الهدایة على عدة أقسام:
1- الهدایة التکوینیة العمومیة، و هی الفطرة التوحیدیة، و الهدایة الأولیة التی یستفید منها جمیع الناس، و على أساس الآیات القرآنیة فإن الله تعالى یشمل بعنایته جمیع الناس فی المراحل الأولیة، و قد فتح أمامهم أبواب السعادة و الفلاح بلحاظ البعد الفطری و البعد التشریعی.
2- الهدایة التکوینیة الموهوبة للمؤمنین و المتقین خاصة، و لا یستفید منها الظالمون و الکافرون و الفساق.
و ذلک لأن المؤمنین یمتلکون المؤهلات التی تجعلهم یستفیدون من هذه الهدایة و ذلک من خلال حفاظهم على سلامة الفطرة التوحیدیة و الهدایة الأولیة، و لکن الفاسقین و الکافرین أضاعوا هذا الکنز الثمین و لوثوا فطرتهم من خلال الإعراض عن أوامر الله و عدم السیر فی طریق الهدایة، و لذلک فقد أصبحوا محرومین من فیض هذه الهدایة.
الهدایة من مادة (هدى) بمعنى الإرشاد و الدلالة و المعرفة.[1] و الهدایة مصطلح کلامی و عرفانی بمعنى الدلالة و الإشارة إلى طریق الخیر و الصواب.[2] و الفسق مصطلح أخلاقی و فقهی، و فی اللغة هو الانحراف عن الأوامر الإلهیة و یشمل الکافر و المسلم العاصی، و یقولون فی الشرع هو ارتکاب الکبائر او الإصرار على الصغیرة من الکبائر.[3]
و على هذا الأساس، فإن الفاسق یطلق على الشخص الذی ینحرف عن الأوامر الإلهیة و لا یعتنی بقوانینه و یظهر مخالفتها.
الله سبحانه هو منبع فیض الهدایة، و قد خلق جمیع الناس على فطرة التوحید الطاهرة و مسیر الهدایة، کما أودع فی نفوسهم الفطرة التوحیدیة، المتمثلة بالمیل الداخلی النفسی الى الحق و طلب العدالة.
و جمیع الذین یمتلکون نوایا طاهرة و صالحة و یحملون روح التسلیم مقابل الحق تعالى مشمولون بالهدایة الإلهیة، و لم یکن فیض خالق هذا العالم قاصراً عن بلوغ موجود من الموجودات، و حتى الشیطان الذی هو قائد لکل الضالین و المفسدین فإنه خلق على أساس سلامة الفطرة، و لکنه بعد أن رفض الانصیاع لأوامر الله فی السجود لآدم (ع) طرد من ساحة الرحمة الإلهیة.
و من أجل أن یتضح الجواب عن هذا السؤال نرى من الضروری البحث عن الهدایة و أقسامها، لیتضح سبب عدم شمول الهدایة الإلهیة للفاسقین «وَ اللَّهُ لا یَهْدِی الْقَوْمَ الْفَاسِقِینَ».[4]
(الهدایة) بمعنى إراءة الطریق و تقابلها (الضلالة) بمعنى إضاعة الطریق. و للهدایة عدة أقسام:
1- الهدایة العامة الشاملة لجمیع الموجودات (الهدایة التکوینیة العامة) «الَّذِی خَلَقَ فَسَوَّى * وَ الَّذِی قَدَّرَ فَهَدَى»،[5] «قَالَ رَبُّنَا الَّذِی أَعْطَى کُلَّ شَیْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى».[6]
و فی هذه المرحلة تنال الهدایة الإلهیة جمیع الناس، و لا تتخلف هدایته العامة الشاملة عن أی شخص فی هذا المجال، و هذه الهدایة الإلهیة العامة تشمل أفراد الإنسان على صورتین و نحوین، ففی المرحلة الأولى تشمله بصورة فطریة، بمعنى أن الله سبحانه أودع فی فطرة الإنسان و ترکیبه النفسی المیل إلى التوحید، أی أنه أوجده و خلقه على أساس الفطرة التوحیدیة، المتمثلة بالقوة التی تجذب الإنسان و تشده إلى التوحید و العدالة و فعل الخیر و... «فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِی فَطَرَ النَّاسَ عَلَیْهَا»،[7] و هذه الهدایة التکوینیة تمثل الأرضیة الممهدة لهدایة أخرى تتمثل بالهدایة التشریعیة، و قد أرسل الله سبحانه رسله إلى الناس فی إطار الهدایة التشریعیة لیستأدوهم میثاق فطرته التی أودعها فی نفوسهم، «فبعث فیهم رسله، و واتر إلیهم أنبیاءه، لیستأدوهم میثاق فطرته...».[8] و فی هذه المرحلة و هذا النوع من الهدایة تکون نعمة الاستفادة من الأنبیاء و المرسلین شاملة و عامة لکل الناس، و إن جمیع أصناف الناس و طبقاتهم تقع مورد خطاب الأنبیاء و الرسل إلى الداعی إلى الفلاح و السعادة و على طبق الآیة الشریفة فی قوله تعالى: «إِنَّ عَلَیْنَا لَلْهُدَى»،[9] فإن الله سبحانه یرى أن من وظائفه سبحانه هدایة البشر و ارشادهم الى الطریق القویم، و لکن الناس ینقسمون بالنسبة لتعاطیهم مع الهدایة الإلهیة إلى قسمین، بعضهم شاکر لهذه النعمة و بعضهم أظهر الکفر بهذه النعمة. «إِنَّا هَدَیْنَاهُ السَّبِیلَ إِمَّا شَاکِراً وَ إِمَّا کَفُوراً».[10]
و على هذا الأساس فإن الإنسان الذی یقابل نعمة الهدایة الإلهیة على مستوى ( الهدایة التکوینیة و التشریعیة) بالشکر، فإنه یکون موردا للعنایة الخاصة لله سبحانه لیستفید من أنواع الهدایة الأخرى التی تتلو هذا النوع من أنواع الهدایة. و یکون فی مقدمة هؤلاء المشمولین بالهدایة الخاصة المؤمنون و المتقون من بنی الإنسان.
و أما أولئک الذین لا یعرفون قدر هذه النعمة الإلهیة، فإنهم محرمون من نعمة الهدایة الخاصة و التکمیلیة، و إن الفاسقین من هذا القبیل من الناس.
2- الهدایة الإلهیة الخاصة للإنسان (الهدایة التکوینیة الموهوبة).
و هذا النوع من الهدایة یشمل حال المؤمنین و المتقین. و للمفسرین ثلاثة آراء فی کونه مختصاً بالمؤمنین، و ذلک فی تفسیرهم لقوله تعالى فی الآیة الشریفة: «ذَلِکَ الْکِتَابُ لا رَیْبَ فِیهِ هُدىً لِلْمُتَّقِینَ».[11] فقد جاءت أقوالهم على النحو التالی:
1- یعتقد البعض أن هدایة القرآن عامة شاملة، و إن الآیة التی تؤکد اختصاص الهدایة بالمتقین ناظرة إلى أن المتقین و المؤمنین هم الذین یستفیدون من هذه الهدایة.[12] و على هذا الرأی فإن القرآن الکریم لم یشر إلى اختصاص الهدایة التشریعیة بقوم دون قوم، و لکن غایة الأمر أن الناس انقسموا إزاء هذه الهدایة إلى فرقتین: بعضهم لم یستمع و لم یصغ لصوت الهدایة الإلهیة «وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا یَسْمَعُوا»،[13] و أما المتقون فإنهم یستفیدون من هذا النوع من أنواع الهدایة الإلهیة، و الآیات التی تخصص الهدایة ناظرة إلى هؤلاء.
2- یرى العلامة الطباطبائی، أن المراد بالهدایة فی الآیة فی قوله «هُدىً لِلْمُتَّقِینَ»، هی الهدایة التکوینیة الموهوبة لا الهدایة التشریعیة الابتدائیة. و سبب و سر اختصاصها بهم لأنهم احتفظوا بالسبب الذی جعلهم مورد هذه الهدایة و هو سلامة الفطرة و نقائها من التلوث.[14]
3- الرأی الثالث بخصوص الهدایة الإلهیة الخاصة یتلخص بالآتی:
إن المقصود فی الآیة من قوله تعالى: «هُدىً لِلْمُتَّقِینَ» هی الهدایة التکوینیة (الإیصال إلى المطلوب)، و هی متأخرة عن الهدایة التشریعیة العامة للقرآن (إراءة الطریق) و إن المراد من المتقین هم الذین یحافظون على سلامة فطرتهم من التلوث من جانب، و یسیرون على هدى القرآن لیقطعوا شوطاً فی هذا الطریق من جانب آخر، و عند ذاک تأتی الهدایة الخاصة (الإیصال إلى المطلوب).[15]
و على هذا الأساس، فإن المراد فی قوله تعالى: «وَ اللَّهُ لا یَهْدِی الْقَوْمَ الْفَاسِقِینَ»[16] الهدایة التکوینیة الثانویة الموهوبة، و لیس الهدایة التشریعیة. و ذلک لأن الانحراف عن الهدایة الأولى المتمثلة بالفسق و الخسران هو الذی بسبب الحرمان من الهدایة الثانویة (الإیصال إلى المطلوب).[17]
و بما أن الله سبحانه بیّن معالم دینه و معارفه لکل الناس، و أوصلها إلى آذان الجمیع، و لم یقصر فیضه عن أی موجود فی هذا العالم، و إن إفاضة الهدایة و التوفیقات لذلک تعتمد على قبول الإنسان نفسه و من البدیهی أنه فی حال انعدام أرضیة القبول، و عدم وجود تأثیر الهادی المرشد، لایکون الإرشاد ضروریاً و أن الآیة الشریفة: «وَ لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِیهِمْ خَیْراً لأسْمَعَهُمْ وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ»،[18] یحتمل أن تکون ناظرة إلى هذا المفهوم لتلقی علیه الأضواء.[19] مضافاً إلى ذلک ان فی هذه الآیة الشریفة هناک إشارة إلى هذه المسألة: إن الذین لا توجد فی نفوسهم الأرضیة الملائمة لقبول أنواع الهدایة الإلهیة، فإنهم حتى لو وقعوا فی دائرة الهدایة الخاصة فإنهم یعرضون عنها و یتراجعون.[20]
و بغض النظر عما تقدم، فإن الکثیر من هذه الآیات،[21] تتحدث عن المنافقین و الکافرین، حیث عبر عنهم القرآن بأسماء متعددة منها الظالمون و الکافرون و الفاسقون و ... ، و حیث أن هؤلاء نسوا الله و خرجوا عن طریق الهدایة، فإنهم محرومون من هدایة الله الخاصة.[22]
[1] صحاح اللغة، ج 6، ص 2533.
[2] السجادی، السید جعفر، فرهنگ معارف اسلامی" معجم المعارف الاسلامیة"، ج 4، ص 622.
[3] نفس المصدر، ص 446.
[4] الصف، 5.
[5] الأعلى، 2 و 3.
[6] طه، 50.
[7] الروم، 30.
[8] معادیخواه، عبد المجید، خورشید بی غروب (ترجمة نهج البلاغة) الخطبة رقم 1.
[9] اللیل، 2.
[10] الإنسان، 3.
[11] البقرة، 2.
[12] الطبرسی، مجمع البیان، ج1 ، ص 118.
[13] الأعراف، 198.
[14] الطباطبائی، السید محمد حسین، المیزان، ج 1، ص 45.
[15] جوادی الآملی، عبد الله،تفسیر تسنیم، ج 2، ص 140.
[16] الصف، 5.
[17] الطباطبائی، السید محمد حسین، المیزان، ج 1، ص 72.
[18] الأنفال، 23.
[19] هاشمی الرفسنجانی، أکبر، تفسیر راهنما، ج6 ، ص 454.
[20] المصدر نفسه.
[21] الآیات من هذا القبیل تقول: «وَ اللَّهُ لا یَهْدِی الْقَوْمَ الْفَاسِقِینَ»، «إِنَّ اللَّهَ لا یَهْدِی مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ کَذَّابٌ».
[22] میر باقری، سید محسن، سیمای انسان مختار در قرآن" سمات الإنسان المختار فی القرآن"، ص 152.