یعد القصاص إحد الحقوق الجزائیة فی الاسلام. و أن القصاص لیس انتقاما، بل هو السبیل إلى ضمان حیاة النّاس، فانه یضمن حیاة المجتمع، إذ لو انعدم حکم القصاص، و تشجّع القتلة القساة على تعریض أرواح النّاس للخطر- کما هو الحال فی البلدان التی ألغت حکم القصاص- لارتفعت إحصائیات القتل و الجریمة بسرعة، و من هنا عبر عنه القرآن الکریم بکون حیاة "ولکم فی القصاص حیاة".
ثم إن من أهم أهداف القانون الجزائی فی الاسلام حفظ النظام الاجتماعی و الدینی، و هذا الهدف الکبیر لا یمکن تأمینه الا من خلال الاصلاح و التربیة او من خلال الترهیب و الترهیب و وضع القوانین الرادعة التی تضرب على ید المتجاوزین على حقوق الآخرین.
یعد القصاص إحدى الحقوق الجزائیة فی الاسلام. و القصاص لغة: القصُّ اتِّباع الأَثر. و یقال: خرج فلان قَصَصاً فی أَثر فلان و قَصّاً، و ذلک إِذا اقْتَصَّ أَثره.[1] و أما اصطلاحا فیعنی:" استیفاء اثر الجنایة من قتل أو قطع أو ضرب أو جرح، فکأن المتقص یتبع أثر الجانی، فیفعل مثله".[2]
و القصاص تشریع راق سواء کان فی عصر التبلیغ أم فی عصرنا الراهن، یقول صاحب تفسیر الامثل فی ذیل تفسیر الآیة 179 من سورة البقرة: شاع بین القبائل العربیة انتقام قبیلة من قبیلة أخرى، و لم یکن لهذا الانتقام حدود، فقد یقتل رجل فتهدد قبیلته قتل کل رجال قبیلة القاتل، فنزلت الآیة و شرعت حکم القصاص.[3] و الجدیر بالذکر أن الخصومة و العداء بین القبیلتین کان یمتد بعض الاحیان عدّة سنین و تتجذر الاحقاد فی النفوس و تتعمق العداوة بینهم.
و من هنا تبین الآیة (آیة القصاص) أنّ القصاص، حق لأولیاء المقتول، و لیس حکما إلزامیا، فإن شاؤوا أن یعفوا و یأخذوا الدیة، و إن شاؤوا ترک الدیة فلهم ذلک، و تقول: "فَمَنْ عُفِیَ لَهُ مِنْ أَخِیهِ شَیْءٌ" فبعد تبدل حکم القصاص عند عفو أولیاء المقتول إلى دیة "فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ" أی فعل العافی إتباع بالمعروف، و هو أن لا یشدّد فی طلب الدّیة و ینظر من علیه الدیة "وَ أَداءٌ إِلَیْهِ بِإِحْسانٍ" أی على المعفوّ عنه أن یبادر إلى دفع الدیة عند الإمکان، و أن لا یماطل.
التوصیة إلى من له الدیة أن لا یشددّ فی طلبه، و أن یستوفی حقّه بشکل معقول... و على من علیه الدیة أن یؤدیها بإحسان، و أن لا یسوّف و یماطل.
و هذا الأمر بالقصاص و بالعفو یشکل ترکیبا انسانیا منطقیا. فهو من جهة یدین التقالید السائدة فی الجاهلیة الأولى و الجاهلیات التالیة إلى یومنا هذا القاضیة بالانتقام للمقتول الواحد بقتل الآلاف[4].
و من جهة اخرى، یفتح باب العفو أمام المذنب، مع الحفاظ على احترام الدم و ردع القاتلین.
و من جهة ثالثة، لا یحقّ للطرفین بعد العفو و أخذ الدیة التّعدّی، خلافا للجاهلیین الذین کانوا یقتلون القاتل أحیانا حتى بعد العفو و أخذ الدیة.
ثم تجیب الآیة التالیة عن کثیر من الأسئلة المطروحة فی حقل القصاص، و تقول: "وَ لَکُمْ فِی الْقِصاصِ حَیاةٌ یا أُولِی الْأَلْبابِ لَعَلَّکُمْ تَتَّقُونَ".
هذه الآیة بکلماتها العشر، تضع الإطار العام- ببلاغة و فصاحة متناهیتین- للقصاص فی الإسلام، و تبین أن القصاص لیس انتقاما، بل السبیل إلى ضمان حیاة النّاس.
إنه یضمن حیاة المجتمع، إذ لو انعدم حکم القصاص، و تشجّع القتلة القساة على تعریض أرواح النّاس للخطر- کما هو الحال فی البلدان التی ألغت حکم القصاص- لارتفعت إحصائیات القتل و الجریمة بسرعة.
و هو من جهة أخرى، یصون حیاة القاتل، بعد أن یصدّه إلى حدّ کبیر عن ارتکاب جریمته.
کما أنه یصون المجتمع بجعله قانون المماثلة من الانتقام و الإسراف فی القتل على طریقة التقالید الجاهلیة التی تبیح قتل الکثیر مقابل فرد واحد. و هو بذلک یصون حیاة المجتمع.
و مع الأخذ بنظر الاعتبار أن القصاص مشروط بعدم العفو عن القاتل فهذا الشرط نافذة أمل للحیاة أیضا بالنسبة للقاتل.
و عبارة "لَعَلَّکُمْ تَتَّقُونَ" تحذیر من کل عدوان لتکمیل هذا الحکم الإسلامی العادل الحکیم.
فالنظرة الإسلامیة نظرة شمولیة فی کل المجالات، قائمة على احتساب جمیع جوانب الأمر الذی تعالجه. مسألة صیانة دم الأبریاء عالجها الإسلام بشکل دقیق بعید عن کل إفراط أو تفریط، لا کما عالجتها الدیانة الیهودیة المحرّقة التی اعتمدت القصاص، و لا الدیانة المسیحیة المحرّفة التی رکزت على العفو ... لأن فی الاولى خشونة و انتقاما، و فی الثانیة تشجیعا على الإجرام.[5]
ومن أهم الادلة و التبریرات لجعل قانون القصاص هو حفظ حیاة المجتمع حیث قال تعالى فی سورة البقرة مبینا فلسفة هذا التشریع "و لکم فی الحیاة قصاص یا أولی الالباب"[6].
و قد تعرض العلامة الطباطبائی (ره) لبعض الاشکالات و الاعتراضات او وضع البدائل لحکم القصاص مع الرد علیها قائلا:
و أما ما ذکروه من حدیث الرحمة و الرأفة بالإنسانیة فما کل رأفة بمحمودة و لا کل رحمة فضیلة، فاستعمال الرحمة فی مورد الجانی القسی و العاصی المتخلف المتمرد و المتعدی على النفس و العرض جفاء على صالح الأفراد، و فی استعمالها المطلق اختلال النظام و هلاک الإنسانیة و إبطال الفضیلة.
و أما ما ذکروه أنه من القسوة و حب الانتقام فالقول فیه کسابقه، فالانتقام للمظلوم من ظالمة استظهارا للعدل و الحق لیس بمذموم قبیح، و لا حب العدل من رذائل الصفات، على أن تشریع القصاص بالقتل غیر ممحض فی الانتقام بل فیه ملاک التربیة العامة و سد باب الفساد.
و أما ما ذکروه من کون جنایة القتل من الأمراض العقلیة التی یجب أن یعالج فی المستشفیات فهو من الأعذار (و نعم العذر) الموجبة لشیوع القتل و الفحشاء و نماء الجنایة فی الجامعة الإنسانیة، و أی إنسان منا یحب القتل و الفساد علم أن ذلک فیه مرض عقلی و عذر مسموع یجب على الحکومة أن یعالجه بعنایة و رأفة و أن القوة الحاکمة و التنفیذیة تعتقد فیه ذلک لم یقدم معه کل یوم على قتل.
و أما ما ذکروه من لزوم الاستفادة من وجود المجرمین بمثل الأعمال الإجباریة و نحوها مع حبسهم و منعهم عن الورود فی الاجتماع فلو کان حقا متکئا على حقیقة فما بالهم لا یقضون بمثله فی موارد الإعدام القانونی التی توجد فی جمیع القوانین الدائرة الیوم بین الأمم؟ و لیس ذلک إلا للأهمیة التی یرونها للإعدام فی موارده، و قد مر أن الفرد و المجتمع فی نظر الطبیعة من حیث الأهمیة متساویان.[7]
یقول الشهید المطهری فی ذیل الآیة المبارکة: لا تعتبروا هذا النوع من القتل إماتة و اعداما بل یجب تلقیه على أنه عین الحیاة و لکن لیست حیاة الشخص القاتل و انما حیاة الجماعة، فبالقصاص تحفظ حیاة الجماعة و حیاة سائر الافراد. فان لم یتصد المجتمع للمجرم و یضرب على یدیه سیقترف جریمة اخرى غدا، بل سیظهر على الساحة عشرات الافراد یمارسون الجریمة بکل ارتیاح و أمن و عندها سیفقد المجتمع العشرات من الافراد بل المئات و هکذا تأخذ القضیة مجرى تصاعدیا، أ لیس المقتولون من أفراد المجتمع و أ لیس فی قتلهم احداث نقص فی المجتمع؟! لماذا تلحظ القضیة من جهة المجرمین فقط دون المغدورین و المظلومین، و من هنا لا ینبغی أن نتلقى القصاص احداث نقص فی أفراد المجتمع، و لا ینبغی عده قتلا و إماتة للمجتمع، بل هو حیاة و مواجهة مع الانحراف و حب للنوع الانسانی.[8]
انطلاقا من ذلک کله، اذا وصلت الانسانیة الى مرتبة عالیة من التکامل الاخلاقی بحیث یمکن تحصیل الهدف الاجتماعی من وراء تشریع القصاص (حیاة المجتمع) من دون حاجة الى القتل و الاعدام فحینئذ یکون من الارجح اعتماد الاسلوب الثانی دون القصاص؛ و ذلک لان لیس هدف المجتمع الاعدام بل الهدف الحیاة و أن الله تعالى رحیم بجمیع عباده، من هنا نرى الآیة الکریمة تخاطب عقول الناس الحکماء و تتحدث مع العقلاء لا مع المشاعر و الاحاسیس و العواطف، فقتول" ولکم فی القصاص حیاة یا أولی الالباب".
فالحیاة الاجتماعیة السلیمة تتوقف على وجود الامن الاجتماعی و الاستقرار العام و رعایة الحقوق و التکالیف المتقابلة، و الامن العام یتوقف على حفظ اصول و ارکان الحیاة الاجتماعیة. و بنظرة استقرائیة نرى – لا على سبیل الحصر- ان عناصر الحیاة الاجتماعیة عبارة عن: الدین، الروح، المال، احترام عرض و شخصیة الانسان و عقل الانسان. تلک الاصول التی حظیت بعنایة خاصة فی الفکر الاسلامی تمثل المرتکزات الاساسیة فی تألیف المجتمع المثالی، و یمکن من خلال ملاحظة الجزئیات الداخلة تحت تلک العناوین یمکن تحقیق جمیع مصالح المجتمع و تأمینها.[9]
یمکن القول استنادا الى جمیع ما مرّ: إن من أهم أهداف القانون الجزائی فی الاسلام حفظ النظام الاجتماعی و الدینی، وهذا الهدف الکبیر لا یمکن تأمینه الا من خلال الاصلاح و التربیة او من خلال الترهیب و الترهیب و وضع القوانین الرادعة التی تضرب على ید المتجاوزین على حقوق الاخرین.
[1] ابن منظور، لسان العرب، ج11، ص 190.
[2] النجفی، محمدحسن، جواهرالکلام، تحقیق، قوچانی، عباس، ج 42، ص 7، دار إحیاء التراث العربی، بیروت، الطبعة السابعة.
[3] مکارم الشیرازی، ناصر، الأمثل فی تفسیر کتاب الله المنزل، ج1، ص: 501، نشر مدرسة الامام علی بن أبی طالب (ع)، قم، الطبعة الاولى، 1421ق.
[4] من هنا جاء التعبیر القرآنی للحد من الافراط فی القصاص فی سورة المائدة الآیة 45: "وَکَتَبْنَا عَلَیْهِمْ فِیهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَیْنَ بِالْعَیْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالأذُنَ بِالأذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ کَفَّارَةٌ".
[5] الأمثل فی تفسیر کتاب الله المنزل، ج1، ص: 503- 504.
[6] البقرة،179.
[7] الطباطبائی، محمد حسین،المیزان فی تفسیر القرآن، ج1، ص: 438، نشر جامعة مدرسی الحوزة العلمیة، قم، الطبعة الخامسة، 1417ق.
[8] المطهری، مرتضی، مجموعه آثار، ج 22، ص 749، طهران، انتشارات صدرا.
[9] خسروشاهی، قدرت الله، فلسفه قصاص از دیدگاه اسلام، ص 198، قم، بوستان کتاب، الطبعة الاولی، 1380ش.