کما أن النهار و النور آیة من آیات الله تعالى، فإن اللیل و الظلام هو آیة من آیات الله، یقول تعالى: «و جعلنا اللیل و النهار آیتین فمحونا آیة اللیل و جعلنا آیة النهار مبصرة» و معنى الجعل فی الآیة الخلق و الإیجاد. و حیث إن کلمة «الخلق» مشتقة من «الثوب الخلق» و لوحظ فی معناها الترکیب من أشیاء مختلفة. و أن النور و الظلمة لم یوجدا من ترکیب و مزج شیءٍ بشیءٍ لذلک عبر عن النور و الظلمة بـ «الجعل» بدلاً من «الخلق»، و لعل التعبیر عن السموات و الأرض «بالخلق» من هذا القبیل باعتبار أن الترکیب و المزج من عدة أشیاء داخل تکوینهما. لذلک اختصهما بهذا التعبیر.
إضافة إلى وجود العدم المضاف إلى جانب العدم المطلق، و المراد العدم المضاف إلى الوجود، کعدم السمع و عدم البصر... و السمع و البصر أمران وجودیان، و لذلک فعدمهما قابل للتصور تبعاً لهما. فنحن لا نجد عناءً فی تصور شخصٍ مبتلى بعدم السمع، و هذا غیر قابل للتصور لو لا أن عدم السمع مضاف إلى الوجود، و حیث یضاف العدم إلى الوجود یستفید من هذه الصفة. و لو کان الأمر عدماً محضاً لما کان قابلاً للتصور و جعل الظلمة من هذا القبیل، فإن الله یوجد الظلمة بمحو النور.
یقول تعالى فی الآیة الاولی من سورة الأنعام: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِی خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَ النُّورَ ثُمَّ الَّذِینَ کَفَرُوا بِرَبِّهِمْ یَعْدِلُونَ» و فی الآیة وجوه عدیدة قابلة للبحث و الدراسة.
1ـ معنى الظلمة و النور.
2ـ علة التعبیر عن النور بصیغة المفرد و عن الظلمة بصیغة الجمع.
3ـ معنى «الجعل»و اختلافه عن «الخلق».
4ـ و أخیراً بحث حول التفسیر العلمی للقرآن الکریم.
معنى النور و الظلمة:
«الظلمة» معناها عدم النور و جمعها ظلمات[1]. و لفظ مظلمون جاءت فی القرآن بمعنى الداخلین فی الظلام[2]. و کذلک وردت الظلمة فی تعابیر الفلاسفة بمعنى عدم النور، و قد جاءت عبارة ابن سینا عن الظلمة فی طبیعیات الشفاء على النحو التالی: «الظلمة عدم النور لمن له شأنیة النور» و نفس العبارة وردت فی کتاب التحصیل لبهمنیار و الحکمة المتعالیة لملا صدرا[3].
علة مجیء النور مفرداً و الظلمة جمعاً:
لم ترد لفظة «الظلمة» مفردةً فی القرآن الکریم على الإطلاق، و کلما جاء اللفظ من هذا الأساس اللغوی یأتی بصیغة الجمع أی «الظلمات»[4]. و قد ذکر دلیلان لتعلیل ذلک:
1ـ للإشارة إلى أن الهدایة من مصادیق الحق و الحقیقة، و الحق واحد، و لا یوجد أی اختلاف فی مصادیقه، خلافه للضلالة و إضاعة الطریق، فإن لها مصادیق متعددة و مختلفة، و ذلک لأن الضلالة ناشئة من السیر تبعاً لأهواء النفس و نوازعها المختلفة، و أن مصادیق الهوى و أفراده لا تنتمی إلى الوحدة لذلک یقول تعالى: «وَ أَنَّ هَذَا صِرَاطِی مُسْتَقِیمًا فَاتَّبِعُوهُ وَ لَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِکُمْ عَنْ سَبِیلِهِ»[5] فطریق الله واحد (صراط) و طرق الضلالة متعددة (سبل) و لذلک لم تأتِ کلمة صراط و حق بصیغة المثنى و لا الجمع فی القرآن الکریم على الإطلاق[6].
2ـ أو من جهة أن وجود الظلمة من عدم النور «فی الشیء الذی من شأنه النور» و الشیء الذی من شأنه النور ولا یحتویه فعلا سبب ذلک بعده و قربه من النور و باعتبار أن هذا البعد و القرب أمر قابل للاختلاف و التفاوت لذلک تعددت الظلمة. خلافاً للنور فإنه أمرٌ وجودی و لم یکن وجوده ناشئاً من قیاسه إلى الظلمة. و إذا ما قیل فی درجات النور و مراتبه «کقولنا نور الشمعة و نور الشمس.....» و إنها قیاساً إلى الظلمة فإن ذلک محض تصور، و هذا التصور لا یکون بعثاً و سبباً إلى التکثر الحقیقی للنور و لا التعدد الواقعی له[7].
معنى الجعل و اختلافه عن الخلق:
ذکرت للجعل عدة معانٍ[8]:
1ـ بمعنى صار.
2ـ بمعنى أوجد، کالآیة مورد البحث: «جعل الظلمات و النور».
3ـ بمعنى إیجاد شیءٍ من شیء آخر مثل قوله: «جعل لکم من الجبال أکناناً»[9].
4ـ تبدیل شیء بشیء آخر کقوله: «الذی جعل لکم الأرض فراشاً»[10].
5ـ الجعل بمعنى الحکم على الشیء و حمل المحمول على الموضوع «بحق أو باطل» مثل «جاعلوه من المرسلین»[11]. «و یجعلون لله البنات»[12].
و معنى الجعل فی الآیة المتقدمة هو الخلق و الإیجاد، و حیث إن کلمة خلق مأخوذة من «خلق الثوب» و معناها هنا یتضمن الترکیب من أشیاء متعددة، و إن النور و الظلمة لم یوجدا من ترکیب شیءٍ بشیء، لذلک استعاض بلفظ «الجعل» بدلاً عن «الخلق». و یحتمل أن یکون التعبیر بلفظ «الخلق» بالنسبة للسموات و الأرض من هذا القبیل باعتبار أن إیجادها یتضمن الترکیب لذلک اختصه بلفظ «بالخلق»[13].
هل أن العدم یقبل الجعل؟
کما بینا فی معنى الظلمة أنها تعنی عدم النور بالنسبة لشیء أو مکان یمکن أن یکون فیه نور، و هذا ما عبر عنه الفلاسفة باصطلاح «الملکة و عدمها»[14] کما یطلق على الإنسان الفاقد للبصر أنه «أعمى» و ذلک لأن من شأنه أن یکون مبصراً و لکنه الآن لیس مبصراً، و لکن من غیر الممکن أن تطلق صفة «العمى» على الحجر مثلاً. لأن الإبصار لیس من شأنه، فالظلمة تعنی عدم النور بهذا المعنى، أی لیس العدم المطلق، لأن العدم المطلق محض العدم و البطلان.
و إضافة إلى العدم المطلق یوجد عندنا العدم المضاف، و المراد به العدم المضاف إلى الوجود[15]. کعدم السمع و عدم البصر و... و السمع و البصر أمران وجودیان قابلان للتصور و عدمهما قابل للتصور تبعاً لهما. فنحن نستطیع تصور شخص غیر قادر على السمع و البصر بسهولة. و هذا لم یکن ممکنناً إلا من جهة إضافة العدم إلى الوجود، و لو أن العدم عدم محض لما أمکن تصوره، و کذلک الأمر بالنسبة لجعل الظلمة، فإن الله یوجد الظلمة بمحو النور.
التفسیر العلمی للقرآن الکریم:
فی القرن الرابع عشر و الخامس عشر الهجری ظهر نوع من أنواع التفسیر للقرآن الکریم باسم التفسیر العلمی، و هذا النوع من التفسیر جاء على إثر التقدم العلمی و الاکتشافات الحدیثة التی دخلت بلدان العالم الإسلامی.
و مع أن القرآن الکریم یحتوی على الکثیر من المطالب العلمیة التی تم التوصل إلیها بعد عدة قرون[16]. و لکن هذا الاتجاه من التفسیر ذهب إلى حدٍ بعید من الإفراط[17]، و من أبرز هذه التفاسیر «الجواهر فی تفسیر القرآن الکریم» للطنطاوی «الجوهری». و قد سعى الکثیر من هؤلاء المفسرین إلى تطبیق التقدم و معطیات العلم فی الغرب على الموازین و المقاییس الإسلامیة[18].
و حیث إن معطیات التجربة قابلة للنقض، و أن العلم یکشف فی کل یوم ظاهرة جدیدة، و کثیراً ما یحکم على بطلان نظریاته السابقة و لذلک لا بد من تحری الدقة فی تطبیق مکتشفات العلم و معطیاته على الآیات القرآنیة، حتى لا یؤدی إبطال النظریة العلمیة إلى إلحاق الخدش بالقرآن الکریم.
و المسألة التی أوردتموها فی الآیة المذکورة لیست من المقطوع به علمیاً.
إذن یشترط فی نسبة أی نظریة علمیة للقرآن الآتی، أولاً: أن تکون النظریة العلمیة مثبتةً بشکل قطعی «مثل جاذبیة الأرض»، ثانیاً: إن الآیات القرآنیة قابلة للانطباق علیه بشکل واضح و جلی لا لبس فیه.
[1]راغب الأصفهانی، المفردات فی غریب القرآن، ج1، ص 573، کلمة «الظلمة».
[2]«فإذا هم مظلمون»، یس، 37؛ الطربحی، مجمع البحرین، ج6، ص 108، الناشر مرتضوی، طهران، 1375.
[3]شرح المصطلحات الفلسفیة «برنامج نور الحکمة».
[4]البقرة، 257؛ المائدة، 16؛ الأنعام، 122، 39؛ إبراهیم، 1،5؛ الأنبیاء، 87.
[5]الأنعام، 153.
[6]نقلاً عن دروس التفسیر للأستاذ آیة الله جوادی الآملی؛ ترجمة تفسیر المیزان، ج 12، ص 6، منشورات جامعة المدرسین فی الحوزة العلمیة فی قم؛ الطنطاوی، التفسیر الوسیط، ج 5، ص 31،
[7]ترجمة التفسیر المیزان، ج7، ص 6.
[8]راغب، مفردات، ص 197.
[9]النحل، 81.
[10]البقرة، 22.
[11]القصص، 7.
[12]النحل، 57.
[13]انظر، ترجمة المیزان، ج7، ص 6.
[14]الطباطبائی، محمد حسین، نهایة الحکمة، المرحلة السابعة، الفصل السابع، ص149، نشورات جامعة المدرسین فی الحوزة العلمیة فی قم.
[15]المصدر نفسه، المرحلة الأولى، الفصل الرابع، ص21.
[16]المراغی، تفسیر المراغی، ج 30، ص 113، دار إحیاء التراث، بیروت، تفسیر الآیة: «خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافقٍ یَخْرُجُ مِنْ بَیْنِ الصُّلْبِ والتَّرائِبِ» و قد أشار إلى موارد الإعجاز العلمی فی هذه الآیة.
[17]علوی مهر، حسین، معرفة تاریخ التفسیر و المفسرین، ص 335، منشورات المرکز
لعالمی للعلوم الإسلامیة، قم، 1384.
[18]المصدر نفسه، ص 336.