إن العلة فی عدم اتخاذ الإمام (ع) أی إجراء یمکن الاجابة عنها من عدة جهات:
1- إن المعیار و المیزان فی أداء التکلیف هو العلم العادی، فالإمام لا یعمل بحسب العلم الباطنی (علم الغیب) الذی لدیه عندما یطیع الأوامر الإلهیة، و إنما یسلک فی ذلک مثل سلوک الأشخاص العادیین، و إذا فرضنا أن الإمام یعمل على أساس علمه بالغیب فلا یمکن أن یکون أسوةً وقدوةً للناس. لأن الناس لا یملکون مثل هذا العلم.
2- إن نظام هذا العالم نظام الامتحان والاختبار، و إن العمل على أساس علم الغیب یلغی أرضیة الامتحان و الاختبار، لأنه یکون مانعاً لإدامة الأعمال العادیة.
و بعبارةً أخرى: صحیح أن الإمام علیا (ع) مکلفٌ بالدفاع عن نفسه کما هو الحال بالنسبة للأفراد العادیین، و لکن هذا التکلیف و الوظیفة لا بد و أن یکون فی حدود العلم العادی، و لا تشمل على الغیب هذا أولاً، و ثانیاً إن الطرف الآخر لهذا العمل (شهادة الإمام علی (ع) هو ابن ملجم و هو فی حال امتحان، و لا ینبغی أن یکون علم الغیب لدى الإمام مانعاً لحریته و اختیاره، فلو أراد الإمام أن یعمل طبقاً لعلمه الغیبی فنتیجة ذلک هی سلب الاختیار من ابن ملجم، و لم توجد أرضیة لاختباره و امتحانه فی البین.
إن الإمام لا یعمل بحسب علمه الباطنی و علم الغیب حینما یؤدی تکلیفه بإطاعة أوامر الله تعالى، و إنما یسلک کما یسلک سائر الأفراد العادیین، و هو کغیره على حد سواء مع سائر الناس بالنسبة لجمیع أحکام الشرع، لأن الله سبحانه فرض جمیع أحکامه على جمیع عباده بشکل متساوٍ، و على هذا الأساس فإن النبی (ص) لم یقضِ بین الناس على أساس العلم الباطنی، و إنما کان قضاؤه على أساس العلم العادی و کذلک کان یقول (ص):
(إنما أقضی بینکم بالبینات والإیمان وبعضکم ألحن بحجته من بعض فأیما رجل قطعت له من مال أخیه شیئاً فإنما قطعت له به قطعةً من النار).[1]
و المراد أنه لا بد لکل صاحب ادعاء من شاهد أو أن یؤدی الیمین حتى أحکم له، سواء کان صادقاً أو کاذباً، و إذا کان کاذباً فما یأخذه أشبه بأخذه قطعةً من النار.
و على هذا الأساس على الرغم من أن الإمام علیا (ع) له علم غیبی بزمان و کیفیة شهادته، و لکنه مأمور بالعمل على أساس الظاهر و لیس له حق بالعمل طبقاً لعلمه الغیبی، و السبب هو أن الإمام قدوة للمجتمع الإسلامی، و لابد له أن یؤدی تکلیفه بالطرق والکیفیات العادیة المتیسرة لعموم الناس، و أن یأخذ بنظر الاعتبار ظروف وشروط المحیط الاجتماعی المتعارف، و لا یکون عمله خارجاً عنها، و إذا أراد الإمام العمل طبقاً لعلمه بالغیب، فلا یمکن أن یکون قدوةً و أسوةً للناس، لأن الناس لیس لدیهم مثل هذا العلم، یضاف إلى ذلک أن عمل الأئمة (ع) بحسب ما لدیهم من علم بالغیب یربک العمل الاجتماعی، وعلیه فإنهم عادة و فی أکثر الموارد یعملون طبقاً للعلم العادی، إلا فی الموارد النادرة و الاستثنائیة القلیلة، فأنهم یعملون بها بحسب علم الغیب لدیهم.
یضاف إلى ذلک أن نظام هذا العالم هو نظام الامتحان و الاختبار، و فی ذلک یقول القرآن: (أحسب الناس أن یترکوا أن یقولوا آمناً و هم لا یفتنون)[2] و فی آیة أخرى: (الذی خلق الموت و الحیاة لیبلوکم أیکم أحسن عملاً و هو العزیز الغفور)[3].
و من لوازم الامتحان و الاختبار أن یکون السلوک و العمل على أساس الإرادة و الاختیار فی انتخاب الحسن و القبیح و أن الأمور تجری على نسقها العادی و الحصول على النتیجة فی ساعة الآخرة. فی حین یلغی العمل على أساس علم الغیب أرضیة الامتحان و الاختبار، لأنه یمنع من استمرار الأعمال العادیة.
و صحیحٌ أیضاً أن الإمام علیا مکلفٌ کغیره من الناس بحفظ نفسه و الدفاع عنها و لکن أولاً: إن هذا التکلیف بحدود العلم العادی و لا یشمل علم الغیب. و ثانیاً: إن الطرف الآخر لهذا العمل (شهادة الإمام علی (ع) هو ابن ملجم وهو فی حال امتحان، و لا ینبغی أن یکون علم الإمام مانعاً لحریته و اختیاره، فلو أراد الإمام العمل طبقاً لعلمه بالغیب لأدى ذلک إلى سلب الاختیار من ابن ملجم، و لم تبقَ له أرضیةٌ الامتحان و الاختیار، وهذا خلاف للسنة الإلهیة فی حین أن سنن الله – و بضمنها سنة امتحان العباد- لا تتبدل و لا تتغیر، یقول القرآن المجید فیما یخص السنن الإلهیة: (فلن تجد لسنة الله تبدیلاً و لن تجد لسنة الله تحویلا)[4].
و على هذا الأساس، بما أن العمل بعلم الغیب یوجب تغییر و تبدیل السنن الإلهیة (الاختبار و الامتحان) فلا ینبغی للإمام أن یعمل به.