النظرة الاولى للمصادر الدينية تكشف لنا بوضوح أن الغاية الاساسية لبعثة النبي الاكرم (ص) الارتقاء المعنوي للانسان. و انه تعالى لم يبعث الانبياء و ينصب الاوصياء و الائمة لغاية تأمين العلوم المادية، بل ترك ذلك للانسان نفسه الاستفادة من قدراته الذاتية لتطوير هذه العلوم و الابداع فيها. و من هنا نرى اصحاب الائمة (ع) يرجعون في هذا المجال الى الاطباء، بل يرجعون الى الاطباء من غير المسلمين.
نعم، يمكن للطبيب المعالج الاسلامي الاستلهام من تلك الآيات و الروايات للانتقال بالطب الحديث الى مرتبة متطورة، و لكن لا يمكن نسبة تلك الفرضيات – ما لم تصل الى كونها نظريات مقطوع بها- الى الاسلام.
كذلك نجد أئمة الدين يوجهون - أحياناً- النقد لبعض النظريات المطروحة أو يؤيدون نظريات أخرى في هذا المجال، لكن ذلك لم يصل الى الحد الذي يجعلهم في المجتمع في مصاف الاطباء و اصحاب الاختصاص الطبي كما ينظر اليهم المجتمع من الزواية الفقهية و الاخلاقية و التفسيرية و...
و قد يلاحظ وجود تعارض و عدم انسجام بين بعض الروايات و معطيات الطب الحديث، الا ان الرؤية المتأملة للقضية تكشف لنا عن عدم وجود ذلك التعارض و اللا انسجام. فلا تصل النوبة الى البحث عن سبل حل التعارض و معالجة الخلل.
ثم انه لو قدر للائمة العيش في اوساطنا في هذه الأيام فانهم لن يقفوا من الطب موقفا سلبيا، بل قد يوصوا اتباعهم باستعمال بعض الادوية المصنعة حديثاً؛ و ذلك لان من لوازم التطور حصول بعض التحولات فشأن القضية هنا شأن التطور التقني في سائر العلوم.
بهذه النظرة الموضوعية و بالتسليم بان الاسلام لا يتعارض مع التطور العلمي في كافة المجالات و في المجال الطبي خاصة، فحينئذ لا نرى في الروايات -الا ما شذ و ندر- يعارض المعطيات الطبية. أضف الى ذلك ان التوصيات الطبية الواردة في الروايات في الاعم الاغلب ناظرة الى تطور علم الطب المعاصرة له.
قضية العلاقة بين الموروث الديني و بين علم الطب تقتضي دراستها من زوايات مختلفة، و سنحاول هنا توزيع البحث على اربعة فصول مهمة هي:
الاول: هل الاسلام مسؤول عن تأمين الجانب الصحي في المجتمع؟
الثاني: هل كان لأئمة الدين كلمتهم في هذا الحقل؟
الثالث: معالجة التعارض الموجود بين المتون الدينية و بين معطيات الطب الحديث.
الرابع: هل يمكن الجزم بوجود "طب اسلامي"؟
الفصل الاول:
من أهم الابحاث التي ينبغي الخوض فيها هي تحديد موقف الاسلام من الصحة، و هل الاسلام يتكفل بتأمين الجانب الصحي و العلاجي للافراد او لا؟ و لتحديد الاجابة عن هذا التساؤل المهم لا بد من الاشارة الى بعض النقاط المهمة:
الأولى: النظرة الاولى للمصادر الدينية تكشف لنا بوضوح أن الغاية الاساسية لبعثة النبي الاكرم (ص) الارتقاء المعنوي للانسان[1]. و قد عبّر عن هذه الحقيقة الرسول (ص) في قوله: " بعثتُ لأُتمِّمَ مكارم الأَخلاق".[2]
الثانية: توزعت اختصاصات البشر الى مئات بل آلاف التخصصات المختلفة التي يسعى من خلالها لتأمين حياة مادية مستقرة، كالعمران و الصناعات و النقل و المواصلات و الصناعات الزراعية و....، و هذه التخصصات تضرب بجذورها في اعماق تاريخ الانسان مع اختلاف في التقنيات و تطور الوسائل المعتمدة، و ليست الطبابة و التقنيات الطبية بمستثناة عن هذه السيرة البشرية، بل لها أهميتها الخاصة كما يكشف عن ذلك المقولة المعروفة: "العلم علمان، علم الابدان و علم الاديان".
الثالثة: صحيح أن مبدأ و منشأ العلوم كافة هو الله تعالى، الا انه تعالى لم يبعث الانبياء و ينصب الاوصياء و الائمة لغاية تأمين العلوم المادية، بل ترك ذلك للانسان نفسه الاستفادة من قدراته الذاتية لتطوير هذه العلوم و الابداع فيها. و من هنا نرى اصحاب الائمة (ع) يرجعون في هذا المجال الى الاطباء بل يرجعون الى الاطباء من غير المسلمين.[3] بل يحدثنا التأريخ أن أمير المؤمنين (ع) لما ضرب في محراب صلاته استدعي له الاطباء للمعالجة[4]، مع وجود ثلاثة من الأئمة كانوا حاضرين الى جنبه في تلك اللحظة.
انطلاقا من ذلك كله لا يمكن إهمال علم الطب الحديث و التقنيات الحديثة في هذا المجال، و قصر الاهتمام بما ورد في الاحاديث و الروايات.
نعم، يمكن للطبيب المعالج الاسلامي الاستلهام من تلك الآيات و الروايات للانتقال بالطب الحديث الى مرتبة متطورة، و لكن لا يمكن نسبة تلك الفرضيات – ما لم تصل الى كونها نظريات مقطوع بها- الى الاسلام.
فعلى سبيل المثال قد يستفاد من قوله تعالى "فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ"،[5] للانتقال الى معطى طبي يثبت العلاقة بين تحريك الاذن و بين النوم، او الاستلهام من معجزات النبي عيسى (ع) في إبراء الاكمه و الابرص[6] و لكن النتيجة النهائية تعد ثمرة للبحث و التحقيق العلمي الا النصوص الدينية.
فعلى كل حال الحث على الدراسات الطبية من جهة و الرجوع الى الاطباء عملياً من جهة أخرى كل ذلك يكشف عن كون الاسلام ترك هذه القضية للعقل البشري و لم يتكفل الخوض فيها بصورة مباشرة لينظر لها و يكتشف قوانينها العلمية.
الفصل الثاني: مع الاذعان بكل ما مر في الفصل الاول، لكن لا يمكن انكار وجود بعض الموضوعات العامة و الكلية المتعلقة بعلم الطب و المبثوثة بين الروايات و الاحاديث التي يمكن اعتبارها استثناءً للاصل العام الذي ذكرناه في نهاية الفصل السابق.
و من الملاحظ ان هدف تلك الاشارات الروائية يختلف من رواية الى أخرى ففي بعضها كان الهدف بيان قدرة الباري تعالى و عظم خلقه فيما ابدعته يده في هذا البدن المتعدد الاعضاء و الاطراف و بذلك التركيب الفيوزلوجي العجيب، كما جاء ذلك في دعاء عرفة للإمام الحسين (ع).[7]
كذلك يرصد الباحث في الحديث الاسلامي حالة التشاور بين اصحاب الائمة و بين الائمة (ع) حول الغذاء و الدواء و فوائدها و استعمالاتها، و هذا ما نشاهده اليوم حيث يرجع الكثير من الناس الى من هو اعلم منه للاستفادة من علمه و تجاربه في هذا المجال، و هكذا كان الائمة (ع) يشيرون على اتباعهم و مريديهم بما يساعدهم في الاستفادة من تلك النعم الالهية على الوجه الامثل.
كذلك نجد أئمة الدين يوجهون - أحياناً- النقد لبعض النظريات المطروحة أو يؤيدون نظريات أخرى في هذا المجال، لكن ذلك لم يصل الى الحد الذي يجعلهم في المجتمع في مصاف الاطباء و اصحاب الاختصاص الطبي كما ينظر اليهم المجتمع من الزواية الفقهية و الاخلاقية و التفسيرية و...
نعم، هناك الكثير من الحالات التي قام بها المعصومون (ع) بشفاء بعض المرضى بصورة اعجازية، الا ان الهدف من وراء ذلك الاشارة الى نوع العلم الالهي الذي يحملونه عليهم السلام، و الذي لا يمكن نقله الى غيرهم من عامة الناس[8]. و هذه قضية تختلف اختلافا جوهريا عن المعالجات الطبيعية؛ و ذلك لان موسى (ع) اذا استطاع ان يفجر عيون الماء بضرب الارض بعصاه، لا يمكن اعطاء حكم عام و كلي بانه كلما ضربت الارض بالعصا انبجست العيون ماءً فراتاً.
بعد هذه المقدمة نشرع بتحليل بعض الروايات ذات الصلة بعلم الطب:
1. عن يونس بن يعقوب قال سأَلتُ أَبا عبد اللَّه (ع): عن الرَّجل يشربُ الدَّواءَ و ربَّمَا قتلهُ و رُبَّمَا يسلمُ منهُ و ما يسلمُ أَكثَرُ؟ قال: فقال: أَنزل اللَّهُ الدَّاءَ و أَنزل الشِّفاء و ما خلق اللَّهُ داءً إِلا جعل لهُ دواءً فاشربْ و سَمِّ اللَّه تعالى.[9]
و هذه الرواية تؤكد على قضية مهمة و هي أنه يجب على الانسان بذل اقصى جهده لاكتشاف الدواء و لا ييأس من البحث و المثابرة و عليه تبديل الفشل بالنجاح، لكن مع ذلك لا ينبغي له الاغترار بعلمه و ما وصلت اليه ابحاثه و دراساته العلمية و عليه ان يربط كل ذلك بالله تعالى و ان يقرن بين استعمال الدواء و بين ذكر اسم الله تعالى.
2. هناك الكثير من الروايات التي تحذر من الافراط في استعمال الدواء الا عند الضرورة. يقول الامام الصادق (ع) في هذا الصدد: " مَنْ ظهرتْ صحَّتُهُ على سُقمِهِ فيعالِجُ نفسَهُ بشيْءٍ فمات فأَنَا إِلى اللَّه بريءٌ منهُ"[10]. و قال ابنه الامام الكاظم (ع) في هذا الصدد أيضاً: " ادفعُوا مُعالجةَ الأَطِبَّاء ما اندفع المداواةُ عنكمْ فإِنَّهُ بمنزلةِ البناء قليلُهُ يجُرُّ إِلى كثيره".[11] و هذا الاصل العام – الانعكاسات السلبية للافراط في استعمال الدواء- من القوانين التي اقرتها التحقيقات الطبية الحديثة. و هناك شواهد أخرى في المصادر الروائية تحذر من الافراط في استعمال الدواء و التقليل منه بالحد الممكن، و لكن هذا لا يعني تجنب الدواء و الامتناع عن تناوله في جميع الامراض و الحالات التي يصاب بها الانسان، فهناك امراض لا يمكن التعافي منها الا من خلال استعمال الدواء و الرجوع الى الاطباء، و في بعض الاحيان يكون الرجوع الى الاطباء من قبيل الوقاية من المرض.[12]
3. هناك روايات تبين لنا المراد من الروايات السابقة المانعة من استعمال الدواء وذلك من خلال التأكيد على ان الوقاية ليست في ترك الدواء و إنما في الاستعمال الصحيح له مع الالتزام بنظام غذائي صحيح.[13]
كذلك هناك طائفة من الروايات تشير الى كليات علم الطب و بعض الامراض الخاصة، و هي التي قد يستفاد منها وجود علم طب اسلامي خاص.
الفصل الثالث: نحاول في هذا الفصل معالجة مشكلة التعارض بين معطيات الطب الحديث و بين الارشادات و التوصيات التي وردت في المصادر الروائية، و ما هو الموقف الذي يجب اعتماده حينئذ؟
قد يلاحظ وجود تعارض و عدم انسجام بين بعض الروايات و معطيات الطب الحديث، الا ان الرؤية المتأملة للقضية تكشف لنا عن عدم وجود ذلك التعارض و اللا انسجام. فلا تصل النوبة الى البحث عن سبل حل التعارض و معالجة الخلل.
و بعبارة أخرى: إننا اذا اخضعنا الروايات الى المنهج الفقهي الدقيق الذي يحلل الرواية من جميع ابعادها، فحينئذ نكتشف خطأ الكثير من التفسيرات الساذجة التي يطرحها –غالباً- غير المختصين في هذا المجال.
لكن ينبغي الالتفات الى قضية مهمة ان الفقيه عندما يدرس الروايات يحاول اكتشاف الاحكام الاعتبارية التي جعلها الشارع المقدس، و هو منهج يختلف جوهريا مع البحث عن القواعد الطبية التي هي من قبيل البحث في الامور الواقعية التي لها تحقق في الخارج.
و كنموذج نحاول هنا اخضاع روايتين للبحث و التحليل:
1. ورد في الحديث عن أمير المؤمنين (ع) "المَعِدَةُ بيتُ الأَدوَاء"[14]أو " الْمَعِدَةُ بَيْتُ كُلِّ دَاءٍ".[15]
قد يستفيد البعض منه انه لما كانت المعدة بيت الداء فحينئذ يبحث عن المؤيدات لهذه النظرية في نتاجات الطب الحديث، و من هنا يواجه يصطدم بمشكلة أساسية حيث يرى الطب الحديث ينفي مثل هذه الكلية و العمومية و أن هناك الكثير من الامراض لا علاقة لها بالمعدة كالامراض الجينية.
أما اذا قلنا بان الروايات لا تعني الاستيعاب التام و انما تريد الاشارة الى أن اغلب الامراض ناتجة عن الخلل في المعدة، فحينئذ لا تبقى حاجة لاثبات ارتباط جميع الامراض بالمعدة.
و يبدو ان هذا الاستنتاج الخاطئ نتج من النظر الى مفردة "كل" و التي فسرت بالعموم و عدم الاستثناء، و الحال ان مفردة "كل" في اللغة العربية قد تستعمل و يراد بها الغالب، او يراد بها الامور التي تقع في متناول اليد، فعلى سبيل المثال عندما نطالع قول الهدهد "إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَ لَها عَرْشٌ عَظيم".[16] فلا تعني كلمة "كل" أن ملكة سبأ قد إمتلكت كل شيء في الدنيا، بل تعني أنها تملك كل شيء استطاعت الوصول اليه و اقتنائه في زمانها.
و مع الاخذ بهذا التفسير يمكن الدفاع عن الرواية و لا ينقض عليها بوجود أمراض لا علاقة لها بالمعدة.
2. ورد في الرواية أنه: "َ مَا مِنْ دَاءٍ إِلا و في الحبَّةِ السَّوْدَاءِ منهُ شِفاءٌ إِلَّا السَّامَ (الموت)".[17] فمن الخطأ تفسيرها بلغة العطارين الذين يرومون كسب المال و تحصيل الثروة من خلال التبليغ للحبة السوداء، و كأن تلك النبتة تمتلك العصا السحرية في معالجة جميع الامراض؛ و ذلك لان هكذا تفسير يستلزم الاجابة عن سؤال حقيقي و هو: اذا كانت الحبة السوداء بهذه الكفاءة الطبية فما الحاجة حينئذ لسائر الادوية و المعالجات الاخرى؟ و ما الحاجة الى الادوية الاخرى التي قد اشارت اليها الروايات الاخرى؟
أما اذا فسرناها تفسيرا صحيحا، و قلنا بان الحبة السوداء تحتوي على مجموعة من العناصر التي يمكن ان تدخل في تركيب عدد من الادوية المُعَدّة لعلاج الكثير من الامراض[18]، و انه لا ينبغي النظر الى هذه النبتة بانها تقلع الامراض من جذورها و انما الفائدة لكل دواء فائدة نسبية و تنفع في المعالجة الى حد ما فقد تقلع المرض و تقضي عليه و قد تخفف منه و توفر الارضية لعلاج آخر يتمم المعالجة. فاذا نظرنا الى القضية بهذه النظرة الموضوعية فحينئذ لا ترد الاشكالات المذكورة.
بهذه النظرة و بالتسليم بان الاسلام لا يتعارض مع التطور العلمي في كافة المجالات و في المجال الطبي خاصة، فحينئذ لا نرى في الروايات -الا ما شذ و ندر- يعارض المعطيات الطبية. أضف الى ذلك ان التوصيات الطبية الواردة في الروايات في الاعم الاغلب ناظرة الى تطور علم الطب المعاصرة له. و من الطبيعي انه لو قدر للائمة العيش في اوساطنا في هذه الأيام فانهم لن يقفوا من الطب موقفا سلبيا، بل قد يوصوا اتباعهم باستعمال بعض الادوية المصنعة حديثاً؛ و ذلك لان من لوازم التطور حصول بعض التحولات فشأن القضية هنا شأن التطور التقني في المجال العسكري فمن غير الصحيح ترك التطور التقني الهائل في صناعة السلاح و اللجوء الى السيف و الفرس و الرمح، و نسبة ذلك الى الدين[19]، و خلق حالة من التنافي بين النظام الموروث و النظام الحديث و الادعاء بان هذه هي النظرية الاسلامية. فمن هنا لا يمكن تجاهل التطور التقني و النظري في الحقل الطبي و الاقتصار على المعالجات الموروثة من الآباء. و هذا لا يعني تفضيل الطب الحديث على الطب القديم مطلقا، بل هناك بعض المعالجات القديمة بقيت محافظة على جدوائيتها كالحجامة و الفصد. نعم، اذا ثبت بما لاريب فيه ان التبرع بالدمع يؤدي دور الحجامة يكون من غير اللائق التمسك بالحجامة و ترك البديل الذي يحقق غرض الحجامة بالاضافة الى حفظ الدم ليستفيد منه المرضى لما يمثله من مادة حيوية.
الفصل الرابع:
اتضح مما مر من الابحاث بانه لا يمكن الادعاء بوجود علم مستقل يحمل عنوان "الطب الاسلامي" و أن ما هو موجود في الروايات لا يكفي في دعم هذا الادعاء، و هذا ما تؤكد الرواية التاريخية التالية:
كان المأْمونُ بنيسابُور و في مجلسه أَبو الحسن الرِّضا (ع) و جماعةٌ من المتطبِّبين و الفلاسفة مثل يُوحَنَّا بن ماسوَيْهِ و جَبْرَئِيلُ بن بَخْتِيشُوعَ و صالحُ بن سِلْهِمَةَ الهنديُّ و غيرهمْ من منتحلي العلوم و ذوي البحث و النَّظر فجرى ذكرُ الطِّبِّ و ما فيه صلاحُ الأَجْسَامِ و قوامها فأَغرقَ المأْمُونُ و من بحضرته في الكلام و تغلغلوا في علم ذلك و كيف ركَّبَ اللَّهُ تَعَالَى هذا الجسد و جميع ما فيه من هذه الأَشياء المتضَادَّةِ من الطَّبائع الأَربع و مضارِّ الأَغْذِيَةِ و منافعها و ما يلحقُ الأَجسام من مضارِّها من العللِ. قال وَ أَبُو الحسنِ (ع) ساكِتٌ لا يتكلَّمُ في شيءٍ من ذلك، فقال لهُ المأْمُونُ: ما تقُولُ يا أَبا الحسن في هذا الأَمر الَّذي نحن فيه هذَا اليوم و الَّذِي لا بُدَّ منه من معرفة هذه الأَشياء و الاغْذِيَةِ النَّافِعِ منها و الضَّارِّ و تَدْبِيرِ الجسد؟ فقال أَبُو الْحَسَنِ (ع): عندي من ذلك ما جرَّبْتُهُ و عرفتُ صحَّتَهُ بِالاخْتِبَارِ و مُرُورِ الأَيَّامِ مع ما وقَفَنِي عليه من مضى من السَّلَفِ ممَّا لا يَسَعُ الإِنسانَ جهلهُ و لا يعذرُ في تركه فأَنَا أَجمعُ ذَلِكَ مع ما يقَارِبُهُ مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَتِه.[20]ثم اعطى الامام (ع) تلك الاوراق للمأمون بعد ان طلبها الثاني منه.
أضف الى ذلك فان في هذه الرواية مؤشراً على التقية، بالاضافة الى عدم انسجامه مع معتقد الشيعة في علم الامام (ع)، لكن يمكن القول بان أئمة الدين يرون المصلحة في تكامل علم الطب من خلال البحث و التحليل و من خلال المناقشات بين المختصين في هذا الشأن عبر الزمان، من دون تدخل مباشر منهم (ع) و تفعيل علومهم الغيبية و وضعها تحت متناول الاطباء.
من هنا نقول: الطب الاسلامي هو الطب الذي لا يكون منطلقه كسب المال و تجميع الثروة و هو الطب الذي يحافظ فيه الطبيب على اسرار المرضى، و اعتماد الخلق الاسلامي في الطبابة، و ليس معنى الطب الاسلامي كون النظريات و القوانين الطبية مستلة من الكتاب و السنة مباشرة.
و من هنا نرى الأمّة الاسلامية مع ما تكنه للاطباء المسلمين كابن سينا و الرازي من احترام و تبجيل و...و لكنها مع ذلك لم تصبغ صنعتهم الطبية بالطب الاسلامي و لم تلبسها لباس القداسة، بل كانت تنظر اليها بلغة النقاش و الرد و النقد و التطوير شأنها شأن سائر الابتكارات و النظريات العلمية للعلوم الاخرى. و لكن يبقى الاعتراف قائم بوجود الكثير من التوصيات العلاجية و الطبية مبثوثة في تراثنا الروائية بالرغم من عدم وصفها بالطب الاسلامي.
[1] الجمعة،2.
[2] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 67، ص 372، مؤسسة الوفاء، بیروت، 1409 ق.
[3] انظر: بحار الانوار، ج 59، ص 65، ح 9.
[4] نفس المصدر، ج 42، ص 234.
[5] کهف، 11.
[6] آل عمران، 49؛ مائده، 110.
[7] بحار الانوار، ج 95، ص 218.
[8] انظر: الكليني، محمد بن یعقوب، الکافي، ج 6، ص 333، ح 5، دار الکتب الإسلامیة، طهران، 1407 ق.
[9] بحار الانوار، ج 59، ص 66، ح 10.
[10] نفس المصدر، ج 59، ص 64، ح 5.
[11] نفس المصدر، ، ج 59، ص 63، ح 4.
[12] نفس المصدر، ج 59، ص 140، ح 1.
[13] نفس المصدر، ج 59، ص 64، ح 7.
[14] نفس المصدر، ، ج 59، ص 75.
[15] نفس المصدر، ج59، ص290.
[16] النمل، 23.
[17] بحار الانوار، ج10، ص115.
[18] هذا التفسير ينسجم مع العبارة: " مَا مِنْ دَاءٍ إِلَّا وَ فِي الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ مِنْهُ شِفَاءٌ".
[19] انظر: الانفال،60.
[20] بحار الانوار، ج 59، ص 307.