إن السؤال ینطوی على قسمین مستقلین و لهذا فسنجیب عن کل من القسمین بجواب مجزأ.
أولا: لقد صرح فی الکثیر من الروایات أن النبیّ قد خلق من النور. و لکن یجب أن نعلم أن المراد من الروایات هی حقیقته النوریة، لا وجوده الجسمانی، إذ أن النبی و فی نشأته المادیة و الجسمانیة فشأنه کشأن باقی الناس قد ولد و عاش مثلهم. إذن فالنبی محمد (ص) له حقیقتان و نشأتان؛ الأولى حقیقته النوریة التی خلقت من النور و فی المرتبة النازلة وجوده الجسمانی الذی کان مثل باقی الناس.
ثانیا: إن الکائنات قد خلقت ببرکة وجوده الکریم کما صرحت به الروایات، و من جانب آخر، لقد بعث النبی الأعظم من أجل هدایة الناس و کمالهم. إذن فمن حیث البعد الوجودی قد خلق الناس جمیعا من أجل النبی الأعظم و من حیث الهدایة و الإرشاد فالنبی الأعظم قد خلق من أجل باقی الناس و الکائنات.
إن السؤال أعلاه ینطوی على سؤالین. الأول هو هل أن النبی الأکرم قد خلق من نور الله سبحانه أم قد خلق من الطین کسائر الناس؟
و السؤال الثانی هو أن هل أن الکائنات قد خلقت لأجل النبی أو أن النبی قد خلق لأجل باقی الکائنات؟
أما السؤال الأول
لقد وردت فی کثیر من الروایات الإسلامیة قضیة خلق النبی الأکرم (ص) من النور. و فی بدایة البحث نستعرض بعض هذه الروایات.
ـ قَالَ النَّبِیُّ (ص): أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ نُورِی.[1]
ـ و عن جابر قال: قال رسولُ اللَّه (ص): أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ نُورِی ابْتَدَعَهُ مِنْ نُورِهِ وَ اشْتَقَّهُ مِنْ جَلَالِ عَظَمَتِه.[2]
ـ و قال جابر بن عبد الله: قلت لرسول اللَّه (ص): أَوَّلُ شَیْءٍ خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى مَا هُوَ؟ فقال: نُورُ نَبِیِّک.[3]
ـ عَنْ جَابِرٍ عن أَبِی جعفر (ع) قال: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ نُوراً مِنْ نُورِ عَظَمَتِهِ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ بِأَرْبَعَةَ عشرَ أَلْفَ عَامٍ فَهِیَ أَرْوَاحُنَا. فَقِیلَ له: یا ابن رسولِ اللَّهِ عُدَّهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَمَنْ هَؤُلَاءِ الأَرَْبعة عشرَ نوراً؟ فقال: مُحَمَّدٌ وَ عَلِیٌّ وَ فَاطِمَةُ وَ الْحَسَنُ وَ الْحُسَیْنُ وَ تِسْعَةٌ مِنْ وُلْدِ الْحُسَیْنِ وَ تَاسِعُهُمْ قَائِمُهُم.[4]
ـ عَنْ جَابِرِ بْنِ یَزِیدَ قال قال لی أَبُو جَعْفَرٍ (ع): یا جابِرُ إِنَّ اللَّهَ أَوَّلَ مَا خَلَقَ خَلَقَ مُحَمَّداً (ص) و عترتهُ الْهُدَاةَ الْمُهْتَدِینَ فَکَانُوا أَشْبَاحَ نُورٍ بَیْنَ یَدَیِ اللَّهِ. قلتُ: و ما الْأَشْبَاحُ؟ قال: ظِلُّ النُّورِ أَبْدَانٌ نُورَانِیَّةٌ بلا أَرْوَاحٍ و کان مؤَیَّداً بِرُوحٍ وَاحِدَةٍ وَ هِیَ رُوحُ الْقُدُس.[5]
فمن مجموع هذه الروایات نکتشف أن النبی الأعظم کان له وجود نوری قبل أن یخلق الله الاشیاء. إذن على أساس ما صرحت به الروایات فإنه قد خلق من النور. و من جانب آخر، ما ورد فی التاریخ هو أن النبی الأکرم قد ولد فی عام الفیل یوم الجمعة المطابق لیوم 17 ربیع الأول. هنا یرد هذا السؤال و هو أنه کیف یمکن الجمع بین هذه الحقیقة التاریخیة و بین الروایات الکثیرة التی تؤکد على خلق النبی من النور قبل خلق جمیع الکائنات؟
الجواب: هو أن المراد من هذه الروایات هو حقیقته النوریة لا الجمسانیة. أما بالنسبة إلى نشأته الجسمانیة فهو قد ولد کباقی الناس و عاش مختلف أحداث الحیاة من یسیرها و عسیرها کباقی الناس، و فی هذه الظروف و من خلال خوضه ساحات الصبر و الجهاد و العبادة قد فعّل قابلیاته باختیاره و لهذا أصبح قدوة لنا. [6]إذن فالنبی محمد (ص) له حقیقتان و نشأتان؛ الأولى حقیقته النوریة التی خلقت من النور و فی المرتبة النازلة وجوده الجسمانی الذی کان مثل باقی الناس. فکما خلق جسم باقی البشر من الطین و النطفة و…، کذلک قد خلق وجود النبیّ الجسمانی بهذا الأسلوب.
و أما السؤال الثانی
فهو هل أن الکائنات قد خلقت لأجل النبی أو أن النبی قد خلق لأجل باقی الکائنات؟
من أجل اتضاح هذا البحث نتناول هذه الروایة التی أشار إلیها العلامة الطباطبائی فی تفسیره المیزان.
"روی عن جابر بن عبد اللَّه قال: قُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ (ص): أَوَّلُ شَیْءٍ خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى مَا هُوَ؟ فقال: نُورُ نَبِیِّکَ یا جَابِرُ خَلَقَهُ اللَّهُ ثُمَّ خَلَقَ مِنْهُ کُلَّ خَیْرٍ ثُمَّ أَقَامَهُ بَیْنَ یَدَیْهِ فِی مَقَامِ الْقُرْبِ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ جَعَلَهُ أَقْسَاماً فَخَلَقَ الْعَرْشَ مِنْ قِسْمٍ وَ الْکُرْسِیَّ مِنْ قِسْمٍ وَ حَمَلَةَ الْعَرْشِ وَ خَزَنَةَ الْکُرْسِیِّ مِنْ قِسْمٍ وَ أَقَامَ الْقِسْمَ الرَّابِعَ فِی مَقَامِ الْحُبِّ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ جَعَلَهُ أَقْسَاماً فَخَلَقَ القلم من قسمٍ و اللَّوْحَ مِنْ قِسْمٍ وَ الْجَنَّةَ مِنْ قِسْمٍ، و أَقَامَ الْقِسْمَ الرَّابِعَ فِی مَقَامِ الْخَوْفِ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ جَعَلَهُ أَجْزَاءً فَخَلَقَ الْمَلَائِکَةَ مِنْ جُزْءٍ وَ الشَّمْسَ مِنْ جُزْءٍ وَ الْقَمَرَ وَ الْکَوَاکِبَ مِنْ جُزْءٍ وَ أَقَامَ الْقِسْمَ الرَّابِعَ فِی مَقَامِ الرَّجَاءِ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ جَعَلَهُ أَجْزَاءً فَخَلَقَ الْعَقْلَ مِنْ جُزْءٍ وَ الْعِلْمَ وَ الْحِلْمَ مِنْ جُزْءٍ وَ الْعِصْمَةَ وَ التَّوْفِیقَ مِنْ جُزْءٍ وَ أَقَامَ الْقِسْمَ الرَّابِعَ فِی مَقَامِ الْحَیَاءِ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نَظَرَ إِلَیْهِ بِعَیْنِ الْهَیْبَةِ فَرَشَحَ ذَلِکَ النُّورُ وَ قَطَرَتْ مِنْهُ مِائَةُ أَلْفٍ وَ أَرْبَعَةٌ وَ عِشْرُونَ أَلْفَ قَطْرَةٍ فَخَلَقَ اللَّهُ مِنْ کُلِّ قَطْرَةٍ رُوحَ نَبِیٍّ و رسول ثُمَّ تَنَفَّسَتْ أَرْوَاحُ الْأَنْبِیَاءِ فَخَلَقَ اللَّهُ مِنْ أَنْفَاسِهَا أَرْوَاحَ الْأَوْلِیَاءِ وَ الشُّهَدَاءِ وَ الصَّالِحِینَ."[7]
وقد ورد فی هذا المجال روایات أخرى:
ـ قیل للنی لولاک لما خلقت الأفلاک. [8]
ـ یَا مُحَمَّدُ وَ عِزَّتِی وَ جَلَالِی لَوْلَاکَ لَمَا خَلَقْتُ آدَم.[9]
یمکن أن نستنتج من هذه الروایات أن " الله قد خلق من نور النبی الأعظم کل شیء و کل الکمالات الوجودیة، و ذلک یعنی أن أصل الوجود خیر و کل وجود من الناحیة الوجودیة خیر بغض النظر عن حدوده و نقائصه. إذن کل الکائنات و جمیع مصادیق الوجود و الکمالات الوجودیة هی من مظاهر و إشعاعات هذا المخلوق الأول و نور المعصوم، و إن باقی المخلوقات هی مراتب مختلفة و تجلیات متعددة لهذا النور. و بعبارة أخرى إن "نور المعصوم" سبب وجود باقی الأشیاء و إن باقی الأشیاء و المخلوقات تمثل الآثار و الصور النازلة لهذه الحقیقة فی مراتبها المختلفة." [10]
إذن یمکن أن یقال إن جمیع الکائنات و المخلوقات قد خلقوا ببرکة وجود النبی الأکرم (ص) الذی کله نور. و هذه الحقیقة ثابتة فلسفیا حیث یجب أن تکون حلقة الاتصال بین واجب الوجود و الممکنات أشرف المخلوقات[11] الذی هو واسطة الفیض بین الله سبحانه و المخلوقات، و إن أشرف المخلوقات نور الحقیقة المحمدیة (ص).
إذن من جانب، إن الناس قد خلقوا ببرکة وجود النبی الأکرم (ص). و ذلک یعنی أن لا یمکن أن یخلق شیء قبل خلق النبی الأکرم (ص). إذن جمیع کائنات العالم و کذلک جمیع الناس قد خلقوا بفضل و برکة وجود النبی الأکرم (ص). و من جانب آخر إن النبی قد بعث لهدایة البشر و تتمیم مکارم الأخلاق.[12]
فالنتیجة النهائیة هی أن جمیع الأشیاء قد خلقوا ببرکة وجوده الکریم کما صرحت به الروایات، و من جانب آخر، لقد بعث النبی الأعظم من أجل هدایة الناس و کمالهم. إذن فمن حیث البعد الوجودی قد خلق الناس جمیعا من أجل النبی الأعظم، و من حیث الهدایة و الإرشاد فالنبی الأعظم قد خلق من أجل باقی الناس و الکائنات.
[1] المجلسی، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 1 - ص 97، موسسة الوفاء، بیروت، 1404 هـ ق.
[2] بحار الأنوار ج15، ص24.
[3] بحار الأنوار ج 25 ص 21.
[4] بحار الأنوار ج25، ص4.
[5] الکلینی، ابوجعفر محمد بن یعقوب الرازی، أصول الکافی، ج1، ص 442، طهران: المکتبة الاسلامیة، الطبعة الأولى، 1388هـ.ق الکلینی، الکافی، الطبعة الرابعة دار الکتب الإسلامیة، طهران، 1365 هـ ش.
[6] برنامج پرسمان.
[7] طباطبائی، محمد حسین، تفسیر المیزان، ج1 ص121 نشر مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین بقم المقدسة، 1417.
[8] بحار الأنوار، ج 16، ص 406.
[9] بحار الأنوار، ج 40، ص 18 – 21.
[10] برنامج پرسمان.
[11] غفارى، سید محمد خالد، فرهنگ اصطلاحات آثار شیخ اشراق، ص84، انجمن آثار و مفاخر فرهنگى.
[12] النوری، مستدرک الوسائل، ج11، ص18، مؤسسه آل البیت، قم، 1408 هـ ق.