إن دلیل الإیمان بالأنبیاء فی جمیع العصور هو مضمون تعالیمهم التی قاموا من أجلها قبل أن تکون رؤیة المعاجز الخارجیة للأنبیاء. و فی الواقع کانت هذه المعاجز فی ضمن الحجج الواضحة التی کانت مدعاة لإیمان الناس، مضافا إلى أن هناک فوارق ذاتیة بین الأعمال الخارقة للعادة و معاجز الأنبیاء بحیث یمکن التفکیک بینهما و من أهم هذه الفوارق مقطعیة أثر السحر و دوام أثر المعجزات.
من أجل الجواب عن هذا السؤال یمکن أن نتناول الموضوع من عدّة جهات و بتعابیر مختلفة:
1. أدلة حقانیة الأنبیاء
فی البدایة نواجه هذا السؤال و هو هل أن الدلیل الوحید على حقانیة الأنبیاء هو المعاجز التی کانت تشبه الأفعال الخارقة للمرتاضین بحسب الظاهر؟
إن عمدة الأدلة التی کانت تلزم طلاب الحق على اتباع نهج الأنبیاء تکمن فی فطریة تعالیم الأنبیاء و انطباقها على احتیاجات الإنسان فی حرکته التکاملیة. نحن نعلم أن تعالیم الأنبیاء کانت على مرّ التاریخ و فی جمیع المراحل فی قمّة المعرفة و الإدراک البشری و کان أعداء الأنبیاء جمیعا من الجهلاء و الظالمین الذین ما کانت لهم أیة رغبة بتکاملهم و تکامل المجتمع البشری سوى الایغال فی التوحّش و التهام الشعوب و نهبها.
فی هذه الظروف ظهر رجال مصطفون قاموا بهدایة الناس و نهضوا أمام الظلم و کانوا سبباً لنجاة الناس فی جمیع العصور. إنّ الرجال الأفضل کمالا کانوا یستلمون القیادة الفکریة و المعنویة بین الناس بشکل تلقائی و لکن عملیة الهدایة التی کانت تجرى على ید أنبیاء الله العظام کانت تثیر ثورات عظیمة و تحولا کبیرا على مستوى الوعی العام.
إن کثیرا من الصفات و القدرات و العلوم التی کان یحظى بها هؤلاء المصطفون من الناس کانت بالنسبة إلى الناس العادیین أمراً خارقاً من قبیل قدرتهم فی البیان و العلم الکثیر سواء فی العلوم الظاهریة أم العلوم الباطنیة و کذلک عصمتهم و براءتهم من الذنوب و کشفهم و مشاهداتهم الغیبیة و جاذبیتهم الشخصیة و… مع هذا کان الأنبیاء فی بعض الظروف الخاصة و بإذن الله یأتون بمعاجز ضخمة و باهرة لیتموا الحجة على الناس جمیعاً و لا یترکون ذریعة لدى المنکرین، أو کانوا ینصرون أتباعهم ویدفعون بمعاجزهم شر الظلمة و المتفرعنین الذین کانوا یستثمرون الضعفاء، من قبیل الکثیر من المعاجز التی کان یأتی بها النبی موسى (ع) کإظهار الثعبان و فلق البحر… و کثیر من أعمال النبی عیسى (ع) فی إشفاء المرضى رأفة و شفقة بالناس، فهی کانت فی الواقع مجرى لانتقال رحمة الله و فیضه على عباده المبتلین.
إذن دلیل إیمان المؤمنین بالأنبیاء فی أیّ عصر هو مضمون تعالیمهم التی قاموا من أجلها قبل أن تکون رؤیة المعاجز الخارجیة للأنبیاء، و فی الواقع کانت هذه المعاجز فی ضمن الحجج الواضحة التی کانت مدعاة لإیمان الناس. و فی المقابل عندما شاهد الظالمون و الکفار هذه المعاجز لم یفعلوا سوى أن أظهروا عجزهم فلم یحصل فیهم أی إیمان بل ازدادوا جحدا و إنکارا کفرعون و نمرود و شداد و غیرهم الذین کانوا قد شاهدوا أکبر المعاجز.
إذن من الخطأ أن نتصور أن سبب توسع الأدیان و إقبال الصالحین إلیه إنما بسبب رؤیة هذه الأمور الخارقة للعادة التی یمکن أن تصدر من أیّ ساحر و لکن الناس کانوا عاجزین عن مواجهة هذه الأعمال!!. إذن لم یؤمن أحد بأی دین عن کره و إرعاب و بلا إدراک و معرفة عمیقة تجاه دینه إلا طائفة المنافقین الذین لم یجدوا بدا سوى إظهار الإیمان.
2ـ الفرق بین معاجز الأنبیاء و أعمال السحرة و المرتاضین
بالإضافة إلى الفوارق الذاتیة الموجودة بین أعمال السحرة و المرتاضین و بین معاجز الأنبیاء التی قد ذکرت فی محلها،[1] أحد أهم الفوارق الرئیسیة تکمن فی الهدف من إظهار هذه المعاجز و کان یجد هذا الهدف کل من کان یرى شخصیة الأنبیاء. إذن هذه الأعمال الخارقة التی لم یکن منشؤها سوى الاستعراض و إظهار البطولات و لم تمارس ضمن رسالة سامیة و إلهیة و إنسانیة فهی بنفسها تکشف عن أنها تصدر من مصدر شیطانی کالسحر و الشعوذة.
یقول القرآن حول أفعال السحرة:
"فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَیُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا یُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدین"[2]
یعنی قد یبقى أثر هذه الأعمال لمدة قصیرة بقدر أثر الکثیر من السحر و الشعوذة التی کانت دائما، و لکنها إن أقیمت لإثبات دعوى باطلة، یبطلها الله و یفضحها و یلغ أثرها، بخلاف معاجز الأنبیاء التی لا یمکن أن تبطل أبدا.
3ـ شأن الإعجاز فی رسالة الأنبیاء
لابد أن نتناول هذا البحث و هو لماذا کان الأنبیاء یمارسون الإعجاز و هل أن کل رسالتهم هی أن یدعو الناس لتبعیتهم عن طریق الإعجاز أو کان الإعجاز أمرا عرضیا یظهره الأنبیاء حسب الظروف؟
نحن نعلم إنه لم یکن الأنبیاء سواء فی ممارسة المعاجز الظاهریة. ففی الإسلام قد تمّ أکثر الاهتمام بالحجج المعرفیة و نادرا ما اعتمد النبیّ على المعاجز الظاهریة. و فی جمیع أو أکثر الموارد التی أشار فیها القرآن الکریم إلى الذین طالبوا النبیّ بالإعجاز، لم یعتبر هذه المطالبات رغبة فی الهدایة و لم یلبّ طلبهم آنذاک، إذ أن تلبیة طلبهم فی الواقع عبارة عن نزول عذاب خاتم لکل هذه المجادلات و النقاشات:
"سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ * لِلْکافِرینَ لَیْسَ لَهُ دافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِی الْمَعارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلائِکَةُ و الرُّوحُ إِلَیْهِ فی یَوْمٍ کانَ مِقْدارُهُ خَمْسینَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْراً جَمیلاً * إِنَّهُمْ یَرَوْنَهُ بَعیداً * وَ نَراهُ قَریباً * یَوْمَ تَکُونُ السَّماءُ کَالْمُهْلِ * وَ تَکُونُ الْجِبالُ کَالْعِهْنِ"[3]
إذن قد صبّ القرآن أکثر اهتمامه بالإیمان الحاصل عن طریق الحجج المعرفیة بدلا عن إرغام المخالفین عن طریق المعاجز ـ غیر بعض الموارد الخاصة التی مدعاة للتأمل-. إن هذه الظاهرة أی عرضیة الإعجاز فی رسالة الأنبیاء مشهودة فی جمیع الأدیان الإلهیة إلى حد ما و لکن بلغت کمالها فی الإسلام، حیث إن المعجزة الأولى للنبی الأعظم (ص) هی القرآن و هو کلام الله و کتاب معرفة الله.
[1] بإمکانک أن تراجع موضوع : تعریف الإعجاز وإثباته رقم 901الموقع: 989) فی هذا المجال.
[2] یونس، 81.
[3]المعارج،1-9.