لقد استعمل العدل فی کلمات الفقهاء فی عدة معان. و قد ذهب أکثر الفقهاء و علماء الشیعة إلى أن العدالة ملکة و هی عبارة عن: "أن یکون الإنسان و بسبب خوفه من الله مجتنبا عن الکبائر و غیر مصر على الصغائر" و یعتقد البعض أن العدالة المعتبرة فی إمام الجماعة هی حسن الظاهر. لکن یرى عدة من الفقهاء أن العدالة بمعنى الثبات على الأصول. هنا إذا فسرنا العدالة بمعناها الأول: إذا کان هذا الشخص ملتزما بالأوامر و النواهی الإلهیة للمکلفین قبل بلوغه سن التکلیف، فمن الواضح أن تحرز عدالته بمجرد بلوغه سن التکلیف، و یحسن الاقتداء به عقلا و شرعا. أما إذا کان غیر مبال بالأوامر و النواهی الإلهیة قبل بلوغه، أو کنا جاهلین بذلک، عند ذلک لا یمکن أن نعتبر هذا الإنسان عادلا أو فاسقا بمجرد بلوغه، و لهذا لم یجز الاقتداء به. و إذا فسرنا العدالة بمعنى حسن الظاهر أو الثبات على الدین، عند ذلک من کان متظاهرا بالدین و حسن الظاهر فهو عادل و لا إشکال فی الاقتداء به حتى و لو کان حدیث البلوغ. أما إذا لم یکن کذلک و لم یکن له ثبات فی الدین أو لم یراع حسن الظاهر فلا یجوز الاقتداء به.
نقسم السؤال على قسمین:
أ. هل أن العادل بمعنى من یملک ملکة العدالة؟
ب. إذا کان معنى العادل هو من یملک هذه الملکة، فکیف یستطیع الشاب الذی بلغ حدیثا أن یؤم الجماعة مع أنه فاقد لها؟
من أجل الوصول إلى الجواب المناسب فی البدایة ندرس معنى العدالة فی اللغة و الاصطلاح، ثم نتناول أصل السؤال.
مفهوم العدالة
العدل فی اللغة هو: ما قام فی النفوس أنه مستقیم و هو ضد الجور.[1] و قد یقال: العادل هو: المرضی من الناس قوله و حکمه.[2] أو العادل هو الذی لا یمیل به الهوى فیجور فی الحکم، و العدل من الناس المرضی قوله و فعله و حکمه.[3]
العدالة فی الاصطلاح
وقد استعملت العدالة فی الاصطلاح فی عدة معان.
1ـ بمعنى ملکة ثابتة و مستقرة: و قد ذهب أکثر الفقهاء و علماء الشیعة إلى أن العدالة ملکة و هی عبارة عن: "أن یکون الإنسان و بسبب خوفه من الله مجتنبا عن الکبائر و لم یصر على الصغائر"[4] عندما یقال: یجب أن یکون إمام الجماعة عادلاً، یعنی أن یکون ذا ملکة تصده عن ارتکاب الکبائر مثل الکذب و الغیبة و التهمة و قتل النفس و أکل الربا و ترک الصلاة و الصیام و…، و المقصود من الملکة، هی الحالة النفسانیة التی تمنع الإنسان من ارتکاب الحرام. و تصبح الذنوب الصغیرة کبیرة بالإصرار علیها.[5]
2ـ بمعنى حسن الظاهر: و یعتقد البعض أن العدالة المعتبرة فی إمام الجماعة هی حسن الظاهر؛ یعنی أن یترک الکبائر بحیث یدل ظاهره ظناً على أنه عازم على ترک الذنب، لا أن یترک الذنوب لعدة أیام صدفة، و یجب على المأموم أن یحرز حسن الظاهر، و الإصرار على الصغائر بمثابة ارتکاب الکبیرة.[6] یبدو من عبارة " أنه عازم على ترک الذنب" أن مقصود هؤلاء العلماء من العدالة هی ملکة العدالة و إنما ذکروا "حسن الظاهر" لأنه کاشف عن العدالة لا أنه نفس العدالة.
3ـ بمعنى الثبات على الدین: یرى بعض الفقهاء أن العدالة بمعنى الثبات على الأصول، یعنی أن یکون الإنسان ثابتا على التزامه بأصول الدین و أرکانه، کما یظهر من جواب السید الیزدی للسؤال الذی وجّه إلیه عن معنى العدالة، فقال سماحته: "… إن العدالة هی الملکة الراسخة فی اجتناب المعاصی، أو الاستقامة الفعلیة حتى و إن لم تصل درجة الملکة على وجه، و إن کان الأحوط اعتبار الملکة."[7] فإن هذا الفقیه الکبیر و إن کان یرى اعتبار ملکة العدالة فی الإنسان العادل أقرب للاحتیاط، إلا أنه یرى الاستقامة الفعلیة کافیة لتحقق معنى العدالة.
تفصیل فی معنى العدالة
و قد فصّل بعض الفقهاء من خلال بعض الروایات بین العدالة فی إمامة الجماعة و العدالة فی الموارد الأخرى مثل الشهادة و القضاء و… وقالوا: تحتاج العدالة إلى ملکة، لکن هذا بالنسبة إلى العدالة فی الشهادة، لا عدالة الإمامة، و لعل السبب هو أن الشهادة مرتبطة بحقوق الناس فیقتضی الاحتیاط و أما فی عدالة الإمامة فیکفی أن لا یکون مصراً على الفسق.[8] إذن لیست العدالة بمعنى الملکة فحسب، بل هناک آراء متعددة حولها.
الاقتداء بمن بلغ حدیثاً
و هذا متعلق بالمعنى الذی نقصده من العدالة. إن فسرنا العدالة بالمعنى الأول (الملکة و الصفة النفسانیة) فهناک حالتان متصورتان لهذا الشخص:
أ. أن یکون ملتزما بالأوامر و النواهی الإلهیة الموجهة للمکلفین ـ و إن لم تکن تشمله ـ قبل تکلیفه و بلوغه؛ مثلا کان یصلی و یصوم و… کذلک کان لا یکذب و یجتنب الافتراء و لا یحضر مجلس القمار و… فهذا الإنسان بمجرد أن یبلغ سن التکلیف تحرز عدالته بالطریق الأولى و یعتبر عادلا. بعبارة أخرى، عندما کان ملتزما بأوامر الله و نواهیه قبل بلوغه من دون أن یکون واجبا علیه، تحرز عدالته و توثق بالطریق الأولى. إذن یحسن الاقتداء بمثل هذا الإنسان عقلاً و شرعاً.
ب. أما إن کان غیر مبال بأوامر الله و نواهیه الموجهة للمکلفین قبل تکلیفه باعتباره لم یبلغ سن التکلیف، أو کنّا جاهلین بذلک، عند ذلک لا یمکن أن نعتبر هذا الإنسان عادلاً أو فاسقاً بمجرد بلوغه، بل یجب أن تنقضی فترة من الزمن لنقیّم مستوى التزامه، و بعد ذلک نحکم علیه بالعدالة أو الفسق. و من هنا نجد بعض العلماء هکذا قالوا فی عدالة حدیثی البلوغ: الفاسق هو من یعصی الله و فی مقابله المتقی، و کلتا الصفتین ملکتان؛ أی العادة الراسخة، فمن کان حدیث البلوغ و لم ترسخ و تثبت فیه إحدى الصفتین و یحتمل فیه أن یرتکب الذنب، لم یکن له حکم العادل حتى و إن لم یحدث له ذنب.[9] إذن بما أن لم تحرز عدالته و یشترط فی الاقتداء أن یکون الإمام عادلا،[10] فلا یجوز الاقتداء به.
و أما إن فسرنا العدالة بمعنى الثبات فی الدین، عند ذلک من کان متظاهراً بالدین و حسن الظاهر فهو عادل و لا إشکال فی الاقتداء به حتى و إن کان حدیث البلوغ. أما إذا لم یکن کذلک و لم یکن له ثبات فی الدین أو لم یراع حسن الظاهر فلا یجوز الاقتداء به.
طریقة تشخیص العدالة
إن العدالة ـ بمعنى الملکة ـ وإن کانت صفة نفسانیة و باطنیة إلا أنه یمکن تشخیصها من ظاهر الأعمال؛ کالسخاء و البخل و العقل و السفاهة و حسن الخلق و… و هکذا من لم یبال بسمعته و لم یحترم نفسه و نرى منه أعمالا تحکی عن و قاحته أو سفاهته أو عدم خوفه من الفضیحة؛ من قبیل ما إذا لبس لباسا غیر مناسب أو جاء بین الناس عاریا و مساومته فی معاملات لا قیمة لها، و مزاحه و مطایبته مع الأراذل و الأنذال و الحضور فی المجالس التی تضر بسمعته.[11] و یکفی الوثوق و الاطمئنان فی ثبوت العدالة و لا داعی للعلم بحصولها و لا البینة الشرعیة، بل یکفی الوثوق بحصولها. و معنى الوثوق هو الاطمئنان بحصول الشیء؛ یعنی أن یحصل له اطمئنان فی هذا المقام من خلال الشیاع أو المعاشرة أو کلاهما على أن هذا الإنسان یملک ملکة العدالة.[12] إذن تثبت العدالة بحسن الظاهر الکاشف عن الملکة علما أو ظنا، و هکذا تثبت بشهادة عدلین أو الشیاع المفید للعلم.[13]
المواضیع المرتبطة:
1ـ العدل فی أصول الدین، سؤال 539 (رقم الموقع: 595)
2ـ طرق إثبات عدالة إمام الجماعة، سؤال 3883 (رقم الموقع: 4238)
[1] ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب، ج 11، ص 430، دار صادر، الطبعة الثالثة، بیروت 1414 ق.
[2] الفراهیدی، خلیل بن احمد، کتاب العین، ج 2، ص 38، انتشارات هجرت، قم، الطبعة الثانیة، 1410 ق.
[3] عدة الداعی و نجاح الساعی، ص 327، دار الکتاب العربی، الطبعة الأولى، 1407 ق.
[4]بهجت، محمد تقى، جامع المسائل (للبهجة)، ج1، ص 23، الطبعة الأولى، قم.
[5] توضیح المسائل (المحشى للإمام الخمینی)، ج1، ص 14، (زنجانى).
[6] الإمام الخمینی، توضیح المسائل (المحشى للإمام الخمینی)، ج1، ص 791؛ (بهجت) مسأله 1171، مکتب النشر الإسلامی، الطبعة الثامنة، قم 1424 ق.
[7] الیزدی، السید محمد کاظم، سؤال و جواب، ص 78، سید مصطفى محقق، سید محمد مدنى بجستانى، سید حسن وحدتى شبیرى، الناشر: مرکز نشر العلوم الإسلامیة، الطبعة الأولى، طهران، 1415 ق.
[8] المجلسی الأول، محمد تقى، لوامع صاحبقرانی المشتهر بشرح الفقیه، ج 4، ص 398، الناشر: مؤسسه اسماعیلیان، الطبعة الثانیة، قم، 1414 ق.
[9] الشعرانی، ابو الحسن، ترجمه و شرح تبصرة المتعلمین فی أحکام الدین، ج2، ص 715، منشورات إسلامیة، الطبعة الخامسة، طهران، 1419 ق.
[10] توضیح المسائل (المحشى للإمام الخمینی)، ج1، ص 790.
[11] ترجمه و شرح تبصرة المتعلمین فی أحکام الدین، ج2، ص 715.
[12] الیزدی، السید محمد کاظم، سؤال و جواب ، ص 78.
[13] القمی، الشیخ عباس، الغایة القصوى فی ترجمة العروة الوثقى، ج1، ص 9، مسأله 21، منشورات صبح پیروزى، الطبعة الأولى، قم، 1423 ق؛ جامع المسائل (للبهجة)، ج 1، ص 23؛ توضیح المسائل (المحشى للإمام الخمینی)، ج 1، ص 14، (زنجانى).