يبدو من الروايات الصادرة عن أهل البيت (ع) أن الجفر مجموعة من المعارف الإلهية إنتقلت من النبي الأكرم (ص) إلى الإمام علي (ع) و من ثمّ إلى بقية الأئمة (ع) بعض هذه العلوم تشمل الوقائع و الحوادث المستقبلية إلى يوم القيامة و يقال عنها أيضاً علم المنايا و البلايا.
ما يجدر الإشارة إليه هنا هو إن إصطلاح الجفر في الروايات يظهر انه أستعمل في ثلاثة موارد و هي أولاً: كتاب الجفر. ثانياً: مجموع الآثار و الكتب الموضوعة في كيس كبير من الجلد و هو (الجفر الأبيض). ثالثاً: الجفر الأحمر و هو سلاح النبي (ص).
أما المراد من علم الجفر على المشهور، هو نفس علم الحروف و يتم باستعمال حروف و أعداد معينة و نسبتها لكل مجهول ـ حسب المدعى ـ فتعطي أجوبة مناسبة، و ذلك تبديل السؤال بحروف و أعداد ثم إجراء مراحل خاصة عليها عندئذ تحصل منها أعداد ثم حروف معينة يتمّ بها الجواب عن السؤال الموجّه. و هذا العلم موجود عند اتباع سائر الاديان المختلفة و لكن بأسماء مختلفة أيضاً و بإدعاء فرق مختلفة.
لكن التحقيق و الدراسة في روايات أهل البيت (ع) فيما يخص جفر الأئمة (ع) نحصل على معلومات أخرى مغايرة و متفاوتة للمشهور بين الناس عن علم الجفر، سنشير هنا إلى ذكر هذه الروايات:
كلمة "الجفر" بمعنى جلد الشاة أو المعزى أو العجل[1]، و ما جاءنا من مجموع روايات أهل البيت عن سبب تسمية هذه العلوم و المعارف بهذا الإسم، هو أن هذه العلوم إما تكتب على الجلد أو توضع هذه الآثار في كيس كبير من الجلد.
فالجفر طبقاً لروايات الشيعة هو مجموعة من المعارف الإلهية التي إنتقلت من النبي محمد (ص) إلى الإمام علي (ع) و بعده إلى سائر الأئمة (ع).
جزء من هذه العلوم يشمل الحوادث و الوقائع المستقبلية إلى يوم القيامة و تسمى أيضاً علم "المنايا و البلايا". و قد روي في بعض الروايات أن سلمان الذي كان صاحب سرّ النبي (ص) و الإمام علي (ع) كان عنده علم "المنايا و البلايا".[2]
تجدر الإشارة هنا إلى أن الجفر في الروايات يقسم إلى ثلاثة أقسام. الأول: كتاب الجفر. الثاني: مجموعة من الكتب و الآثار الموضوعة في كيس كبير من الجلد و هو (الجفر الأبيض). الثالث: الجفر الأحمر و المعنى منه سلاح النبي (ص) و سمي الأحمر، و ذلك لأنّه يفتح للدّم، يفتحه صاحب السيف للقتل. و قد رويت روايات في كل مورد، و قد ذكرت الموارد الثلاث معاً في بعض هذه الروايات، نشير هنا إلى بعضها:
1ـ كتاب الجفر
الف ـ "عن أبي عبد الله (ع) ... و الله إنّ عندي لجلدَي ماعزٍ و ضأنٍ إملاءُ رسول الله (ص) و خَطَّهُ عليٌّ (ع) بیده ...".[3]
ب ـ "عندنا الجَفرُ و هو أدیمٌ عُکاظيٌّ قد کُتب فیه حتی مُلئت أکارعُهُ، فیه ما کان و ما هو کائنٌ إلی یوم القیامة".[4]
ج ـ " ويلكم نظرت في كتاب الجفر صبيحة هذا اليوم و هو المشتمل على علم المنايا و البلايا و الرزايا و علم ما كان و ما يكون إلى يوم القيامة الذي خص الله تقدس اسمه به محمدا و الأئمة من بعده صلى الله عليه و عليهم أجمعين و تأملت منه مولد قائمنا و غيبته و إبطاءه و طول عمره و بلوى المؤمنين في ذلك الزمان و تولد الشكوك في قلوبهم من طول غيبته و ارتداد أكثرهم عن دينهم و خلع ربقة الإسلام من أرقابهم".[5]
2ـ الجفر الأبيض.
" عن الحسين بن أَبِي العلاءقال: سمعت أبا عبد الله (ع) یقول: إنّ عندي الجفر الأبیض. قال: قلنا: و أيُّ شيءٍ فیه؟! قال: فَقَالَ لي: زَبُوُر داوودَ وَ تَوراةُ مُوسی وَ إنجیل عیسی و صُحُف إبراهیم و الحَلالُ و الحَرامُ، و مُصحفُ فاطمةَ، ما أزعُمُ أنّ فیه قرآناً، و فیه ما یَحتاجُ النّاس إلینا و لا نَحتاج إلی أحدٍ".[6]
3ـ الجفر الأحمر.
الف ـ " عن الحسين بن أَبِي العلاء قال: سمعت أَبا عبد اللَّهِ (ع) يقول: عِندي الجفرَ الأحمر. قال: قُلت: و أيُّ شَيءٍ في الجفر الأحمر؟ قال: السِّلاح، و ذلک إنما یُفتحُ للدّمِ یفتحه صاحبُ السّیف للقتل".[7]
ب ـ "قلت لأبي عبد الله: جعلت فداک یا إبن رسول الله (ص) یسیر القائم بسیرة عليّ بن أبي طالب في أهل السّواد؟ فقال: لا یا رُفیدُ، إنَّ علي بن أبي طالب سار في أهل السواد بما في الجَفرِ الأبیضِ و إنَّ القائم یسیر في العرب بما في الجَفرِ الأحمرِ ".[8]
ج ـ "و أما الجَفرُ الأحمرُ فوعاءٌ فیه سلاحُ رسول الله (ص) و لن یخرج حتّی یقوم قائمنا أهل البیت".[9]
النتيجة:
إذن من الممكن أن يكون جفر الأئمة بالمعنى العام للكلمة يشمل الحقائق و العلوم الإلهية، أعم من الشرائع و العلوم الباطنية و الحكمة و القدرة و غيرها التي إما أن تكون جاءت بشكل إجمالي و سرّي في كتاب واحد باسم (كتاب الجفر)، أو أنها جاءت بشكل تفصيلي كمجموعة من الكتب القيّمة، أو أنها تعني سلاح النبي (ص) و هو (الجفر الأحمر) الذي هو مظهر القدرة و القهر الإلهي.
و من الطبيعي أن الأئمة هم أصحاب هذه العلوم و الآثار و باطنهم مملوء بها و لا حاجة لهم بكتابتها في كتاب معين فالمهم منها هو الحقيقة الباطنية لهذه الكتب و هي في باطنهم، لكن لا منافاة بين هذا الأمر و بين أن يحتفظوا بهذه العلوم مدونه في كتب مثل ما كان يمليه النبي (ص) على الإمام علي (ع) و يكتبها (ع) بيديه.[10] و في هذا البين أسرار و مجهولات كثيرة نحن عاجزون عن دركها و الوصول إلى كنهها.
إذن (جفر الأئمة) على خلاف المشهور، فهو ليس قسم من علم الحروف و الأعداد العرفانية يمكن بها عمل أعمال شبيهه بالرمل و الإسطرلاب و ...، و إن كان كتاب الجفر (الذي هو العنوان الأول من الموارد الثلاث التي ذكرت للجفر) الذي يشمل كل أسرار و أخبار و حقائق العالم، من المؤكّد لم يكن كتاباً عادّياً، بل هو يشبه الكتابات السريّه التي كُتبت بلسان الأعداد و الحروف المنفصلة و يمكن أن يستخرج منها كل التفصيلات عن طريق الإمام (ع). لكن ما في يدي بعض مدعي علم العدد و الحروف الذي كان موجوداً قبل الإسلام أيضاً لا يمكن أن يكون نفس علم (جفر الأئمة)، و إن أمكن القول بأن هذه العلوم هي نوع إستدلالات و إستفادات ناقصة من المعارف الإلهية التي تحولت إلى فن شبيه بالرمل أو علم النجوم (قراءة الطالع و التكهن) و الهدف منه إستخراج الأخبار الغيبية مثل التكهن و التنبؤ عن المستقبل و بعض الأمور الأخرى.
إتّضح طبقاً لما مرّ أن علم الجفر هو أسرار العرفان و معارف أهل البيت و التي تعتبرـ بتصريح الروايات ـ لها مكانة خاصة لا نظير لها في المعارف الإلهية و مما لا شك فيه أنها أرقى بكثير من أحابيل المهن التي تصنف في يدي بعض المدّعين تحت عنوان العلوم الغربية.
ففي تأريخ النبوة و الإمامة طالما وجدنا بعض العلوم العرفانية في معرض من يسيئون الإستفادة منها فتبدّل إلى آلات، أو ينظر إليها كآلات و أدوات يهتم بها أهل الكهانة و ذوو الرغبة بالعلوم و قوى ما وراء الطبيعية. من الطبيعي أن حقيقة علم الأعداد عرفانية و قد حصلوا عليها العرفاء الواصلون بالطريق اللدنّي، لهذا هو أرقى بكثير من علم كتابة الأدعية و السحر و الرمل و ... و لا قياس بينهما. و على حد تعبير حافظ (الشاعر الإيراني) لا يمكن قياس الأسرار الإلهية بأوراق الشعوذه و إن كان بينهما نوع من الشبه.
[1] إبن منظور، لسان العرب، ج 4، ص 142،كلمة "جفر"، الخليل، كتاب العين، ج 6، ص 110، كلمة "جفر".
[2] بحار الأنوار، ج 22، ص 346.
[3] المجلسي، بحار الأنوار، ج 26، ص 47، مؤسسة الوفاء، بيروت، 1409 ق.
[4] نفس المصدر، ص 48.
[5] نفس المصدر، ج 51، ص 219.
[6] الكليني، الكافي، ج 1، ص 240، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1365 ش.
[7] نفس المصدر.
[8] المجلسي، بحار الأنوار، ج 52، ص 313.
[9] المجلسي، بحار الأنوار، ج 26، ص 18.
[10] بحار الأنوار، ج 26، ص 45.