من الثابت فی بحوث علم الکلام ان الإنسان موجود مختار فی أیّ عمل یقوم به، و لا یوجد أیّ تناف بین ذلک وبین آیات الذکر الحکیم، بل انّ آیات الذکر الحکیم تدعم تلک النظریة و تؤیدها، و لکن بما ان القرآن الکریم یفسّر بعضه بعضاً، من هنا ینبغی ان نضع الآیات بعضها إلى جانب البعض الآخر لیظهر لنا المراد النهائی منها.
ان کلمة "الاضلال" الواردة فی القرآن الکریم تارة تنسب إلى الله، و أُخرى إلى الشیطان، و ثالثة إلى الآخرین. فلابدّ من ان نعرف ما هی شروط الاضلال الالهی و کیفیته؟ و من هم الناس الذین یضلهم الله سبحانه؟
و من الواضح ان الاضلال الالهی لیس من قبیل الاضلال الابتدائی، بل هو یختص بالناس الذین باختیارهم لطریق الانحراف وفروا الارضیة لاضلالهم، أی انهم بانفسهم مهدوا الطریق لاضلالهم و انحرافهم. قال الله تعالى: (إِنَّ اللهَ لاَ یَسْتَحْیِی أَنْ یَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِینَ آمَنُوا فَیَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ أَمَّا الَّذِینَ کَفَرُوا فَیَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً یُضِلُّ بِهِ کَثِیرًا وَ یَهْدِی بِهِ کَثِیرًا وَ مَا یُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِینَ) [i] قد یوهم ظاهر الآیة المبارکة بان الهدایة و الضلال ذات طابع جبری و انها ترتبط بالارادة الالهیة فقط، فاذا شاء الله أضل و إذا شاء هدى، ولکن الامعان فی ذیل الآیة المبارکة یظهر بوضوح ان الضلال و الهدایة ینبعان من عمل الإنسان نفسه و اختیاره (وَ مَا یُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِینَ) .
بیّن الله تعالى فی کتابه المجید و فی اکثر من آیة من آیات الذکر الحکیم مسألة الضلال و الهدایة و ببیانات مختلفة و متعددة.
و الأمر الجدیر بالالتفات الیه هنا ان بعض آیات القرآن الکریم لا یمکن تفسیرها بمعزل عن الآیات الأُخرى وأخذ النتیجة منها، بل لابدّ من الاستعانة بالآیات الأُخرى لمعرفة المعنى الحقیقی الّذی تریده، نشیر إلى نماذج منها:
قال تعالى فی سورة النحل: (وَ لَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَکُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ لَکِنْ یُضِلُّ مَنْ یَشَاءُ وَ یَهْدِی مَنْ یَشَاءُ وَ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا کُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[1].
وفی سورة الکهف: (مَنْ یَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَ مَنْ یُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِیًّا مُرْشِدًا).[2]
وقال تعالى فی سورة الاعراف: (مَنْ یُضْلِلِ اللهُ فَلاَ هَادِىَ لَهُ وَ یَذَرُهُمْ فِی طُغْیَانِهِمْ یَعْمَهُونَ).[3]
وقال تعالى فی سورة الزمر: (وَ مَنْ یُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد * وَ مَنْ یَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلّ).[4]
یقول العلاّمة الطباطبائی فی تفسیر المیزان ذیل الآیة 93 من سورة النحل: و بما تقدّم یظهر ان المراد بجعلهم أمَة واحدة رفع الاختلاف من بینهم وحملهم على الهدى والسعادة، وبالاضلال والهدایة ما هو على سبیل المجازاة لا الضلال والهدى الابتدائیان، فان الجمیع على هدى فطری، فالذی یشاء الله ضلاله فیضله هو من اختار المعصیة على الطاعة من غیر رجوع ولا ندم، و الّذی شاء الله هداه فهداه هو من بقى على هداه الفطری وجرى على الطاعة أو تاب و رجع عن المعصیة صراطاً مستقیماً و سنة الهدایة (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِیلاً وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِیلاً).
وان قوله تعالى: (وَ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا کُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) لدفع ما یسبق إلى الوهم ان استناد الضلال و الهدى الیه سبحانه یبطل تأثیر اختیارهم فی ذلک و تبطل بذلک الرسالة و تلغو الدعوة، فأجیب بانّ السؤال باق على حاله، کمّا ان اختیارکم لا یبطل بذلک، بل الله سبحانه یمد لکم من الضلال و الهدى ما انتم تختارونه بالرکون إلى معصیته أو بالاقبال إلى طاعته».[5]
اذاً الآیات یتمم بعضها بعضاً ویفسّر بعضها البعض الآخر فانّ الله تعالى الّذی یقول (یُضِلُّ مَنْ یَشَاءُ) هو نفسه القائل (وَ یُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِینَ) [6]، أو (کَذَلِکَ یُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ)[7]، أو (کَذَلِکَ یُضِلُّ اللهُ الْکَافِرِینَ) [8].
صحیح ان الله یُضل من یشاء، ولکن لابدّ من الالتفات الى النوع الّذی یضله الله و ما هو هذا السنخ الّذی یضلهم سبحانه.
الآیات تحدد لنا صفات هؤلاء فنقول: ان الله یضل «الظالمین» و «الکاذبین» و «الفاسقین» و «المسرفین» و «الکافرین»، هؤلاء الذین اختاروا وبمحض ارادتهم انتهاج هذا المنهج المؤدی إلى الضلال.
اذاً مقدمات الضلال تحت اختیار الإنسان وارادته .
وکما ان مقام الضلال له شروط کذلک مقام الهدایة له شروط أیضاً.
فاذا قال تعالى (یَهْدِی مَنْ یَشَاءُ) لا یعنی ذلک ان الهدایة غیر مشروطة بشرط أو شروط مسبقة، بل الآیات الأُخرى تؤکد انّه لابدّ من توفر مجموعة من الشروط کمقدمة لها، منها قوله تعالى (وَ الَّذِینَ جَاهَدُوا فِینَا لَنَهْدِیَنَّهُمْ سُبُلَنَا)[9] و فی آیة أُخرى (وَ اللهُ لاَ یَهْدِی الْقَوْمَ الْفَاسِقِینَ)و (إِنَّ اللهَ لاَ یَهْدِی الْقَوْمَ الْکَافِرِینَ) و فی أُخرى (لاَ یَهْدِی کَیْدَ الْخَائِنِینَ) و (إِنَّ اللهَ لاَ یَهْدِی مَنْ هُوَ کَاذِبٌ کَفَّارٌ) .
فللهدایة شروطها و للضلال شروطه، و من المعلوم ان الصالحین و المتقین نصیبهم الهدایة و الرشاد و لا یضلون و لا ینحرفون عن جادة الحق، و على العکس من ذلک المعاندون فانهم لا یلیق بهم إلاّ الضلال، و اما الهدایة فلا تلیق بهم أبداً.
و هناک نکتة مهمة یجب الالتفات الیها و هی: انّ بیان الطریق و رسم المنهج الحق هو من وظائف و مهام الباری تعالى، و اما وظیفة الإنسان و مهمته فتتمثل فی الالتزام والسیر على هذا الطریق و اعتماد المنهج المرسوم له من قبل الباری للوصول إلى الهدف الأصلی الّذی یتوخاه، فاذا انحرف عن الجادة و سار على طریق آخر تقع المسؤولیة على عاتقه هو لانه هو الّذی اختار ذلک، قال تعالى فی کتابه الکریم (وَ اللهُ یَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلاَمِ)[10] یعنی ان الله یدعو الناس إلى دار السعادة و منزل السلامة، و یقول سبحانه (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِیلاً) أی الإنسان هو الّذی یشاء و ینتخب اختیار السبیل إلى ربّه و الله سبحانه یمدُّ له ید العون (وَ الَّذِینَ جَاهَدُوا فِینَا لَنَهْدِیَنَّهُمْ سُبُلَنَا) .
واما الّذی ینحرف عن طریق الایمان و یمیل إلى جادة الغوایة و الانحراف فیدخل فی قوله تعالى (إِنَّ الَّذِینَ لاَ یُؤْمِنُونَ بِآیَاتِ اللهِ لاَ یَهْدِیهِمُ اللهُ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِیمٌ)[11]، فالآیة واضحة الدلالة علی انّ الهدایة لا تشمل الإنسان الّذی اختار العمى على الهدى والضلال على الاستقامة.
فاذا التفتنا إلى هذه الآیات المبارکة لم یبق فی النفس ادنى شک و لا ریب بانّ الله تعالى قد منح جمیع افراد الإنسان الحریة و الاختیار و الاستقلال فی اختیار الطریق الّذی یریدونه، قال تعالى (إِنَّا هَدَیْنَاهُ السَّبِیلَ إِمَّا شَاکِرًا وَ إِمَّا کَفُورًا)[12] أی بیّنا له طریق الحق و طریق الباطل و ترکنا له الاختیار فقد یختار الهدایة و الشکر و قد یختار العناد و الکفر.
النتیجة: ان الله تعالى لا یهدی الظالمین و الکاذبین و المجرمین، بل ان هؤلاء مصداق لقوله تعالى (وَ مَنْ یَعْصِ اللهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِینًا)[13] و اما الإنسان الّذی وضع نفسه فی موضع یستحق بسببه نزول رحمة الهدایة علیه حینئذ یکون مصداقاً لقوله تعالى (یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ یَجْعَلْ لَکُمْ فُرْقَانًا)[14] على العکس من الطائفة السابقة الّتی یقول تعالى بحقها (إِنَّ اللهَ لاَ یَهْدِی الْقَوْمَ الظَّالِمِینَ) .
اذاً اختیار طریق الرشاد و الضلال بایدینا و هذهِ حقیقة یدرکها کل انسان بوجدانه .