین من العراقیین الذی اعدموا على ید النظام البعثی سنة و شیعة و عربا و اکرادا مما یکشف عن الوجه الدموی للنظام العراقی السابق.
انظر السؤال رقم 1315 (الموقع: ).