أحد أساليب البيان في آيات القرآن هو أسلوب الإجمال و التفصيل. فمن بين الآيات التي تناولت قضية عقر ناقة صالح، ثلاث آيات نسبت العقر إلى جميع غير المؤمنين من قوم ثمود، و آية واحدة نسبت ذلك إلى مستكبري هذا القوم، و هناك آية تشير إلى أن القاتل شخص واحد. فالقرآن بغير الآيتين الأخيرتين قد أشار إلى قاتل الناقة على سبيل الإجمال و بدون ذكر التفاصيل. و الآية التي ألقت مسؤولية الجريمة على المستكبرين، في الواقع قد أشارت إلى الفريق المخطط و الداعم المالي و السياسي للعملية، و الآية الأخرى قد أشارت إلى المنفذ الأخير للعملية. فنسبة عقر الناقة إلى جميع غير المؤمنين من قوم ثمود بسبب أنه على أساس المعارف الدينية كل من رضي بفعل، فهو شريك في ذاك العمل عند الله، سواء أكان ذاك الفعل خيرا أم ذنبا كبيرا. و تؤيد هذه الحقيقة بشأن قوم ثمود، روايات أهل البيت (ع) و كلام أمير المؤمنين في الخطبة 201 في نهج البلاغة.
نستطيع أن نقسم الآيات المرتبطة بقضية عقر ناقة صالح إلى محورين أساسيين:
المحور الأول هو الآيات التي نسبت عقر ناقة صالح إلى القوم لا إلى شخص خاص. و هي عبارة عن الآية 77 من سورة الأعراف؛ الآية 65 من سورة هود؛ الآية 157 من سورة الشعراء و الآية 14 من سورة الشمس.
المحور الثاني هو الآية التي أشارت إلى عقر الناقة بصيغة المفرد، و بالتالي نسب العقر فيها إلى شخص واحد. و هي الآية 29 من سورة القمر.
كما يمكن تقسيم آيات المحور الأول إلى فئتين:
1ـ الفئة الأولى هي الآيات التي بحسب ظاهرها و الآيات السابقة عنها ترجع ضمير الفعل إلى قوم ثمود. و هي عبارة عن:
أ ـ الآية 65 من سورة ثمود (باعتبار الآية 64، كلمة "القوم" هي مرجع ضمير الفعل المذكور في الآية 65).[1]
ب ـ الآية 157 من سورة الشعراء (باعتبار الآية 141، كلمة "ثمود" مرجع ضمير الفعل المذكور في الآية 157).[2]
ج ـ الآية 14 من سورة الشمس (باعتبار الآية 11، كلمة "ثمود" مرجع ضمير الفعل المذكور في الآية 14).[3]
لابد من الانتباه إلى هذه النقطة و هي أن لفظ القوم أو ثمود في هذه الآيات لا يشمل كل القوم برمتهم، إذ على أساس الآية 75 من سورة الأعراف و الآية 158 من سورة الشعراء، كان بينهم من آمن بصالح و باعتبار الآية 66 من سورة هود، لقد نجى هؤلاء ـ أو على الأقل أولئك الذين استقاموا على إيمانهم ـ من العذاب الإلهي، و ذلك بسبب عدم شركتهم في عقر الناقة.
2. الآية التي بحسب سياق الآيات السابقة عنها، يرجع ضمير فعلها إلى بعض قوم ثمود. و هي الآية 77 من سورة الأعراف و مع لحاظ الآية 76، يعود فعلها إلى مستكبري قوم ثمود.[4]
مقدمتان لإثبات انسجام الآيات أعلاه مع بعض
في النظرة الأولى إلى هذه الآيات الخمس قد يتبادر إلى الذهن أن هناك تعارض بينها في الظاهر على الأقل، إذ ثلاث آيات تشير إلى أن قوم ثمود جميعا قاموا بعقر الناقة، بينما تدل آية أخرى على عقرها من قبل المستكبرين، و أشارت آية إلى أن العقر تم على يد شخص واحد.
و لكن من خلال التدقيق و الإمعان في أجواء كل من هذه الآيات و المقارنة بينهم، نجد أنه ليس هناك أي تعارض بين هذه الآيات. و لكن قبل تبيين انسجام هذه الآيات مع بعض، لابد من الإشارة إلى مقدمتين:
1ـ أحد الأساليب اللغوية في أي لغة ـ و الذي ناجم من خصلة الارتباط و التواصل في اللغات ـ هو أسلوب "الإجمال و التفصيل". لقد شاهدنا جميعا هذه الحالة و هي أن المتكلم أو الكاتب قد يشير إلى موضوع بإجمال و من دون الخوض في تفاصيله، و تارة يذكره بتفصيل مع ذكر جميع تفاصيله. و أما دراسة الأسباب التي تحفز المتكلم لاختيار هذين الأسلوبين فيبحث في علم المعاني و البيان. و لكن المهم، هو إمكان استخدام هذا الأسلوب و وفوره بين أصحاب اللغات.
2ـ هناك أصل مسلم ديني ـ و قد عبر عنه البعض بأصل "العلاقة الدينية"[5] بمعنى أنه إن رضي أحد بفعل ذنب فهو لدى الله شريك بذاك الذنب.
ورد حديث عن النبي الأعظم (ص) أنه قال: مَنْ شَهِدَ أَمْراً فَكَرِهَهُ كَانَ كَمَنْ غَابَ عَنْهُ و مَنْ غَابَ عَنْ أَمْرٍ فَرَضِيَهُ كَانَ كَمَنْ شَهِدَهُ.[6]
و من أجل شرح هذا الحديث النبوي نستطيع أن نأتي بكلام أمير المؤمنين (ع). فبعد انتصار المسلمين في حرب صفين قال أحد أصحاب الإمام: ِ ودِدْتُ أَنَّ أَخِي فُلَاناً كَانَ شَاهِدَنَا لِيَرَى مَا نَصَرَكَ اللَّهُ بِهِ عَلَى أَعْدَائِكَ فَقَالَ لَهُ (ع) أَ هَوَى أَخِيكَ مَعَنَا فَقَالَ نَعَمْ قَالَ فَقَدْ شَهِدَنَا و لَقَدْ شَهِدَنَا فِي عَسْكَرِنَا هَذَا أَقْوَامٌ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ و أَرْحَامِ النِّسَاءِ سَيَرْعَفُ بِهِمُ الزَّمَانُ و يَقْوَى بِهِمُ الْإِيمَان.[7]
و هناك حديث عن الإمام الرضا (ع) يقول: َ لَوْ أَنَّ رَجُلًا قُتِلَ بِالْمَشْرِقِ فَرَضِيَ بِقَتْلِهِ رَجُلٌ بِالْمَغْرِبِ لَكَانَ الرَّاضِي عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ و جَلَّ شَرِيكَ الْقَاتِل.[8] و يؤكده قول أمير المؤمنين (ع) حيث قال: الْعَامِلُ بِالظُّلْمِ و الرَّاضِي بِهِ و الْمُعِينُ عَلَيْهِ شُرَكَاءُ ثَلَاثَة.[9]
من أجل إثبات الانسجام بين الآية 77 من سورة الأعراف التي أسندت العقر إلى مستكبري قوم ثمود، و بين الآية 29 من سورة القمر حيث أسندت الفعل إلى رجل واحد، و بين الآيات الثلاث الأخرى التي نسبت الفعل إلى جميع قوم ثمود، نستطيع أن نستفيد من المقدمة الأولى. بمعنى أن الآيات الثلاث الأخيرة قد أشارت إلى عاقر الناقة على سبيل الإجمال و اكتفت بذكر أن الناقة قد عقرت بين هذا القوم، و لكن الآيتين الأخرى تتطرق إلى تفاصيل الحدث. و الآن نتناول الآيتين لنحاول فهمها و مقارنتها معا.
هناك بعض المحاولات لبيان وجود الانسجام و عدم التعارض بين هاتين الآيتين و لكن يبدو أن أدق الآراء هو أن المستكبرين المذكورين في الآية 77 من سورة الأعراف هم المخططون و الداعمون لمؤامرة عقر الناقة، و أما الرجل المذكور في الآية 29 من سورة القمر فهو المنفذ لهذه الخطة و هو العاقر المباشر. و تؤيد هذا الرأي الآية 48 من سورة النمل حيث تشير إلى وجود تسعة فِرَق في المدينة يفسدون في الأرض و لا يصلحون. فباعتبار أن النبي صالح قد حذر القوم من الإفساد و الإيذاء و هدّد بالعذاب الأليم إن لم ينتهوا عن أفعالهم، لا يعقل أن تكون عقر الناقة عملية فردية، بل لابد أن يدعم هذا الإنسان ماليا و سياسيا. إذن يبدو أن هذا الاحتمال في محله بأن نقول أن هذه الفرق التسع و باعتبار قدرتهم و أموالهم قد خططوا لهذه المؤامرة و بعد ذلك أغروا هذا الرجل لتنفيذ الخطة. إذن الآية 77 من سورة الأعراف تتحدث عن المخططين و المبرمجين لهذه العملية و الآية 29 من سورة القمر تتحدث عن المنفذ المباشر لهذه الخطة.
و الخطوة الأخيرة هي المحاولة لفهم و تصديق الآيات الثلاث التي تنسب العقر إلى جميع القوم، إلى جانب الآيتين الأخيرتين. هنا نستطيع أن نستخدم المقدمة الثانية. و تؤيدها كلام أمير المؤمنين (ع) حول قول ثمود. فقد قال (ع) مشيرا إلى قضية عقر ناقة صالح: "… أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا يَجْمَعُ النَّاسَ الرِّضَا و السُّخْطُ و إِنَّمَا عَقَرَ نَاقَةَ ثَمُودَ رَجُلٌ واحِدٌ فَعَمَّهُمُ اللَّهُ بِالْعَذَابِ لَمَّا عَمُّوهُ بِالرِّضَا فَقَالَ سُبْحَانَهُ فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِين"[10] كما أشار بعض المفسرين إلى هذه النقطة و قال و إن عقر الناقة رجل واحد، و لكن باعتبار أن باقي القوم كانوا راضين عن الفعل و لم يمنعوه عن فعله، شاركوه في العقاب الأخروي و العذاب الدنيوي.[11]
[1]"... و یا قوم هذه ناقة الله".
[2] "... کذبت ثمود المرسلین".
[3] "کذبت ثمود بطغویها...".
[4] "قال الذین استکبروا...".
ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج 6، ص 585. [5]
[6] و سائل الشیعة، ج 16، ص 138،ح 21178.
[7] نهج البلاغة، الخطبة 12.
[8] و سائل الشیعة، ج 16، ص 139-138، ح21180.
[9] المصدر نفسه، ص140-139، ح 21182.
[10] نهج البلاغة، الخطبة 201.
[11] مجمع البیان فی تفسیر القرآن، ج 5، ص 265، طهران، انتشارات ناصر خسرو، 1372؛ المیزان فی تفسیر القرآن، ج 15، ص 308 قم، مکتب نشر جماعة المدرسين في الحوزة العلمية بقم، 1417 ق. و تفسیر الآمثل فی تفسیر کتاب الله المنزل، العنوان نفسه.