هذا الکلام لون من إملاءات الشیطان و وساوسه لیبعد الناس عن أعمال الخیر من الأدعیة و الزیارات و سائر النشاطات الدینیة، لأن الدعاء و التوسل بالوسائل کالأئمة المعصومین علیهم السلام إنما یبتنی على أمر الله و تعالیمه المباشرة و أنه سبب من أسباب جلاء القلوب و طهارتها و اتخاذ الأئمة علیهم السلام أسوة و قدوة فی السیر على طریق هدایتهم الواضحة، و شد الناس إلى هؤلاء العظماء و الالتصاق بهم.
و فی نفس الوقت یجب أن نعلم أن صرف الدعاء و التوسل الظاهری لا یمکنه أن یحصّل تلک الثمرات العظیمة، و من الضروری أن یصاحبه حضور القلب و توجهه، أی أنه لا بد للإنسان من أن یدعو بنیة خالصة نقیة و یتوسل بهذه الوسائط و الوسائل، فبالإضافة إلى ما فیه من رفع المشکلات و قضاء الحوائج فإن من عوائده و ثماره الکبرى جلاء القلب و صفائه، و من خلال تعلقه و انجذابه إلى أولیاء الله علیهم السلام یغیر من صورته و سیرته نحو الأفضل و الأکمل، و من هنا لابد من القول: إن النیة الخالصة، و التوسل و الدعاء و الزیارات جمیعها علل ناقصة و من قبیل جزء العلة بالنسبة إلى الترقی و التکامل الإنسانی، و إن تحقق أحد الأمرین لا یغنی عن الآخرین و لا یرفع احتیاجنا إلیه، و بعبارة أخرى فإن إثبات الشیء لا ینفی ما عداه، أی أنه إذا قیل (إن النیة الخالصة لازمة) أو (أن التوسل و الدعاء و الزیارة لازمة) فلیس معنى ذلک أن یکفی أحدهما عن الآخر و یحل محله و یغنی عنه، نعم إذا کانت لدى الإنسان نیة خالصة صادقة و لکنه عجز عن أداء العمل و لم یقدر على الإتیان به، فإن الله سبحانه یعطیه ثواب العمل بلطفه و کرمه و فضله، و لکن هذه القاعدة لا یمکن إجراؤها فی حالة قدرة الإنسان و إمکانیته على أداء العمل و الإتیان به فیتسامح فی ذلک و یترک أداءه تعمیماً لمقولة کفایة النیة الخالصة. فإن مثل هذا الکلام هو بمثابة خداع النفس کما لو ظن الإنسان أن تصور شرب الماء أو أن ینوی شربه دون أن یبادر إلى الشرب سوف یرفع عطشه و یروی ظمأه!
إن أفعال الإنسان الاختیاریة تنبثق عن نیته، فالإنسان العاقل یحصل له العلم فی المرتبة الأولى بالنسبة إلى الفعل المقصود و المطلوب، و بعد ذلک ینظر فی ثمرات الفعل و نتائجه و یدرس مزایاه و خصائصه على صعید السلب و الإیجاب، و من ثم تأتی مرحلة المیل نحو الفعل، إذا کان نافعاً أو مطابقاً لمیله و هواه، و المیل إلى الترک إذا کان الفعل فارغا من المنفعة أو أنه غیر مطابق لرغباته و میوله، ثم یتحقق قصده فی الإتیان بالعمل أو ترکه و أخیراً تتجسد نیته و قصده و تتحقق.
و بعبارة أخرى: فالعلم بشکل کلی و العلم بمزایاه و عیوبه الکلیة ثم المیل إلى قصد الترک أو الفعل، ثم قصد الفعل و الترک، و بعد ذلک تأتی مرحلة تهیئة أسباب العمل و لوازمه، القدرة الجسمانیة و الروحیة و الفکریة على صدور الفعل أو ترکه، و على هذا الأساس فإنه لا یمکن تحقق الإتیان بعمل أو ترک لعمل على وجه الاختیار من دون تحقق النیة بالنسبة إلى ذلک الفعل، مع أنه من الممکن أن یکون الإنسان غافلاً و غیر متوجه إلى هذا الأمر.
و إنه لأمر فی محله أن یأتی التأکید و التوصیة على الهمة و إصلاح النوایا و الارتقاء بها بالنسبة لأداء الأعمال الدینیة و تخلیصها من الشوائب و الآفات الدنیویة، ومن هنا یمکن أن تعد النیة نفسها من جملة أفعال الإنسان الاختیاریة القابلة للإصلاح و التعالی و الارتقاء.
و إن أثر إصلاح النیة و تعالیها یظهر و یتبلور واضحاً فی الأقوال و الأفعال و ردود الأفعال بالنسبة للشخص، و العکس صحیح فإن تدنی الهمم و النوایا یظهر فی الکلام و العمل و الحالات الأخرى، فالنیة و إصلاحها إذاً له دور أساسی بالنسبة لعمل الإنسان و أقواله و جمیع حالاته.
و لکن المسألة هی: هل أن النیة و إصلاحها تکفی و تعوض عن الإتیان بالأعمال الصالحة، و ترفع الحاجة إلى أدائها و الإتیان بها من قبل الإنسان؟
و من الواضح أنه لا یمکن لأی عاقل أن یجیب بالإیجاب عن هذا السؤال لأنه لا یمکن للإنسان أن یکون عالماً بمحض نیته الخالصة و الصادقة بالنسبة للتعلیم و التعلم. أو أنه بمجرد أن یتصور الطعام و ینوی تناوله ترتفع حاجته إلیه و یتبدل جوعه إلى شبع، و یتغذى جسمه و یقوى.
و کذلک الحال بالنسبة إلى السؤال، فکیف من الممکن أن یجعل الإنسان من نیته صادقة و خالصة و طاهرة من دون الارتباط و التعلق بالله تعالى عن طریق الدعاء و التوسل (بأولیاء الله و أحبائه) و زیارتهم، فلأی شیء أخلص نیته و أصلحها و طهرها، و من أی شیء؟ هل أنه أخلص نیته و طهرها من التوسل بالأئمة علیهم السلام و الدعاء و عرض حاجاته و فقره؟! فهل أنهم غیر طاهرین (و العیاذ بالله) لیطهر نیته منهم؟ و من المؤسف القول أن ما یستفاد من ظاهر السؤال ومن هذه الوساوس والالقاءات الشیطانیة لا یمکن أن یکون غیر ذلک ، ولکن هذا الاستنتاج باطل من جهات عدة:
1- إن ترک عمل مثل الدعاء و الزیارة بحاجة إلى نیة، و لا یمکن أن یتحقق الترک من دون نیة، فلابد من التوصل إلى معرفة ماهیة النیة فی ترک الدعاء و الزیارة، و ما هی دوافعها؟ و ما هو الملاک و المصلحة التی تدعونا إلى الشعور بعدم الحاجة إلى هذین الأمرین؟! و نحن لا نجد جواباً مقنعاً عن هذین التساؤلین.
2ـ أن الله الذی أخلصنا نیتنا له هو الذی أمرنا بالدعاء و التوسل و الزیارة، کما فی قوله سبحانه: {وَ قَالَ رَبُّکُمُ ادْعُونِی أَسْتَجِبْ لَکُمْ إِنَّ الَّذِینَ یَسْتَکْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِی سَیَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِینَ}[1] و کذلک قال: {اعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاکُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَ نِعْمَ النَّصِیرُ}[2] و قال: {وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِیعًا وَ لا تَفَرَّقُوا}[3] و کذلک قال تعالى: {یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ابْتَغُوا إِلَیْهِ الْوَسِیلَةَ وَ جَاهِدُوا فِی سَبِیلِهِ لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ}[4] و قد وردت أحادیث کثیرة عن الأئمة المعصومین علیهم السلام تؤید و تؤکد (إننا حبل الله) و( إننا الوسائل إلیه).[5]
و من الواضح جداً أن من أهم طرق الارتباط بهم و التعلق هی زیارة قبورهم و احترامها و إجلال مراقدهم، و إحیاء موالیدهم و وفیاتهم، حتى نتمکن من إقامة الجسور بیننا و بینهم، و نرفع حوائجنا و مشاکلنا الدینیة و الدنیویة إلى الله سبحانه.
3 ـ إن التوسل بالشفیع فی الأمور الخطیرة أمر عقلائی متداول و متعارف فی جمیع المجتمعات البشریة، فکم هی استفادتنا المتکررة من هذا الأمر فی حیاتنا الیومیة، فعدم التوسل بالشفیع فی حال الحاجة إلیه لا یمکن أن یفهم ویحمل إلا على الاستکبار و الأنانیة. و أی مؤمن صادق یستغنی عن مثل هذا الارتباط و التعلق بأولیاء الله سبحانه؟ لأنه من یکون له قصد صادق وجدّی فی التکامل و الإصلاح و التربیة فلابد له من الاستفادة من هدایة هؤلاء العظماء و تعالیمهم و عنایاتهم و ألطافهم حتى یصل إلى هدفه المنشود ومحط رحاله، و إن سر الأمر الإلهی بالتوسل فیهم یکمن فی هذه النکتة و إلا فهؤلاء العظماء لا حاجة لهم باحترامنا و تکریمنا لهم و زیارتنا لمراقدهم و توسلنا بهم.
4 ـ إن الزیارة و الدعاء تجلو القلوب، و کل من یحرم نفسه منهما فإنه یکون بمنئاً عن منبع فیوضات کثیرة، بل إن ترقیه و تکامله لا یکون ممکناً و لیس بعد ذلک إلا الخلود فی نار جهنم.[6]
و مع الأخذ بنظر الاعتبار ما تقدم نصل إلى النتیجة التالیة[7]:
1ـ إن التوسل و الدعاء من جملة أعمال الإنسان الاختیاریة، و لیس من الممکن صدورها من دون (نیة) وقصد.
2ـ حسن النیة و ارتقائها و تعالیها له تأثیر مباشر على حسن أعمال الإنسان و من جملتها الدعاء و التوسل و الزیارة.
3 ـ إن الإتیان بالحسن لا یجعلنا فی غنىً عن الحسن الآخر لنحظى بحسن أکثر، أی الإنسان فی طریق الترقی و التکامل یحتاج الحسن الفاعلی (حسن النیة) کشرط، و کذلک الحسن الفعلی (انتخاب العمل الصحیح) و بعبارة أخرى فإن حسن النیة و حسن الفعل یشکلان اجزاء العلة، و إن وجود أحدهما و إصلاحه لا یغنی عن وجود الآخر و إصلاحه، فنحن فی حاجة ماسة إلى کلا الأمرین من أجل تحقیق رقینا و تکاملنا.
و هنا یمکن أن یتمسک أحد بظاهر ألفاظ بعض الأحادیث ویراها متناقضة مع ما تقدم من البحث، و من جملة ذلک قول النبی صلى الله علیه و آله و سلم لأبی ذر رضی الله عنه: "یا أبا ذر هم بالحسنة و إن لم تعملها، لکیلا تکتب من الغافلین"[8] أو قوله صلى الله علیه و آله و سلم: "نیة المؤمن خیر من عمله"[9] أو قول الإمام علی علیه السلام: "رب نیة أنفع من عمل"[10] أو قوله علیه السلام: "إن الله تعالى یدخل بحسن النیة و صالح السریرة من یشاء من عباده الجنة"[11] و... ولکن هذا التمسک بهثل هذه الاحادیث غیر صحیح لأن هذا النوع من الحدیث بصدد بیان أهمیة النیة فی عمل الخیر، و لیس فیها أیة دلالة على الاکتفاء بالنیة مع فرض القدرة على الإتیان بعمل الخیر، و بعبارة أخرى: إن دلالة مثل هذه الأحادیث تتمثل بالقول: لیکن کل همکم و تفکیرکم بعمل الخیر و قصده و الابتعاد عن التفکیر بعمل الشر، و هذا الأمر نفسه یتسبب فی زیادة رغبة الإنسان فی القیام بعمل الخیر، و یمحو کل تفکیر بأعمال الشر و یبعدها عن الذهن، و لذلک جاءت الوعود الکثیرة المترتبة على نیة الخیر و ضرورة إصلاحها و تعالیها، فیقول مثلاً: "ما من عبد یحدث نفسه بقیام ساعة من اللیل فینام عنها، إلا کان نومه صدقة تصدق الله بها علیه و کتب له أجر ما نوى".[12] و یقول الإمام الصادق علیه السلام: "إنما قدر الله عون العباد على قدر نیاتهم، فمن صحت نیته تم عون الله له، و من قصرت نیته قصر عنه العون بقدر الذی قصر".[13]
فالحدیث الاول یشیر إلى الموارد التی یکون فیها الإنسان قاصداً عمل الخیر فی واقع الأمر و لکنه لا یمتلک القدرة على القیام به أو لیس لدیه الفرصة لأدائه. أما الحدیث الثانی ففیه إشارة و تأکید على حسن النیة وإخلاصها لله تعالى، و أنه إذا ما توجه إلى الله بالدعاء فعلیه أن یطمئن بالإجابة من الله، و لا یبقى فی قلبه أی تردد أو شک بتلقی العنایة و الإمداد و اللطف من الله تعالى، إضافة إلى ذلک لا بد من طلب الأمور العالیة و المهمة من الله تعالى لا الأمور الحقیرة التافهة التی لا قیمة لها.
و من هنا فإنه عندما توضع الأحادیث التی تشیر إلى حسن النیة و صفائها و طهارتها إلى جانب الأحادیث التی تحث على الدعاء و التوسل و زیارة قبور الأولیاء، فإننا سوف ننتهی إلى نتیجة حتمیة و مضمونة و هی أن التأکید على أحد الأمرین لا یعنی الاستغناء عن الأمر الآخر، نعم لو أن شخصاً تولدت لدیه نیة خیر إلا أنه لم یتمکن من الإتیان بالعمل فإن لطف الله و کرمه واسع فیعطیه ثواب ذلک العمل، خلافاً لما یکون بالنسبة إلى نیة الشر التی لا یتبعها عمل، فإنه لا عقاب علیها، و إن کانت تترک أثراً سیئاً على نفس الإنسان.
المصادر:
1ـ الری شهری، محمد، میزان الحکمة، ج13، المؤسسة الثقافیة دار الحدیث، الطبعة 1379، قم: ص6560 ـ 6585.
2ـ الفیض الکاشانی، الملا محسن، المحجة البیضاء، ج8، مؤسسة النشر الإسلامیة، قم.
3ـ مصباح الیزدی، محمد تقی، آموزش عقاید" تعلیم العقائد"، ج3، منظمة التبلیغ الإسلامی الطبعة: 14، 1375، قم، الدرس: 54 ـ 56 ص 126 ـ 149.
4ـ مصباح الیزدی، محمد تقی، اخلاق در قرآن" الأخلاق فی القرآن"، ج1، مؤسسة الإمام الخمینی للتحقیق و التعلیم، الطبعة 8، 1376، قم: ص 95 ـ 174.
[1] غافر: 60.
[2] النساء: 146 و 175 و الحج: 78.
[3] آل عمران: 103.
[4] المائدة: 35، الإسراء: 57.
[5] تفاسیر الآیات المتقدمة.
[6] فصلت: 60.
[7] الری شهری، محمد، میزان الحکمة، ج13، ح20976، ص 6575.
[8] الری شهری، محمد، میزان الحکمة، ج13، ح20976، ص 6575.
[9] نفس المصدر، ح 20978، ص6577.
[10] نفس المصدر، ح20998، ص 6583.
[11] نفس المصدر، ح21015، ص6583.
[12] نفس المصدر، ح29077، ص6575.
[13] نفس المصدر، ح20985، ص6576.