التدقيق في التفاصيل المذكورة في الآيات و الروايات المرتبطة بقصة تقسيم الماء بين قوم ثمود و ناقة صالح يكشف أن أرض قوم ثمود حتى بعد خروج الناقة من جوف الجبل كانت أرضا زاخرة بالماء، و الذي أدى إلى طغيانهم على أمر الله و عقر الناقة لم يكن نتيجة أزمة قحط الماء على أثر تقسيمه بينهم و بين الناقة، بل كان السبب الرئيس هو روح اللجاجة التي لم تسمح لهم بالخضوع لهذا القانون الذي يوقف حق استعمال جميع مياه مدينتهم للناقة بين يوم و آخر، و يمنعهم من استخدامه، حتى و إن كانت الناقة في يومها تقضي جميع حوائجهم بلبنها. إن استعمال لفظ "الماء" في الآية 28 من سورة القمر للإشارة إلى مصادر الماء في ذاك البلد بدلا من ذكر كلمة "العيون" التي جاءت في الآية 147 من سورة الشعراء لا يدل على قلة الماء أبدا، و إنما يحكي عن أسلوبين في استخدام اللغة بحيث عبر في الآية الأولى عن مياه ذاك البلد كمجموعة منسجمة واحدة، و في الآية الأخرى عبر عنها ببيان التفاصيل والجزئيات.
لقد وفر قوم ثمود باستخدام النعم الطبيعية الغزيرة حياة رفاه و دعة لهم. كانت إحدى هذه النعم الطبيعية زراعتهم العامرة على أُثر وجود المياه الغزيرة في بلدهم. يصور القرآن غزارة مياههم بنقل حديث النبي صالح (ع) حيث خاطبهم و قال: (أَ تُتْرَكُونَ في ما هاهُنا آمِنينَ * في جَنَّاتٍ و عُيُون)[1]
تقنين الماء في أرض قوم ثمود
عندما بعث الله النبي صالح للنبوة إلى قوم ثمود و دعاهم إلى عبادة الله، أظهروا الشك و الريب في دعوته.[2] و بعد ما لم يستجيبوا لدعوته و تمردوا عليه بعد إصراره، قالوا له لن نؤمن لك إلا أن تخرج لنا ناقة من هذه الصخرة.[3] و إذا يتحقق هذا الطلب بقدرة الله و خرجت الناقة من بطن الصخرة لتصبح معجزة النبي صالح لقومه. و في سبيل أن يفهمهم بأن هذه الناقة معجزة من قبل الله تعالى قال لهم: (وَ يا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ في أَرْضِ اللَّهِ و لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَريب)[4] ثم أوحى الله إلى نبيه و قال له: (وَ نَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَر) [5] فوعى الناس أنه سيقنن الماء بعد ذلك بينهم و بين الناقة.
انسجام الآيات المشيرة إلى تقنين الماء في قرية ثمود و الآية التي تدل على كثرة الماء
إن قوم ثمود و في سبيل أن يتخلصوا من دعوات نبيهم و يعجزوه بحسب زعمهم، طالبوه بأن يسأل الله أن يخرج ناقة من بطن الصخرة. فأراد الله أن يظهر أحقية نبيه فأعطاه هذه المعجزة، و لكنه وضع شروطا و قوانين خاصة لهذه الناقة بسبب لجاجتهم و تذرعهم. يقول القرآن: (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ و اصْطَبِر)[6]. بعد ما بلغ النبي صالح رسالة الله إلى الناس، عرّف هذه الناقة كآية الله لهم و أمرهم أن يطلقوا سراحها لتأكل و تشرب كيف تشاء و لا يؤذوها فيصيبهم عذاب أليم.[7] فكان امتحان قوم ثمود هو إطلاق سراح الناقة و حريتها فيما تشاء و من جانب آخر المحدودية التي جعلها الله لهذا القوم بسبب تقنين الماء بينهم و بين الناقة في تلك الأرض. إذن لم يكن سبب تقنين الماء قلته، بل هو امتحان من الله تعالى.
جواب دعوى التعارض بين هاتين الفئتين من الآيات
قد يقال أن الآية التي أشارت إلى تقنين الماء بين قوم ثمود و ناقة صالح[8] تشير إلى قلة مصادر الماء في تلك القرية، و لولا ذلك فما السبب من إجراء سياسة التقنين؟
و على خلاف الآية التي تحكي عن العيون العزيرة في بلاد قوم ثمود،[9] لم یوجد ذكر للعيون الكثيرة في هذه الآية، بل اكتفت بلفظ "الماء" حكاية عن كل مصادر الماء التي في متناولهم.[10] إذن لابد من القبول بأن على الأقل هناك تعارض ظاهري بين هاتين الفئتين من الآيات، و يجب حله.
حل هذا التعارض الظاهري مرهون بمعرفة تفاصيل القصة. إن الآيات التي تناولت هذه القصة لم تتطرق إلى التفاصيل، سوى أن إحدى هذه الآيات تقول بأن الناقة كانت لها حصة معينة من مياه تلك الأرض.[11] ما یفهم من هذه الآية أن تقسيم الماء بين الناس و الناقة كان على أساس زمني و كان حق استقاء الناس من المياه في أيام محدودة. أما أنه كيف تمّ التقسيم و كم كانت نسبة حصة الناقة إلى حصة الناس، فهذا بحاجة إلى الرجوع إلى روايات أهل البيت (ع).
لقد ورد في رواية عن الإمام الصادق (ع) أنه أَوْحَى اللَّهُ تَبَارَكَ و تَعَالَى إِلَيْهِ أَنْ يَا صَالِحُ قُلْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لِهَذِهِ النَّاقَةِ [مِنَ الْمَاءِ] شِرْبَ يَوْمٍ و لَكُمْ شِرْبَ يَوْمٍ و كَانَتِ النَّاقَةُ إِذَا كَانَ يَوْمُ شِرْبِهَا شَرِبَتِ الْمَاءَ ذَلِكَ الْيَوْمَ فَيَحْلُبُونَهَا فَلَا يَبْقَى صَغِيرٌ و لَا كَبِيرٌ إِلَّا شَرِبَ مِنْ لَبَنِهَا يَوْمَهُمْ ذَلِكَ فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ و أَصْبَحُوا غَدَوْا إِلَى مَائِهِمْ فَشَرِبُوا مِنْهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ و لَمْ تَشْرَبِ النَّاقَةُ ذَلِكَ الْيَوْم.[12] إذن لم يرد في حديث أهل البيت كلام حول قلة الماء و ضجر الناس من هذا القحط، بل كان عدم ارتياحهم بسبب محروميتهم عن استقاء الماء بين يوم و آخر، و حتى هذا فليس بسبب عدم قضاء احتياجاتهم إذ كان لبن الناقة يكفي للجميع.
أما أن وصفت بلدة قوم ثمود بكثرة العيون في الآية 47 من سورة الشعراء، بينما جاء الآية 28 من سورة القمر لفظ "الماء" ففي الواقع هذا بسبب استخدام مختلف الأساليب في البيان. يعني تم التعبير عن مصادر المياه في هذه البلدة في مكان ببيان التفاصيل التي كانت عبارة عن عيون غزيرة، و في مكان آخر أشير إليها بشكل مجمل و عنوان "الماء" العام. بعبارة أخرى عنوان الماء بما هو ماء يشمل حتى العيون الغزيرة فلا بأس أن يكون الماء المذكور في الآية 28 من سورة القمر مشيرا إلى ماء تلك العيون المذكورة في الآية 147 من سورة الشعراء. و تؤيد هذا التحليل الآية 12 من سورة القمر حيث استخدمت عبارتي "عيون" و "الماء" معا: "وَ فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلىَ أَمْرٍ قَدْ قُدِر" حیث ذكر "الماء" فيها للتعبير عن جميع مياه العيون و الماء الذي يمطر من السماء. إذن لا ينبغي أن نعتبر استخدام هذا اللفظ في توصيف أرض ثمود، دليلا على قحط الماء و نجعله معارضا للآيات التي أشارت إلى وجود العيون في تلك البلدة.
[1] .الشعراء، 147-146.
[2]. هود، 62-61.
[3].الكليني، محمد، الکافي، ج 8، ص187، ح 214، دارالکتب الإسلامیة، طهران، 1365 ه ش.
[4]. هود، 64.
[5]. القمر، 28.
[6]. القمر، 27.
[7]. الأعراف، 73؛ هود، 64؛ الشعراء، 156.
[8]. القمر، 28.
[9]." فی جنات و عیون"، الشعراء، 147.
[10]. "و نبئهم أن الماء قسمه بینهم"، القمر، 28.
[11]. الشعراء، 155.
[12] الكافي، ج 8، ص 187، ح 214.