ورد فی هذه الآیة الکریمة[i] ذکر (الکتاب المبین) و هو مرحلة من مراحل العلم الإلهی الذی یکون سبباً لصدور الأفعال الإلهیة، و یکون موجوداً قبل الخلق و حین الخلق و بعد الخلق، و فیه تثبت و تضبط المراحل السابقة لوجود أی موجود، و التحولات التی تحدث له وآثارها بعد خروجه من حالة العدم. و لذلک ورد ذکره بعناوین مختلفة أخرى مثل، اللوح المحفوظ، أم الکتاب، و إمام مبین، کتاب حفیظ و... و قد أطلق کل عنوان من هذه العناوین بلحاظ خاص و اعتبار محدد.
و على الرغم من أن المراد من (الکتاب المبین) فی بعض الآیات هو القرآن الکریم، و ذلک ما یعرف من خلال السیاق و اقترانه ببعض القرائن، مثل کلمة (الوحی) أو (النزول) و... و لکن فی الآیة 59 من سورة الأنعام، و غیرها من الآیات لا یمکن أن یقال أن المراد (بالکتاب المبین) هو القرآن الکریم، مع أن القرآن الکریم استنسخ من ذلک المحل.
(الرطب) و (الیابس) حالتان متناقضتان و مختلفتان، تندرج کل الموجودات تحت أحد هذین العنوانین بنحو من الأنحاء، و لذلک فالتعبیر (بالرطب و الیابس) کنایة عن استیعاب وعمومیة العلم الالهی لکل الموجودات سواء قبل وجودها أو بعده، و حتى مرحلة انعدامها الظاهری، و لیس المراد من الرطب و الیابس الإشارة إلى موجود خاص بعینه.
هذه الآیة[1] تشیر إلى مراحل علم الله سبحانه و شمولیته، و مراحل العلم الإلهی هی من أکثر المسائل تعقیداً و أکثرها غموضاً، و لذلک فهی مورد اختلاف واسع و عمیق و من المسائل التی تثیر ضجةً فیما بین المحققین و العلماء المسلمین، و لهذا أصبح الجمع بین بعض الآراء و النظریات فی غایة الصعوبة، و فی ذلک یقول الملا صدرا رحمه الله بخصوص معرفة العلم الإلهی: (فاعلم أن الاهتداء بها من أعلى طبقات الکمال الإنسانی، و الفوز بمعرفتها یجعل الإنسان مضاهیاً للمقدسین بل من حزب الملائکة المقربین، و لصعوبة درکها و غموضه، زلت أقدام کثیر من العلماء حتى الشیخ الرئیس فی إثبات علم زائد على ذات الواجب و ذوات الممکنات، و حتى شیخ الرواقیین(السهروردی) و من تبعه فی نفی العلم السابق على الإیجاد، فإذا کان حال هذین الرجلین مع فرط ذکائهما و شدة براعتهما و کثرة خوضهما فی هذا الفن هذا الحال، فکیف حال من دون هؤلاء من أهل الأهواء و البدع و أصحاب الجدل فی الکلام و البحث مع الخصام)[2] و على هذا الأساس فمن الصعوبة بمکان التوصل إلى رؤیة صحیحة و نظریة قطعیة بالنسبة إلى مراحل علم الله و کیفیة حصوله، و من هنا فلابد من الاعتراف و التسلیم بالعجز المطلق إزاء معرفة کنه الذات و الصفات الإلهیة، و اجتناب التدقیق الخارج عن محله فی هذا المیدان، و على کل حال فالمستفاد من کلمات المحققین و المدققین و آرائهم أنه من الممکن لحاظ العلم الإلهی و مراتبه فی طی المراحل التالیة:
1ـ العلم بالذات، و صفاتها و أسمائها، و هذا مقام غیب الغیوب، الذی لا یمکن أن یکون مشهوداً لأی إنسان، مهما بلغ علمه و مقامه.
2ـ علم الذات بمقتضیات الذات، و هو العلم بالمخلوقات قبل الخلق بنحو کلی و إجمالی، و کونه إجمالیاً بمعنى أن المخلوقات لم تحدد و تشخص و تقدر بعد، و لم تکن قد امتازت بعضها عن البعض الآخر.
3ـ العلم بالمخلوقات قبل الخلق بنحو تفصیلی، منذ بدایة خلقها و حتى استمراره و اتصاله بالقیامة الکبرى، و معنى کونه تفصیلیاً هو أن المخلوقات قد حددت و تشخصت و قدرت، و إن مراحل وجودها و تحولاتها بلغت نهایتها.
4ـ علم خاص یکون سبباً لصدور الفعل و تحققه، و هذا العلم نفسه هو منشأ وجود الفعل، ویسمى (بالعلم العنائی).
5ـ العلم بالمخلوقات التی تم خلقها و الإحاطة بجمیع التحولات و التغیرات و التصورات بالنسبة إلیها، و إثبات کل ذلک و ضبطه بکیفیة یحفظ فیها إلى الأبد من دون أن یعرض علیه أی لون من ألوان النسیان و السهو و الخطأ و الزوال.
6ـ تسجیل أعمال الإنسان و أفکاره و أحواله و تقلباته، فمن الممکن أن تمحى و تکفّر فی حالة الإیمان بعد الکفر، أو التوبة بعد الذنب و العصیان، أو العکس من ذلک، فمن الممکن أن تحبط و تذهب أعماله فی حالة الکفر بعد الإیمان، أو العصیان و الطغیان بعد الطاعة، کما أن ملف أعمال الإنسان یغلق بعد موته إلا ما کان من قبیل السنة الجاریة، سواء الحسنة منها أو السیئة التی یبقى أثرها بعده.
و کذلک بالنسبة لسائر الموجودات بعد تبدلها و انفعالها تغلق ملفات وجودها و تثبت و تحفظ.
و مما لا شک فیه أن المراحل المتقدمة یترتب بعضها على بعض، و إن کل مرحلة تنبثق و تنشأ من المرحلة السابقة لها فهی مترتبة علیها.
و إن جمیع هذه المراحل حاکیة عن إحاطة الله الوجودیة و قیومیته على کل الموجودات و تأثیراتها، أی فعلها و انفعالها، و ذلک من دون الحاجة إلى أی وسائل و وسائط علمیة، و لیس لأی موجود أن یخرج عن شمولیة هذه الإحاطة التامة، فیکون خارج حدود معلومیة الله سبحانه، و من هنا فهذه الاعتبارات و اللحاظات و التقسیمات لحقیقة العلم الإلهیة تذکر من باب شحة التعبیر، و من أجل إمکانیة التعلیم و التعلم وتسهیله و حتى یلتفت الإنسان إلى أن وجوده و أعماله و أفکاره و سلوکه کل ذلک واقع فی مرأى الحق تعالى، و أن جمیع هذه الحالات مسجلة و مثبتة بشکل دقیق، وسوف تعرض غداً فی القیامة على هیئة صحیفة أعمال کاملة و شاملة، حتى یلتفت الإنسان إلى هذا الأمر، فیراقب أعماله بدقة و یربی نفسه على أساس التعالیم الإلهیة، فیبلغ بذلک مقام خلیفة الله فی أرضه.
و على أی حال فإن القسم الأول و الثانی اعتبره فلاسفة الإسلام من صفات الذات التی هی عین الذات، و التی تکون مصونةً و منزهة من أی لون من ألوان التغییر و التحول و التبدل، و أما بقیة الأقسام فإنها تندرج ضمن صفات الفعل، و تعد من العلم الفعلی، و هو دخیل فی التحقق العینی للموجودات. و یتأثر بتحولاتها و أطوارها فیتنوع و یتغیر و یتکثر.[3]
و حیث أن العلم الإلهی ـ و فی جمیع مراحله ـ شهودی و حضوری و منبثق عن إحاطته الوجودیة و قیومیته، فلا یکون انفعال و تأثر و تغیر علم الله فی مرتبة الفعل (العلم بالأفعال) سبباً فی انفعال الذات الإلهیة و تغیرها.[4] لأن انفعال الذات عند تغیر العلم من خصوصیات الموجودات الممکنة من قبیل الإنسان الذی یکون أغلب علمه حصولیاً ثم یترقى إلى مرتبة الشهودی الحضوری.
و أما الآیة المبارکة 59 من سورة الأنعام فإنها تقرر أن مفاتح الغیب بیده وحده، و لم یطّلع علیها أحد سواه {وَ عِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَیْبِ لا یَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَ یَعْلَمُ مَا فِی الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ مَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ یَعْلَمُهَا وَ لا حَبَّةٍ فِی ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَ لا رَطْبٍ وَ لا یَابِسٍ إِلاَّ فِی کِتَابٍ مُبِینٍ}.
و القسم الأول من الآیة الذی یقول انّ مفاتح الغیب عنده و لم یطّلع علیها أحد غیره فیها إشارة إلى القسمین الأوّلین من أقسام العلم الإلهی، أی علم الذات، الذی لم یطّلع علیه أحد، و لم یتمکن أحد من فهم و إدراک هذا العلم کما جاء فی لفظ (الخزائن) فی الآیة 21 و 6[5] التی تشابه آیة الأنعام و التی فسرت بهذا القسم من أقسام العلم الإلهی، و لذلک فالمراد من الخزائن و مفاتح الغیب هو مقتضیات الذات فی مرحلة الذات.
و أما ما تبقى من الآیة فإنه یشیر إلى علم الله فی مرتبة الفعل بعد الخلق، و یشیر تعالى إلى کل الموجودات من باب التعمیم: إن الله یعلم بکل ما فی البر و البحر و من أجل التأکید على هذه الشمولیة و الإحاطة یذکر الحبة الصغیرة التی تختفی فی السماء أو الأرض، و کذلک سقوط کل ورقة کمثال على الإحاطة الشاملة التامة، بحیث لا یغیب عن علمه شیء حتى أمثال الحبة و سقوط الورقة، و کذلک یقول تعالى: {عَالِمِ الْغَیْبِ لا یَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِی السَّمَاوَاتِ وَ لا فِی الأَرْضِ وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِکَ وَ لا أَکْبَرُ إِلاَّ فِی کِتَابٍ مُبِینٍ}.[6]
الرطب و الیابس نقیضان، وذکرهما فی الآیة یعنی أن کل موجود لا بد و أن یندرج تحت أحد هذین العنوانین، فلا یمکن لأی موجود أن یکون مصداقاً لأحدهما و مصداقاً للآخر فی نفس الوقت، فالجمع بین الرطب و الیابس فی هذه الآیة الکریمة کنایة عن کل الموجودات.
و من جهة أخرى فبما أن الموجود یمکن أن یکون رطباً فی وقت معین و یابساً فی وقت آخر، فإن هذا التعبیر من الممکن أن یکون کنایةً عن علم الله سبحانه بکل التحولات و التغیرات الحاصلة فی عالم المادة.
و (مبین)؛ یعنی الواضح الظاهر الذی لا تشوبه أی شبهة أو شک أو إبهام، قال الملا صدرا رحمه الله فی تعریف (الکتاب): (سمی الکتاب کتاباً لضم حروفه و کلماته بعضها إلى البعض مأخوذاً عن (کتیبة الجیش) و هی الطائفة من الجیش مجتمعة).[7]
و یقول فی تعریف هذه المرتبة من العلم: (و الحق أنها علمه بالأشیاء فی مرتبة ذاته علماً مقدساً عن شوب الإمکان والترکیب، فهی عبارة عن وجوده بحیث ینکشف له الموجودات الواقعة فی عالم الإمکان على نظام أتم مؤدیاً إلى وجودها فی الخارج مطابقاً له أتم تأدیة، لا على وجه القصد و الرویة و هی علم بسیط واجب لذاته قائم بذاته خلاّقٌ للعلوم التفصیلیة العقلیة و النفسیة على أنها عنه لا على أنها فیه).[8]
و إن کلام الملا صدرا رحمه الله و إیضاحاته بالنسبة للآیة 39 من سورة الرعد و التی ورد ما یشابهها فی الآیات 1 ـ 4 من سورة الزخرف، و لکن جاء التعبیر بأم الکتاب مقترناً بکلمة (باقی) و(عنده).
بالإضافة إلى أن العلم بتفاصیل کل الموجودات و تحدیدها وتقدیرها لا ینسجم مع عدم ترکیب الذات الذی ینفیه هو نفسه. و کذلک یتنافى مع تأکیده من أن العلم الذاتی یکون (عنه) لا (فیه).
إذن فالکتاب المبین و أم الکتاب و اللوح المحفوظ و لوح المحو و الإثبات و الإمام المبین، و أمثالها من التعابیر لا یمکن أن تشیر إلى علم الله الذاتی الذی هو عین ذاته، لأنه - و بحسب توضیحات ملا صدرا رحمه الله- لا بد و أن یکون هذا العلم خال من شائبة من شوائب الإمکان والترکیب و التحدید و التقدیر و لا بد أن یقترن بلفظ (عنه) و لا ینبغی أن یذکر مع لفظ (فیه). فی حین أن الإشارة وردت فی الآیات المذکورة إلى تفاصیل الموجودات و حتى تساقط الأوراق و کل رطب و یابس منها، و جاء السیاق متضمناً للفظتی (عنده) و کذلک (فی) و من هنا فإن توضیحات العلامة الطباطبائی رحمه الله أکثر دقة فی هذا المجال، حیث یقول:
(لا یوجد اختلاف بین خزائن الغیب و الکتاب المبین من حیث شمول کل واحد منهما لجمیع الموجودات، فلا یوجد موجود إلا وله فی خزائن الغیب أصل یستمد منه، و ما من موجود إلا و یکون له کتاب مبین یحصیه من قبل وجوده و عنده وبعده. و لا یوجد فرق بین الخزائن و الکتاب المبین إلا أن مرتبة الکتاب المبین أنزل من مرتبة خزائن الغیب، و هنا فمن الواضح البین لکل عالم و مفکر أنه على الرغم من کون الکتاب المبین کتاباً صرفاً لا غیر، و إن بعض أجزائه منظمة إلى الأجزاء الأخرى، و لکنه لیس من قبیل الکتب المکونة من الألواح و الأوراق المتعارفة، لأن الأوراق العادیة مهما کانت کبیرة، و مهما فرضنا لها من الکیفیات فإنها لا یمکن أن تتسع لاستیعاب کل الموجودات و الحوادث).[9]
و المراد بالکتاب المبین هو الأمر الذی تکون نسبته إلى الموجودات کنسبة برنامج العمل إلى العمل نفسه، و إن لکل موجود فی هذا الکتاب نوع تقدیر و تحدید إلا أن هذا الکتاب موجود قبل وجود کل موجود، و موجود حال وجود الموجودات، و سوف یبقى موجوداً بعد فنائها.
إنه موجود یشتمل على علم الله بالأشیاء، ذلک العلم الذی لا یمکن أن یجد النسیان و التضییع إلیه سبیلاً[10] و بجملة واحدة إن هذا الکتاب هو کتاب یحصی جمیع الموجودات الواقعة فی عالم الصنع و الإیجاد ما کان منها و ما هو کائن و ما سوف یکون، من دون أن یغادر صغیرة و لا کبیرة.[11]
و هذا الکتاب أطلقت علیه عدة عناوین و تسمیات مختلفة فی کلام الله عز و جل، منها: (اللوح المحفوظ) أو (کتاب حفیظ) و (أم الکتاب) و (کتاب مبین) و الرابع (إمام مبین) و إن لکل عنوان من هذه العناوین الاربعة عنایة خاصة و لحاظ معین.
فهو إمام مبین من جهة کونه یشتمل على قضاء الله الحتمی، و إن صحائف الأعمال تستنسخ منه کما جاء فی تفسیر الآیة 29 من سورة الجاثیة.[12]
أما کونه لوحاً محفوظاً فبلحاظ أن ما کان و ما هو کائن و ما سوف یکون یحفظ فی هذا اللوح (الکتاب) من دون أن یطاله الفناء بأی حال من الأحوال.[13] و سمی اللوح المحفوظ بأم الکتاب من جهة أن کل کتاب سماوی یتم استنساخه من ذلک اللوح.[14] و إن تسمیته (بالکتاب المکنون) فلأنه خارج عن متناول عقول البشر، و إنه مستور عنها و خافٍ علیها.[15]
و فی هذا الکتاب یُمحى و یثبت فی بعض الأحیان صدور الموجودات و خلقها و إیجادها و تحقق الکثیر من الأمور.[16] و فی أحیان أخرى تسجل فیه کل التحولات و التغیرات الحاصلة فی مسیرة الإنسان من قبیل إحباط الأعمال أو تکفیرها تبعاً للتحولات التی تطرأ على تغییر سلوکه و منهجه فی الحیاة بکامل حریته و اختیاره، و بذلک تکون صورة صحیفته النهائیة طبقاً للکیفیة التی ینتهی بها سعیه و کدحه، فتستنسخ بتلک الکیفیة و تعرض علیه یوم القیامة بشکل کتاب نهائی لا یغادر صغیرة و لا کبیرة إلاّ أحصاها.
ذلک على الرغم من أن القضایا الثابتة و غیر القابلة للمحو و الإثبات هی موجودة فی هذا الکتاب نفسه، کالحوادث التکوینیة التی مرت بالأمم السالفة و ما کان فیها من أناس مؤمنین و عصاة، و کذلک مراحل خلق السموات و الأرض و الناس، وتحقق الوعود الإلهیة فی المستقبل کالعدالة العالمیة الشاملة و حتمیة وقوع یوم القیامة و ...
و مما تقدم یتضح أن المراد من (الکتاب المبین) فی الآیات الکریمة المذکورة لا یکون هو هذا القرآن العربی المنطوق أو المکتوب، بل إن هذا القرآن و مراحل نزوله التدریجیة، و الحوادث التی مرت علیه و التی سوف تمر علیه کل هذا هو قسم و جزء من (الکتاب المبین عند الرب) و لیس القرآن جمیع ما فی الکتاب المبین. فالقرآن الآن هو بین أیدینا و مورد استفادتنا من إفاضاته و هدیه، أما (الکتاب المبین) فإنه خارج عن متناول نوع البشر، و إن اطلاع الأنبیاء و الأوصیاء و الأولیاء على بعض ما فیه منوط بإذن الله وإرادته، و مقتصر على ما یعلمه لهم منه ولیس أکثر.[17]
و لکن ما ورد فی بعض الآیات الأخرى مثل: سورة القصص،2 والشعراء،2 و النمل، 1 و الحجر، 1 و یوسف، 1 و المائدة، 15 فإنه جاء مع قرینة لفظیة إلى جانب عنوان (الکتاب المبین) من قبیل (الوحی) و (النزول) مما یدل على أن المراد من (الکتاب المبین) هو القرآن الکریم الموجود بین أیدینا و الذی یکون قابلاً للفهم لکلٍ حسب استطاعته و إدراکه و إمکانیته فی تحصیل معارفه و الاهتداء بهدیه.
إذن (فالکتاب المبین) استعمل فی القرآن الکریم على کیفیتین:
أحدهما یراد به أنه محل تجلی علم الله الفعلی قبل الخلق، و حینه، و بعده بالنسبة إلى الموجودات و ذلک على نحو التفصیل.
و أما الکیفیة الثانیة فإن المراد منها هو هذا القرآن المنطوق المکتوب الذی استخرج و استنسخ و تحقق من ذلک المحل العلمی، فلا بد من التفریق بین الاستعمالین، و لا ینبغی الخلط بینهما و وضع أحدهما محل الآخر.
التذکر الآخر هو أن بعض الروایات أشارت إلى بعض مصادیق الرطب و الیابس و لکن جمیعها من قبیل المثال وذکر المصداق، منها: إن السقط من الأجنة مصداق الیابس، و إن المولود مصداق الرطب. أو إن الزرع الذی یحصد هو مصداق الیابس، فی حین یکون مصداقاً للرطب فی حال کونه لم یحصد بعد. و لکن ظهور السیاق فی الآیة یدل على أن المراد هو تعمیم العلم الإلهی بکل الموجودات فی عالم الوجود، وجمیع تحولاتها و تغیراتها و أحوالها.[18]
و على أساس البیان المتقدم یمکن احتمال أمور ثلاثة: أوّلا: أنه من الممکن أن المراد من ملکوت السموات و الأرض التی یریها الله لأولیائه من أمثال إبراهیم علیه السلام.[19] و حتى معراج النبی صلى الله علیه و آله و سلم فی العوالم العلیا.[20] هی من باب التجوال فی عالم هذا الموجود المسمى بالکتاب المبین.
ثانیاً: إن علم الغیب لدى المعصومین علیهم السلام مستفاد من الکتاب المبین و إنه یصلهم من هذا المحل، و لکن یعطى للبعض (علم الکتاب)[21] فتکون لهم ولایة کلیة، و یعطى البعض الآخر (علماً من الکتاب)[22] فیتمتع بقدر ما من هذه الولایة.
ثالثاً: من الممکن أن یراد من العرش و الاستیلاء علیه هو هذا الموجود المسمى (الکتاب المبین) و المقصود هو هذا المقام و هذه المرتبة، فالاستواء على العرش إذن کنایة عن تدبیر عالم الوجود بعد الخلق، فیضبط فی کتاب مبین طبقاً للعلم الإلهی.[23]
مصادر البحث:
1ـ الأمین، سید مهدی، معارف قرآن در المیزان"معارف القرآن فی المیزان"، ج7 و 10 و 11 و 17 و 18 منظمة التبلیغ الإسلامیة، الطبعة الأولى، 1370، طهران.
2ـ الشیرازی، صدر المتألهین محمد، الحکمة المتعالیة، ج6، ص 110 ـ 118 و ص149 و ص306 ؛ ج2، ص 299 ـ 311 ، دار إحیاء التراث العربی، الطبعة الرابعة، 1410 هـ . ق، بیروت.
3ـ الطباطبائی، محمد حسین، المیزان، مکتب التبلیغ الإسلامی، قم.
4ـ الطبرسی، أبو علی الفضل بن الحسن، مجمع البیان، ج2، ص 311، المکتبة العلمیة الإسلامیة، طهران.
5ـ الطیب، السید عبد الحسین، أطیب البیان، ص 91 ـ 92، المعرض الإسلامی، الطبعة الثانیة، طهران،.
6ـ القمی المشهدی، محمد بن محمد رضا، کنز الدقائق، ج4، ص 342 ـ 344، مؤسسة الطباعة و النشر فی وزارة الإرشاد، الطبعة الأولى، 1411 هـ. ق، طهران.
7ـ مصباح الیزدی، محمد تقی، معارف قرآن" معارف القرآن"، ج1 ـ 3، مؤسسة فی طریق الحق، ، الطبعة الثانیة، 1368، قم.
8 ـ مکارم الشیرازی، ناصر، التفسیر الأمثل، ج 8 و 9 و 15 و 18، دار الکتب الإسلامیة، الطبعة 17 ، 1374 ، طهران.
[1] الانعام،59.
[2] الشیرازی، صدر الدین، محمد، الحکمة المتعالیة، ج6، ص 179 ـ 180.
[3] انظر: العلامة الحلی، الباب الحادی عشر، فصل نفی الحوادث عنه، و سائر الکتب الکلامیة و الفلسفیة، بحث العلم الإلهی.
[4] المصدر نفسه.
[5] الإنعام، 10؛ هود، 31؛ الإسراء، 100 ؛ ص، 9؛ الطور، 27؛ المنافقون، 7؛ انظر: المیزان، ج13، ص 196 ـ 201.
[6] سبأ:3، و یونس، 61.
[7] الشیرازی، صدر الدین محمد، الحکمة المتعالیة، ج 6، ص 289.
[8] المصدر نفسه.
[9] الأمین، سید مهدی، معارف قرآن در المیزان "معارف القرآن فی المیزان"، ص 224 ـ 225، نقلاً عن المیزان، ذیل الآیة 59 من سورة الأنعام. و کذلک المصدر نفسه، ص 229، المیزان ذیل الآیة، 58 من سورة الإسراء.
[10] المصدر نفسه.
[11] المصدر نفسه.
[12] المصدر نفسه، ص 226.
[13] المصدر نفسه، ص 230، المیزان، ذیل الآیة، 4 من سورة، ق.
[14] المصدر نفسه، ص 233، المیزان، ذیل الآیات 1 ـ 4 من سورة الزخرف.
[15] المصدر نفسه.
[16] الرعد، 39.
[17] الأنعام، 50 ؛هود، 31.
[18] انظر المیزان: ج 7، ص 212 ؛کنز الدقائق، ج 4، ص 342 ـ 344.
[19] الأنعام، 75؛ المؤمنون، 88.
[20] الإسراء، 1؛ النجم، 1 ـ 18.
[21] الرعد، 43.
[22] النمل، 40، انظر: موضوع، علم الإمام علیه السلام، السؤال 165.
[23] الأمین، سید مهدی، معارف قرآن در المیزان "معارف القرآن فی المیزان"، ص 177 ـ 184؛ المیزان ذیل الآیات: المعارج، 4؛ الزخرف، 82؛ المؤمن، 7 و 15؛ الأعراف، 54؛ الحاقة، 17؛ الحدید، 4.