بالنظر إلى أحکام الإسلام و تعالیمه فإن الأفراد الذین یمتلکون إجازة خاصة أو عامة من قبل الله سبحانه لهم الحق وحدهم فی إعمال حاکمیتهم على الناس، و أما سائر الناس فحتى إن کانوا مؤیدین من قبل الأکثریة فإنهم لم یحظوا بتأیید الإسلام فی مسألة إقامة الحکم.
و من جهة أخرى فإن الحکومة التی تشکل و تدیم عملها بتأیید من شرائح واسعة فی المجتمع فلا یمکن أن یکون الرضا الآنی اللحظوی لمجموعة من الناس من أسس استمرارها أو رفضها. و إلا لانتهینا إلى الفوضى و الهرج و المرج، و لذلک فلا یحق للبعض أن یسلبوا المشروعیة من النظام الإسلامی القائم لمجرد عدم رضا البعض.
فی البدایة إذا دققنا فی حالة الأفراد الذین یترأسون المجتمعات المختلفة فإننا سوف نجد مؤیدین و مخالفین حقیقیین لهم، و من جهة أخرى نلتقی بأشخاصٍ لا یهمهم موضوع الحکم و الحاکمیة کثیراً و أن أی حکومة یمکنها تأمین احتیاجاتهم الأساسیة تکون مقبولة بالنسبة لهم، و إذا نظرنا من زاویة أخرى نرى أن میزان رضا عموم المجتمع و عدم رضاه على الحکام یتأرجح بین الزیادة و النقصان فی مقاطع زمنیة خاصة، من دون أن تجتمع إرادة الجمیع على إرادة تغییر الحکومة أو الحاکم. و لکن المشکلات الناشئة عن الحرب أو الحصار الإقتصادی أو ... تؤدی إلى أن یکون موقف الناس بنحو و کأنه یرید تغییر النظام و الحکومة.
و بعد هذه المقدمة فآتی على صلب السؤال:
للأئمة المعصومین وظائف و مسؤولیات مختلفة و متعددة فی المجتمع، و إحدى هذه المسؤولیات الأخذ بزمام المبادرة فی مسألة الحکم. و إن بعض من هذه المسؤولیة أوکلت إلى علماء الدین.
و من الطبیعی فإن إمام الدین (سواء کان معصوماً أو غیر معصوم) لا یتمکن من إقامة و إجراء تعالیم الدین و أخلاقیاته بشکل کامل ما لم یحظى بدعم و تأیید من شرائح واسعة فی المجتمع حتى یتمکن من إقامة الحکومة و الاستمرار بها، و کما نعلم و نشاهد فإن حکومة رسول الله (ص) و أمیر المؤمنین(ع) لم تکن ممکنة إلا فی الوقت الذی لقیت تأیید الناس و حمایتهم لها.
أما بالنسبة لاستمرار الحکومة فلا بد من التوجه للنقاط التالیة:
1ـ کما تقدم فإن رضا الناس و تأییدهم أمرٌ نسبی، و إنه یتغیر من زمن لآخر، فمن الممکن للحکومة التی تحظى بتأیید 70% من الناس فی زمن معین تفقد الکثیر من رصیدها لأی سبب أو حادث ما فتنخفض نسبة المؤیدین لها.
2ـ فی أی نقطة فی هذا العالم و فی أی نظام للحکم ـ حتى الأنظمة التی تطبل و تدعی الدیمقراطیة بقوة ـ لا یمکن أن تقوم حکومة و تستمر من خلال المؤسسات الثابتة و الدساتیر الثابتة. و فی الوقت نفسه یکون ذلک مشروطاً برضا المجتمع الآنی اللحظوی.
و بعنوان المثال، إذا انتخب رئیس للبلاد فی بلدٍ دیمقراطی من خلال حصوله على آراء الأکثریة، و لکن الإحصاءات الرسمیة لاستطلاعات الرأی تشیر إلى أن محبوبیته انخفضت بعد أسبوع من انتخابه فلیس له أن یحتج بهذه الذریعة و یجیز لنفسه الاستعفاء و ترک البلد بحالها. و هذا ما نجد ما یشابهه بالنسبة للأنظمة و القوانین التی تقر و تصوب من قبل جیل معین فإنها تکون ساریة المفعول فی الأجیال التی تأتی من بعد من دون أن تعرض هذه الدساتیر فی کل سنة أو کل شهر للرأی العام لتحظى برضا الجمیع.
3ـ إن أنظمة الحکم و کذلک الدول المختلفة لها قوانین و مؤسسات ثابتة لا ترضى بتغییرها بهذه السهولة. و کمثال على ذلک (فإن القضاة فی الدیوان العالی للقضاء فی أمریکا ینتخبون من قبل رئیس الجمهوریة فی وقتٍ معین، ثم یعرضون على المجلس لکسب الثقة فإذا حصلوا على تأیید المجلس یمکنهم البقاء فی منصبهم حتى نهایة العمر، ما لم یطلبوا الإحالة على التقاعد باختیارهم) و من هنا فإن مجلس القضاء فی الولایات المتحدة الأمریکیة یتمتع بأهمیة خاصة لما له من تأثیر فی توجیه حرکة المجتمع فی البلاد[1].
و لا بد أن ندقق فی هذه المسألة، فإن هؤلاء القضاة لم یأتوا بانتخاب الأمة، و من جهة أخرى فإن منصبهم غیر قابل للعزل، و قد أنیطت بهم مسؤولیات و مهمات کبیرة کالبت فی نتائج انتخابات رئاسة الجمهوریة «کما حدث فی التنافس بین جورج دبلیو بوش و جون کیری». و لم یقل الحقوقیون الأمریکیون إن هذا خلاف لقواعد الدیمقراطیة و أصولها. و إنما یرون أنها مؤسسة منبثقة عن القانون الأساسی و أنها مقبولة لدى الناس أیضاً. و لهذا فإن ما ظهر من عدم الرضا فی أواخر خلافة أمیر المؤمنین علیه السلام لم یجعله یترک الخلافة و یهمل شأنها حتى کان یقول «لا أمر لمن لا یطاع»[2]. مع أنه کان زاهداً بالخلافة حتى اعتبرها «أهون من عفطة عنز»[3]، و مع ذلک لم یتخلَ عن مرکزه حتى آخر حیاته.
و بعد هذه القرون التی تفصلنا عن زمن خلافة أمیر المؤمنین (ع) یمکن أن نقول أن الإمام (ع) واجه عدم الرضا و حسب و مع هذه المعارضة الواسعة من فئاتٍ کثیرة فإنهم لم یریدوا تنحیة الإمام عن السلطة. فی حین نجدهم یوجدون قاعدة واسعة للمعارضة بشکلٍ عملی، حتى أنهم شککوا فی أصل أحقیته بالخلافة و لکن مع ذلک لم یعبأ الإمام بهم.
و مع ذلک فإذا وجدت ظروف و مقتضیات یکون فیها ترک الحکومة الظاهریة یصب فی صالح المجتمع الإسلامی، فإن الحاکم الإسلامی بإمکانه التخلی عن السلطة بدلیل مراعاة هذه المصلحة «و لا بدلیل انحسار الرضا الآنی للناس»، کما حدث هذا الأمر فی زمن الإمام الحسن (ع).
و طبقاً للقانون الأساسی لبلدنا الذی أقر و صوب من قبل الأمة، فإن استمرار قیادة الولی الفقیه للمجتمع لم تحدد بزمن معین، و علیه «و کما هو فی سائر الأمم» فإن الرضا الآنی للناس لا یمکن أن یعتبر معیاراً لاستمرار الحکومة و إدامتها. و لا یوجد دلیل باللحاظ الشرعی و لا القانونی على أن الفقیه الذی یتمتع بالشروط اللازمة للقیادة، و لم یکن قد فقدها أو بعضاً منها علیه أن یتخلى عن موقعه لشخصٍ آخر لمجرد بروز عدم الرضا من بعض الناس.
4ـ و الأنظمة الدینیة لا یمکن أن تعتمد على مزاج لحظوی فی الرضا و عدمه للمجتمع، و إنها تحرم من مؤسساتها و قوانینها الثابتة لمجرد الخوف من الاتهام بمخالفة الدیمقراطیة، کان العرف فی المجتمع الإسلامی فی صدر الإسلام. إن الشخص الذی یبایع من قبل الأمة له الحق فی الاستمرار فی الحکم ما دام على قید الحیاة، مع أن مریدیه و مؤیدیه یقلون عما کانوا علیه یوم بیعته، و هذا العرف تلقاه الناس کما هو القانون.