و قوله تعالی: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِینَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْکُفَّارِ رُحَمَاءُ بَیْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُکَّعاً سُجَّداً یَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِیمَاهُمْ فِی وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِکَ مَثَلُهُمْ فِی التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِی الْأِنْجِیلِ کَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ یُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِیَغِیظَ بِهِمُ الْکُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِینَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِیماً". (الفتح: 29). و غیر ذلک من الآیات الکثیرة التی یثنی الله تعالى فیها على اصحاب الرسول الاکرم (ص)، و مع ذلک نجد الشیعة یدعون بأنهم کانوا مؤمنین على عهد رسوال الله (ص) و لکنهم ارتدوا من بعده! و هذا أمر عجیب حقاً! فکیف یرتد کل هذا الجمع الغفیر؟! و ما الداعی الى الارتداد بعد وفاته (ص)؟ الا أن تقولوا انتم معاشر الشیعة: ارتدوا بتنصیبهم لأبی بکر خلیفة على المسلمین. و هنا نقول لکم: هل کانوا یخشون أبا بکر؟ و هل کان یملک القدرة و السلطة التی تمکن من خلالها أخذ البیعة منهم بالقوة؟ علما أن رجال بنی تیم (عشیرة أبی بکر) أقل بکثیر من سائر القرشییین، و ان الغلبة السکانیة لبنی هاشم و بنی عبد الدار و مخزوم، فکیف تغلّب علیهم؟
إذن لم یکن الداعی لنصرة أبی بکر و الوقوف الى جانبة الا اعتقادهم بإیمانه و سابقیته فی الاسلام!!
نحن نعتقد بنزول الکثیر من الآیات فی الثناء على الصحابة، و لا نظن عالما شیعیا ینکر ذلک. لکن هذا لا یعنی أن هؤلاء الافراد و الجماعات الذین أثنی علیهم فی زمن ما بسبب ما قاموا به من عمل، قد ضمن لهم أنهم و طوال عمرهم لا یرتکبون ما یستحق الذم من الله تعالى و من سائر المؤمنین!! فذلک لم یضمن للنبی الاکرم (ص) فکیف بمن هو دونه فی المرتبة و لایقاس به بحال من الاحوال؟!! و قد اشار الى تلک الحقیقة قوله تعالى فی کتابه الکریم "وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَیْنا بَعْضَ الْأَقاویلِ * لأَخَذْنا مِنْهُ بِالْیَمینِ * ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتینَ *فَما مِنْکُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزینَ* وَ إِنَّهُ لَتَذْکِرَةٌ لِلْمُتَّقین".
أضف الى ذلک فی الوقت الذی أثنى الله تعالى فی آیات قرآنیة کثیرة على بعض الصحابة، لکنه فی الوقت نفسه ذم أیضا و فی آیات کثیرة البعض من هؤلاء الصحابة من قبیل قوله تعالى فی ذم الهاربین من الساحة فی معرکة أحد " إِنَّ الَّذینَ تَوَلَّوْا مِنْکُمْ یَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّیْطانُ بِبَعْضِ ما کَسَبُوا".
ومن هنا اتخذ الشیعة موقفا وسطا انطلاقا من الآیات المادحة و الذامة و من خلال دراسة تاریخ هؤلاء الرجال و بیان نقاط القوة و الضعف عندهم، فحکموا على کل صحابی طبقا لما التزم به و على اساس اسلوب تحرکه و تبعیته للرسول الاکرم (ص) و التزامه بالقوانین و الدساتیر الالهیة التی جاء بها النبی الاکرم (ص)، خلافا لطائفة من الاخوة المسلمین الذین ذهبوا الى کون طبقة الصحابة فوق النقد و لا یحق لاحد مهما کان، الاقتراب من تاریخهم و التعرض لنقد ما صدر عنهم!
واما قضیة الارتداد فلیس المراد منه الردة و العودة الى عبادة الاصنام، بل المراد منه التمرد على الدساتیر و الاوامر الالهیة و الرد على الرسول الاکرم (ص)، و هذا لم یختص بما بعد رحیله (ص)، بل حدث حتى فی أثناء حیاته (ص)، کالفرار فی معرکة أحد و حنین و عدم الالتحاق بجیش أسامة، و عدم الامتثال لأمره (ص) عندما طلب منهم أن یأتوة بدواة و کتف لیکتب لهم کتاب لن یضلوا بعده، فتنازعوا ولا ینبغی عند نبی تنازع! فقالوا: هجر رسول الله - ص -!! کما نقل البخاری ذلک.
یمکن تفکیک السؤال المطروح الى خمسة اسئلة، هی:
1. هل أثنى القرآن الکریم على صحابة النبی الاکرم (ص)؟
2. هل کل من أثنى علیه القرآن – فردا او جماعة- یکون قد وصل الى مرتبة بحیث لا یتطرق الیه الانحراف و لا یصدر منه الخطأ و الزلل؟
3. هل الآیات الواردة فی متن السؤال تامة الدلالة على عصمة الصحابة؟
4. هل تعتقد الشیعیة بارتداد کافة الصحابة بعد الرسول الاکرم (ص)؟
5. هل کانت بیعة أبی بکر تدل على أحقیته بالخلافة؟
أما بالنسبة الى التساؤل الاول: نعم، نحن نعتقد بنزول الکثیر من الآیات فی الثناء على الصحابة من قبیل ما جاء فی متن السؤال و غیر ذلک من الآیات، و لا نظن عالما شیعیا ینکر ذلک. لکن هذا لا یعنی أن هؤلاء الافراد و الجماعات الذین أثنی علیهم فی زمن ما بسبب ما قاموا به من عمل، قد ضمن لهم أنهم و طوال عمرهم لا یرتکبون ما یستحق الذم من الله تعالى و من سائر المؤمنین!! فذلک لم یضمن للنبی الاکرم (ص) فکیف بمن هو دونه فی المرتبة و لایقاس به بحال من الاحوال؟!! و قد اشار الى تلک الحقیقة قوله تعالى فی کتابه الکریم "وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَیْنا بَعْضَ الْأَقاویلِ * لأَخَذْنا مِنْهُ بِالْیَمینِ * ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتینَ *فَما مِنْکُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزینَ* وَ إِنَّهُ لَتَذْکِرَةٌ لِلْمُتَّقین".[1] فالآیات المبارکة تجعل النبی الاکرم (ص) قدوة للمؤمنین بأن لا یتکلوا على العناوین و الالقاب و لا یحق لاحد منهم مهما عظم شأنه أن یتجاوز الحدود الالهیة، و اذا کان الخطاب مع النبی (ص) الذی لا مجال للخطأ و الزلل لساحته المقدسة، فکیف بسائر الناس، و من هنا جاء قوله تعالى "وَ إِنَّهُ لَتَذْکِرَةٌ لِلْمُتَّقین".
و قد تکرر هذا فی قضیة بنی إسرائیل، فمع أنه تعالى قد أثنى علیهم فی آیات من الذکر الحکیم کقوله تعالى "یا بَنی إِسْرائیلَ اذْکُرُوا نِعْمَتِیَ الَّتی أَنْعَمْتُ عَلَیْکُمْ وَ أَنِّی فَضَّلْتُکُمْ عَلَى الْعالَمینَ"[2] لکنه عزّ شأنه ذمهم بشدة فی مواطن أخرى فلعنهم تارة[3] و وصفهم بالظلم[4] و السفه[5] و الفسق[6] و....فی مواطن اخرى.
أ لیس من الممکن جریان نفس الأمر فی الأمة الاسلامیة خاصة اذا أخذنا بنظر الاعتبار ما جاء فی المصادر الروائیة لأهل السنة عن رسول الله (ص) أنه قال: " لیأتین على أمتی ما أتى على بنی إسرائیل حذو النعل بالنعل".[7]
و هل من العدل الالهی أن الله تعالى یذم اصحاب موسى (ع) لکونهم تمردوا على الأمر الالهی فی الامتناع عن الصید یوم السبت[8]، و یتجاوز عن کل اخطاء و زلل أصحاب الرسول الاکرم (ص)؟!
و یکفی ما ذکرناه للاجابة عن السؤال الثانی و أن الثناء فی القرآن الکریم لا یعنی اعطاء الحصانة طیلة عمر الانسان فردا او جماعة. و مع هذا و لاکتمال البحث بصورة أفضل نسلط الضوء على الآیات التی استند الیها السائل، لنرى مدى دلالتها على ما ادعاه؟
الأول: اذا تأملنا فی آیات سورة الاعراف نجد أنها جاءت فی سیاق الحدیث عن اصحاب موسى (ع) و کیف عبد بنو اسرائیل العجل بعد غیاب موسى عنهم غیبة قصیرة و الحوار الذی جرى بین موسى و هارون علیهما السلام و أنه لم ینجح فی هذا الاختبار الا موسى و هارون فقط، و کذلک الحدیث عن اصحاب موسى (ع) الذین اختارهم لمیقات ربّه و کیف اخذتهم الرجفة لسفههم " وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعینَ رَجُلاً لِمیقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَکْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِیَّایَ أَ تُهْلِکُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِیَ إِلاَّ فِتْنَتُکَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَ تَهْدی مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِیُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا وَ أَنْتَ خَیْرُ الْغافِرین"[9] و فی نهایة المطاف و فی سیقا الآیات جاء قوله تعالى " الَّذینَ یَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِیَّ الْأُمِّیَّ الَّذی یَجِدُونَهُ مَکْتُوباً عِنْدَهُمْ فِی التَّوْراةِ وَ الْإِنْجیلِ یَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ یَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْکَرِ وَ یُحِلُّ لَهُمُ الطَّیِّباتِ وَ یُحَرِّمُ عَلَیْهِمُ الْخَبائِثَ وَ یَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتی کانَتْ عَلَیْهِمْ فَالَّذینَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذی أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِکَ هُمُ الْمُفْلِحُون".[10]
و لاریب أن سلسلة الآیات تلک لم تأت لسرد القصة و نقل الحادثة لإلهاء الناس و السمر بها، و انما جاءت لیتخذ منها اصحاب النبی الاکرم (ص) عبرة کی لا یحل بهم ما حل ببنی اسرائل، و لشدید الاسف نرى بعض الصحابة لم یلتزم بهذه الوصیة و تصدی للنبی الاکرم (ص) فی اللحظات الاخیرة من عمره الشریف و منعه من تدوین ما أراد تدوینه. فهل نضع هذا الموقف من ذلک الصحابی او الصحابة موضع التقدیر و الثناء و أنه کان توقیرا و تعزیزا و احتراما للنبی الاکرم (ص) أم أنه کان....!!!
الثانی: فی خصوص الآیات 151- 172 من سورة آل عمران، یکشف لنا تحلیلها بأنها ناظرة الى ثلاث مراحل، و حسب الترتیب التالی: ذمهم و تقبیح فلعتهم عندما فرّوا من ساحة القتال یوم أحد و ترکوا النبی (ص) هو و ثلة قلیلة من المؤمنین معه، و لکنها عادت و امتدحتهم عندما عادوا الى طاعة النبی و العمل بأمره، "الَّذینَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ" ثم وفی المرحلة الثالثة أضافت " لِلَّذینَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اتَّقَوْا أَجْرٌ عَظیم" و هنا نرى الآیة المبارکة لم تعط حصانة دائمة للصحابة و انما ربطت شمول الرحمة الالهیة بالاحسان و التقوى، فما داموا کذلک تشملهم الرحمة و الا فلا.
الثالث: استند السائل الى قوله تعالى فی سورة الانفال " وَ إِنْ یُریدُوا أَنْ یَخْدَعُوکَ فَإِنَّ حَسْبَکَ اللَّهُ هُوَ الَّذی أَیَّدَکَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنینَ *وَ أَلَّفَ بَیْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِی الْأَرْضِ جَمیعاً ما أَلَّفْتَ بَیْنَ قُلُوبِهِمْ وَ لکِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَیْنَهُمْ إِنَّهُ عَزیزٌ حَکیم"[11] و المتأمل فی الآیات یرى أنها تشیر الى حقیقة بشریة عامة و هی أن ظاهرة الاختلاف بین الناس أمر شائع، و ان الصحابة لیسوا مستثنین من هذه القاعدة و أنه ینبغی لهم مراقبة کافة تصرفاتهم و حرکاتهم، و ان الانسان یواجه فی حرکته حالات من التسامی و الرفعة تارة و الهبوط و الانحطاط مرة أخرى، بنحو یکون الفرد من اصحاب محمد (ص) قادرا على التصدی لعشرة من المشرکین و الکافرین " یا أَیُّهَا النَّبِیُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنینَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ یَکُنْ مِنْکُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ یَغْلِبُوا مِائَتَیْنِ وَ إِنْ یَکُنْ مِنْکُمْ مِائَةٌ یَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذینَ کَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا یَفْقَهُون" و لکن الرقم یتراجع فی مرحلة اخرى لیکون الواحد من المؤمنین مقابلا لاثنین من المشرکین فقط " فَإِنْ یَکُنْ مِنْکُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ یَغْلِبُوا مِائَتَیْنِ وَ إِنْ یَکُنْ مِنْکُمْ أَلْفٌ یَغْلِبُوا أَلْفَیْنِ بِإِذْنِ اللَّه" ثم یذکرهم القرآن الکریم بالسبب الذی أدى الى هذا الضعف و التراجع فی القوة " تُریدُونَ عَرَضَ الدُّنْیا وَ اللَّهُ یُریدُ الْآخِرَة". فلو اعتقد انسان بان الصحابة الکبار قد اصاب بعضهم بعد رحیل الرسول الاکرم (ص) ضعف و تراجعوا الى الوراء قلیلا، فهل تتضاد عقیدته تلک مع ما جاء فی الآیات المبارکة؟ و هل یوجد دلیل یؤکد بان الصاحبة قد صانهم الله تعالى من الافول و التراجع؟!!
الرابع: و أما قوله تعالى فی الآیة 110 من سورة آل عمران " کُنْتُمْ خَیْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْکَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ". فهی الاخرى قابلة للتأمل فیها من عدة جهات: اولا: نحن لا نشک بأن الامة الاسلامیة (أمة النبی الاکرم (ص) فی الجملة هی أفضل الأمم، لکن ذلک لا یمکن ان یعد دلیلا لاثبات ما جاء فی متن السؤال، لاننا نرى بالوجدان أنه وقع الصراع و الاختلاف بینهم، بل الصراع بین الاصحاب بعد رحیله (ص)[12] وصل الى حد خطیر جدا کاد ان یعض بالامة الاسلامیة و لکن، و لله الحمد لم یتمکن هؤلاء المنحرفون من القضاء على کل القیم الدینیة من الوسط الاجتماعی. فعلى سبیل المثال بقیت الأمة مشترکة فی عقیدتها بالله و النبی و القرآن و الصلاة و القبلة و الصوم و الحج و الجهاد و الانفاق و.... و ما زلت تلک القیم باقیة حتى الساعة، فحفظ للأمة إرثها الثقافی الکبیر، و لعل هذا هو السبب الذی جعلها أفضل الأمم. ففی أی دین نشاهد مراسم حیّة و اجتماع عبادی کبیر کالحج؟! الأمر الآخر فی الآیة المبارکة نجد أنه تردف بعد عدة آیات[13] الحدیث عن أهل الکتاب و تثنی علیهم بالقول "مِنْ أَهْلِ الْکِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ یَتْلُونَ آیاتِ اللَّهِ آناءَ اللَّیْلِ وَ هُمْ یَسْجُدُونَ * یُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْیَوْمِ الْآخِرِ وَ یَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ یَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْکَرِ وَ یُسارِعُونَ فِی الْخَیْراتِ وَ أُولئِکَ مِنَ الصَّالِحین" فهل یکشف هذا عن حقانیتهم مطلقاً. و أخیراً، فان الآیة الکریمة التی استدل بها على عدالة الصحابة قد حددت مجموعة من المعاییر التی لو التزم بهم المسلمون فحینئذ یستحقون الوصف بأنهم کانوا خیر أمة أخرجت للناس. و هل حققت الأمة تلک الشروط التی على رأسها الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر؟ أو ما لت لدعم الباطل و الوقوف أمام المعروف و الحق المتمثل فی الامام الحسین (ع) و سبط رسول الله (ص) یوم عاشوراء، الامر الذی انجر الى شهادته و أهل بیته و صحبه المیامین سلام الله علیهم و بتلک الصورة الوحشیة بالاضافة الى حرق خیامه و نهب ما فیها و أخذهم بنات الرسول (ص) أسارى الى الطاغیة یزید (لعنه الله)!!
ثم إن الآیة لا تختص بعصر الصحابة فقط، بل هی شاملة، و على فرض اختصاصها نحن نشاهد الواقع التاریخی یؤکد بما لاریب فیه بان الصحابة وقفوا صفّین و جبهتین متحاربین فی أکثر من موطن، و قف فی بعضها الامام أمیر المؤمنین (ع) الى جنب عمار بن یاسر و خزیمة بن ثابت و عیون الصحابة الآخرین من المهاجرین و مئات الصاحبة من الانصار (رضوان الله علیهم) و وقف فی الجانب الآخر معاویة (لعنه الله) و عمرو بن العاص و من آزرهم من المسلمین الشامیین و غیرهم. و هنا یثار السؤال: فأی الجبهتین هی الحق و انها مصداق الآیة الکریمة؟ فان قیل: کلاهما على حق، لم یبق معیار یعتمد علیه فی التمییز بین الحق و الباطل! و ان قیل جبهة خاصة هی المحقة ثبت ما ندعیه. و الجدیر بالذکر أننا نعتقد ان الجبهة التی یقودها أمیر المؤمنین (ع) هی الحق و هی المصداق لقوله تعالى "کنتم خیر أمة اخرجت للناس".
و قد وقع البحث و النقاش بین المفسرین حول الآیة الرابعة و الستین من سورة الانفال و هل الحافظ و الکافی للنبی الاکرم (ص) الله تعالى او الحافظ له اسناد المؤمنین و تبعیتهم له؟ فقیل: المعنى حسبک الله، و- حسبک المهاجرون و- الأنصار. و- قیل: المعنى کافیک الله، و- کافی من تبعک.[14] و على فرض التسلیم بالرأی الثانی الذی قد یکون هو مراد السائل، فلا یتم الاستدلال بالآیة على المطلوب أیضا؛ لان قوله تعالى "وَ مَنِ اتَّبَعَکَ مِنَ الْمُؤْمِنینَ" یدل على أن الوصف یختص بالمؤمنین الذین اتبعوا النبی الاکرم (ص) الذی لابد من استمراریته و لیس للاتباع حد معین و وقت خاص ینتهی عنده. و یشبه هذا الکلام - الى حد ما- ما رود فی معرض تهدید زوجات النبی الاکرم (ص) فی آیة أخرى حیث قال تعالى "إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُکُما وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَیْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْریلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنینَ وَ الْمَلائِکَةُ بَعْدَ ذلِکَ ظَهیر"[15] و قد روى المفسرون عن الخلیفة الثانی عمر بن الخطاب بان المقصود منهما عائشة و حفصة.[16]
کذلک نشیر هنا الى أن ما جاء فی سورة الفتح من وصف لصحابة النبی (ص) و بشاره بالمغفرة ودخول الجنة، محدد و مقید بالبقاء على نفس الموقف و المؤازرة و المساندة للنبی (ع). و لا یمکن بحال من الاحوال ان یشمل من فرّ فی أحد و حنین و ترک النبی الاکرم (ص) عرضة للخطر الکبیر! و هل یمکن ان یصدق على هؤلاء عنوان " أَشِدَّاءُ عَلَى الْکُفَّارِ" أو یصدق عنوان "رُحَماءُ بَیْنَهُمْ" على من تصدوا و حاربوا أمیر المؤمنین (ع) فی تلک الحروب الثلاثة التی عصفت بالمسلمین و اهلکت منهم الکثیر الکثیر من الصحابة و الخیرین؟! و هل یصدق على من انجرف مع جمع المال و اکتناز الذهب و الفضة و بنى قصر الخضراء من عرق و دماء المؤمنین و سلب لقمة عیشهم لیعیش هو و حاشیته فی رخاء لا مثیل له، عنوان " یَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوانا"؟!!
و اللافت للنظر أن السورة المبارکة تشتمل على بعض الآیات الذامة و المحذرة لبعض الافراد الذین هم على ظاهر الاسلام من قبیل الآیات 6 و11 و12 و 15.
من هنا یتضح أنه من المسلّم عندنا وجود آیات تثنی على الصحابة و تمتدح بعض افعالهم، الا أنها لا تعنی بحال من الاحوال مصونیة هؤلاء الصحابة من الزلل و الخطأ و لا یحق لنا التعرض لتاریخهم و دراسة ما بدر منهم و توجیه النقد لمن اخطأ من تلک الطائفة من المسلمین.
أضف الى ذلک و کما أثنى الله تعالى فی آیات قرآنیة کثیرة على بعض الصحابة، لکنه فی الوقت نفسه ذم أیضا و فی آیات کثیرة البعض من هؤلاء الصحابة من قبیل قوله تعالى فی ذم الهاربین من الساحة فی معرکة أحد " إِنَّ الَّذینَ تَوَلَّوْا مِنْکُمْ یَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّیْطانُ بِبَعْضِ ما کَسَبُوا"[17] و فی آیة أخرى اشارة الى اعتراض بعض الصحابة على النبی الاکرم (ص) عند تقسیمه للغنائم!! کما فی قوله تعالى "وَ مِنْهُمْ مَنْ یَلْمِزُکَ فِی الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَ إِنْ لَمْ یُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ یَسْخَطُون".[18] بل القرآن الکریم یشیر الى أن البعضهم کانوا یتذرعون بشتى الحجج للتخلف عن الرسول (ص) و تحذیر المؤمنین من الخروج کما فی قوله تعالى: " وَ إِذْ یَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذینَ فی قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً * وَ إِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ یا أَهْلَ یَثْرِبَ لا مُقامَ لَکُمْ فَارْجِعُوا وَ یَسْتَأْذِنُ فَریقٌ مِنْهُمُ النَّبِیَّ یَقُولُونَ إِنَّ بُیُوتَنا عَوْرَةٌ وَ ما هِیَ بِعَوْرَةٍ إِنْ یُریدُونَ إِلاَّ فِرارا".[19] بل نجد القرآن الکریم یحذر المؤمنین من اخبار بعض الصحابة ممن وصف بالفسق کما فی قوله تعالى " یا أَیُّهَا الَّذینَ آمَنُوا إِنْ جاءَکُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا أَنْ تُصیبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمین".[20]
ومن هنا اتخذ الشیعة موقفا وسطا انطلاقا من الآیات المادحة و الذامة و من خلال دراسة تاریخ هؤلاء الرجال و بیان نقاط القوة و الضعف عندهم، فحکموا على کل صحابی طبقا لما التزم به و على اساس اسلوب تحرکه و تبعیته للرسول الاکرم (ص) و التزامه بالقوانین و الدساتیر الالهیة التی جاء بها النبی الاکرم (ص)، خلافا لطائفة من الاخوة المسلمین الذین ذهبوا الى کون طبقة الصحابة فوق النقد و لا یحق لاحد مهما کان، الاقتراب من تاریخهم و التعرض لنقد ما صدر عنهم! الأمر الذی دعاهم الى القبول بالمتناقضات!! فبأی تبریر عقلی و شرعی نسوی بین الظالم و المظلوم و بین عمار الذی قال عنه الرسول (ص) "عمار تقتله الفئة الباغیة یدعوهم إلى الجنة ویدعونه إلى النار"[21] و بین الطائفة الباغیة التی قتلته تحت ذریعة عدالة الصحابة؟!!
نکتفی بهذا المقدار من البحث و نحیلکم للاطلاع على ما تبقى من الاسئلة الى المباحث التی تعرضنا لها فی اکثر من سؤال فی نفس الموقع.[22] و لکن یمکن القول على نحو الاجمال بان المراد من الارتداد لیس الردة و العودة الى عبادة الاصنام، بل المراد منه التمرد على الدساتیر و الاوامر الالهیة و الرد على الرسول الاکرم (ص)، و هذا لم یختص بما بعد رحیله (ص)، بل حدث حتى فی أثناء حیاته (ص)، نشیر الى بعضها کنموذج لتلک المواقف المعارضة و المخالفة کالفرار من ساحة القتال فی معرکة أحد و حنین و عدم الالتحاق بجیش أسامة مع تأکید الرسول (ص) و حثه لهم للالتحاق به، و عدم الامتثال لأمره (ص) عندما طلب منهم أن یأتوة بدواة و کتف لیکتب لهم کتاب لن یضلوا بعده، و هذا ما اورده البخاری فی صحیحة عن ابن عباس - رض - أنه قال: یوم الخمیس ، وما یوم الخمیس! ثم بکى حتى خضب دمعه الحصباء! فقال: اشتد برسول الله - ص - وجعه یوم الخمیس فقال « ائتونى بکتاب أکتب لکم کتابا لن تضلوا بعده أبدا» . فتنازعوا ولا ینبغی عند نبی تنازع! فقالوا: هجر رسول الله - ص - . قال (ص): « دعونی فالذی أنا فیه خیر مما تدعونی إلیه».[23] هذه بعض النماذج. علما أن للموقف السیاسی الدور البارز فی وقوع تلک المخالفات و کذلک العامل القبلی و غیر ذلک من العوامل و الاسباب. و قد وقع امثال ذلک لدى الامم السابق کقضیة عبادة العجل الذی صنعه السامری لبنی اسرائیل.
[1]الحاقة،44-48.
[2]البقرة، 47 و122.
[3] النساء، 46 و 47 و المائدة،13 و 78 و ....
[4]البقرة،51.
[5]الاعراف، 155.
[6] الاعراف، 163.
[7]سنن الترمذی، دار الفکر، بیروت، 1403 ه ق، ج 4، ص 135.
[8]انظر: البقرة، 65 و النساء، 47 و الاعراف، 163.
[9]الاعراف، 155.
[10]الاعراف، 157.
[11]الانفال، 62-63.
[12]انظر: البقرة 253 و...
[13] آل عمران، 114-113.
[14] محمد بن احمد القرطبی، الجامع لأحکام القرآن، انتشارات ناصر خسرو، طهران، 1364 ه ش، ج 8، ص 43.
[15]التحریم، 4.
[16]انظر: تفسیر القرطبی، ذیل تفسیر الآیة، ج 19، ص 189.
[17]آل عمران، 155.
[18]التوبة، 58.
[19]الاحزاب، 12-13.
[20]الحجرات،6.
[21]مسند الامام أحمد بن حنبل، رقم الحدیث 11429. وغیر ذلک من المصادر الاساسیة لعلماء أهل السنة.
[22]انظر مباحث الارتداد فی الموقع و کیفیة بیعة الاصحاب للخلیفة الاول.
[23] صحیح البخاری، دار الفکر، بیروت، 1401 ه ق، ج 5، ص 137- 138، و انظر الحدیث رقم3053>