بعض الأمور هی من الابتلاء الإلهی قطعاً حتى یعرف موقف الإنسان مقابل هذه الأمور، و هذا الموقف و التعامل مع الحوادث هو الذی یکوّن شخصیة الإنسان الباطنیة الحقیقیة. و یتبع تشخیص و ظهور نوایا الإنسان و طریقة تعامله و معالجته لهذه الحوادث تمییز الکافر و المؤمن و المنافق عن بعضهم، و من جملة هذه الأمور: الموت و الحیاة، الفقر و الغنى، العقل و الشهوة، و الأنبیاء و الأولیاء، من جانب و الشیاطین و الموسوسین من جانب آخر، عاجل الدنیا و آجل الآخرة، الاختلافات التکوینیة و العرقیة بین الأشخاص و تفاوت القابلیات و الاستعدادات و طبیعة الوجود و ما فیه من شرور و موجودات مؤذیة و مضرة.
و سواء شاء الإنسان أم أبى، صالحاً کان أم طالحاً لابد له من تجاوز هذا الامتحان. و لکن البلایا التی تصیب الإنسان عقیب الذنب و المعصیة بعنوان العقاب و الجزاء فإنها تفضی إلى تنبیه الإنسان لیترک المعاصی و یطلب الاستغفار، و إن الصبر و التحمل فی هذه الحالة یکون سبباً لتکفیر الذنوب و جبران ما فات، فالإنسان على نفسه بصیرة، فبإمکانه أن یشخص خطأه، و إن مجیء هذه المشاکل بعد ارتکاب الذنوب، هو علامة دالة على تشخیصها و تمییزها عن سائر الابتلاءات.
إن طبیعة الإنسان وجدت على کیفیة لو ترک معها و نفسه من دون أن یتعرض للمشاکل و المصاعب و العقبات فإنه ینتابه الغرور و الإعجاب الذی یحمله على التکبر و الاستکبار و الغفلة عن التفکیر فی العواقب، و من أجل الحد من هذه الظاهرة المعضلة اقتضت حکمة الله تعالى أن تکون حیاة الإنسان محفوفة بالضعف و المشاکل و ملیئة بالعقبات الطبیعیة أو التی یصنعها الإنسان بنفسه، و علیه فالأمور التی تواجهه کالأمراض و الإعاقة و الموت، و الفقر و الغنى، السیول و الزلازل، الطوفان و البراکین، الحشرات المؤذیة و الحیوانات المفترسة و ... کل هذه الأمور تحیط بالإنسان من الخارج و تهدد حیاته، إضافة إلى ما فی داخله من تضاد بین القوى و المؤثرات، فقد تتجاذبه و تستقطبه عدة محاور، العقل و الشهوة، الأنبیاء و الصالحون من جانب و الشیاطین الموسوسون من جانب آخر، محدودیة الدنیا و لزوم العلم و الإیمان بالغیب. و إن موقف الإنسان و مواجهته لهذه المعضلات التی تطوقه جسمیاً و نفسیاً هی التی تکون شخصیته و ترسم معالمهما و تبرز هویته الحقیقیة. فالعقل و الفطرة من الداخل و الأنبیاء و الصالحون من الخارج هداة الإنسان إلى الموقع الصحیح و المناسب لمواجهة مثل هذه العقبات و المؤثرات الخارجیة و الداخلیة لیتسامى فی طریق الکمال الإنسانی، و أما الشهوات الحیوانیة و المیول و الآمال العریضة من الداخل و شیاطین الإنس و الجن من الخارج، فإنهما یحولان بین الإنسان و بلوغ سعادته، و ذلک حتى یختار طریقه بنفسه، لأن قضاء الله مرتبط باختیار الإنسان، و لیس للإنسان من مفر أو ملجأ من مواجهة هذه الأمور.
و لهذا من الممکن القول: إن کل عالم الوجود بما یحتوی من نعم و ابتلاءات هو میدان للامتحان و الاختبار بالنسبة للإنسان المختار کما أنه مسخر له، و إن ابتلاءاته هی نعمة فی واقعها و سبب لتمهید إمکان الاختیار و ما یتبعه من تعال و ترقٍ لنفسه فی الدنیا و الآخرة، و لولا وجود هذه العقبات و المشاکل لأصبح تکامل الإنسان و ترقیه أمراً محالاً.
و فی هذا المضمار فإن نصیب أولیاء الله هو الأکبر من الابتلاءات؛ لأنهم الأکثر استعداداً للترقی و التکامل، و إن الابتلاءات التی تواجه الأنبیاء و الأولیاء تنتج عدة أمور:
1- تقویة إرادتهم و نفوسهم، و توسع وجودهم، و تقوی ولایتهم التکوینیة.
2- ارتقائهم فی منازل الآخرة و درجاتها. [1]
3- إعراضهم عن الدنیا و توجههم إلى الآخرة، و ما أعد لهم عند الله من الثواب.
4- الإکثار من التضرع و الإلحاح على الله و الالتجاء إلیه و ذکر الله و السعی فی الازدیاد من متاع الآخرة، و من الطبیعی أن الأولیاء یستقبلون هذه الابتلاءات بالرضا و طیب الخاطر، و إن مواجهة هذه المعضلات تزید من إیمانهم و یقینهم و رضاهم، لیزداد شوقهم لملاقاة الله سبحانه، لأن کل امتحان یعقبه ارتقاء فی الدرجة و المرتبة و إن عمر الدنیا القصیر بالنسبة إلى الآخرة، و ابتلاءات الدنیا مقابل نعیم الآخرة الدائم لا تقبل القیاس أصلاً. فإذا ما وجهنا نظرة عاجلة إلى کربلاء فی العام 61 للهجرة فسوف نجد الأمثلة البارزة لمثل هذا اللون من العشق الإلهی.
و أما أصحاب الاستعدادات المحدودة و القابلیات الضعیفة فإنهم یواجهون من الامتحانات ما یتناسب مع استعداداتهم و قابلیاتهم، و إذا ما خرجوا من هذا الامتحان بنجاح و برؤوس مرفوعة فإنهم یواجهون مرحلة أخرى من الامتحان و الابتلاء، و الأمر الملفت هو أن الامتحان لا یتم بنحو واحد و کیفیة واحدة، فبعض یمتحنون بالفقر، و آخرون بالغنى، و بعض بالمصائب و النوائب و آخر بوفور النعمة. بعضهم یمتحن بالعافیة و الآخر بالمرض، و هناک من یمتحن بالعلم و التوفیق له، و الآخر بالعبادة و ریاضة النفس، و یمکن أن یمتحن الإنسان بأکثر من نوع من أنواع الامتحانات فی فترات زمنیة مختلفة، و ذلک یتعلق بمدى استعداده و تهیئه للدخول فی أی امتحان و اختبار، و هذا الاستعداد هو نتیجةً لأعماله و أفعاله حتى و إن کان غیر شاعر بعمله. و الابتلاءات التی مر ذکرها شاملة و مستوعبة لکل أفراد الإنسان، و کل یبتلى بنوع من أنواعها و لا یتسنى لأحد أن یفلت من قبضتها.[2] و لکن بعض الابتلاءات تأتی على اثر تخلف الإنسان و إعراضه عن إطاعة القوانین الإلهیة و حتى بسبب خطئه و اشتباهه، و هذا النوع من الابتلاءات یشمل غیر المعصومین فقط و لا یمکن أن یمتد إلى ساحة العصمة، لأن المعصوم منزه عن المعاصی و الذنوب، فلا معنى لتکفیر ذنوبهم بواسطة هذه الابتلاءات.
و أما بالنسبة للآخرین فتحقق الابتلاءات عدة أمور:
أ- عذاب مقطعی محدود و قصیر لأجل التنبیه و التذکیر و منع الغرور و التکبر، و حملهم على الدعاء و التضرع و التوجه إلى الله تعالى، و إتمام الحجة على الإنسان.[3]
ب- عذاب الإمهال و الاستدراج: و ذلک للذین یتمادون فی غیهم و استکبارهم و لا یقلعون عن غرورهم، و هم الذین أنساهم الانغماس فی النعم الدنیویة وجود الله و القیامة و الموت و کرامة الإنسان و کل القیم.[4]
ج - عذاب الاستئصال: و ذلک ما یأتی فی ذروة الغرور و التکبر حیث تحیط بهم العقوبة الإلهیة بشکل مفاجئ و سریع فیواجهون جهنم فی عالم البرزخ، حتى یلاقوا العذاب الأخروی یوم القیامة[5].
النوع الأول یعد من النعم الإلهیة و سبب إلى الیقضة و الادّکار بالنسبة للإنسان، فهو یطیل عمر إیمانه، و إن صبر الإنسان على هذه الابتلاءات و تضرعه و دعائه و إنابته هی أسباب و وسائل لمحو سیئاته و تبدیلها بحسنات، و تساهم فی ارتقائه درجات فی طریق السیر إلى الله سبحانه، و تنتشله من الغفلة و التبلّد و الجهل، و فی نهایة الأمر تقیه من العذاب الإلهی و تقربه إلى الله سبحانه.
أما النوعان الثانی و الثالث: فهو ما یکون من عذاب الله فی الدنیا للمعاندین و المتکبرین و إن کانوا فی ظاهر الأمر من أهل النعیم و الرفاه.
و بتعبیر القرآن: «بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِیرَةٌ * وَ لَوْ أَلْقَى مَعَاذِیرَهُ»[6] و إن معرفته و إطلاعه على نوایاه و أعماله و سلوکه أکثر من أی أحد آخر، و إذا سلک سبیل الإنصاف و تخلى عن التأویلات و إلقاء القصور و التقصیر على کاهل الآخرین، فإنه قادر على تشخیص ما هو خاطئ عما هو صواب من أعماله و تصرفاته. و على هذا الأساس فإذا ما أصابه بلاء عقیب سوء نیّة او ذنب أو معصیة فلیعلم أن ذلک لصالحه و أنه من عنایة الله و لطفه و إحسانه حتى یثوب إلى رشده و یرجع عن غیه فیحید عن طریق المعاصی و الذنوب.
فإذا ما شکر هذه النعمة (الابتلاء و التنبیه) و نفض یده عن هذه الأمور، فسوف تنزل علیه الرحمات الإلهیة، و الإرشادات و الإلهامات، لتنتشله عن طریقه غیر المستقیم، و تحول دونه و دون الأعمال الطالحة.[7]
و أما إذا کان متهاوناً بالنسبة لأوامر الله و نواهیه، و لا یقیم أی وزن و اعتناء للإشارات و التنبیهات و إتمام الحجة فإن الله یترکه و شأنه، ثم یجعله محروماً من تنبیهه و إرشاده، حتى یغرق شیئاً فشیئاً فی الرفاه و الراحة فیبتعد عن الله شیئاً فشیئاً و یحرم من رحمته و ألطافه و عنایته، فیکون مستحقاً للعقاب الدائم (الاستدراج).
و الخلاصة هی: إن الدنیا و مادیاتها و ما فیها من زبرج و إغراء و ما یواجه الإنسان من حوادث جمیعها من باب الابتلاء و الامتحان الإلهی بالنسبة إلى الإنسان، حتى تکون مواجهتها و تجاوزها عاملاً فی بناء شخصیة الإنسان و هویته، و سبباً لارتقائه و تکامل إنسانیته إذا أحسن الاستفادة منها، و اتبع تعالیم الأنبیاء حتى یکون له رد فعل مناسب إزاء هذه الابتلاءات و الامتحانات و لکنه إذا تمادى فی غیه و أصر على ذنبه و خطأه، و إذا تکرر تنبیهه و تحذیره دون جدوى، فإنه سوف یتعرض إلى عذاب الاستئصال أو یکون عرضة لعذاب الاستدراج
المصادر:
1- القرآن الکریم.
2- التفاسیر المختلفة، تفسیر الآیات المتقدمة.
3- الموسوی الخمینی ، روح الله، شرح الأربعین حدیثاً، ص 236 - 246، 589.
4- مصباح الیزدی، محمد تقی، معارف قرآن (راه و راهنماشناسى)"معارف القرآن (الطریق و معرفة الهداة)" ج4و5، ص115 – 153.