عالم الغیب یقابل عالم الشهادة، و حیث إن عالم الشهادة له مراتب متعددة مثل:
1ـ الحضور المکانی
2ـ الحضور لدى الحواس الظاهریة.
3ـ الحضور فی الذهن و الفکر.
4ـ الحضور فی مقام المعرفة و البصیرة فإن لعالم الغیب نفس المراتب المتقدمة.
فإذا کان مراد السائل من موجودات عالم الغیب هو الجواهر العقلیة من المجردات فهنا لا بد من القول: أن الکثیر من الأدلة و البراهین قد سبقت لإثبات ضرورة وجود مثل هذه الموجودات، و کمثال على ذلک:
إن وجود مثل هذه الموجودات من لوازم الکمالات الإلهیة اللامتناهیة لأن الخالق تعالى واجد لتمام الکمالات، و إظهار موجود صاحب کمال «کموجودات عالم الغیب هو أحد الکمالات، و علیه فإن خلق مثل هذا العالم ضروری بالنسبة إلى الله، إضافةً إلى أن هذه الموجودات تنتظم فی سلسلة العلل الفاعلیة لهذا العالم».
من أجل أن یکون السؤال مفهوماً لا بد من الإشارة إلى عدة نقاط:
أ ـ یقال فی تعریف الغیب أحیاناً:
1ـ الغیب خلاف الشهادة و ینطبق على ما لا یقع علیه الحس، و هو الله سبحانه و آیاته الکبرى الغائبة عن حواسنا، و منها الوحی[1].
2ـ الغیب یعنی الخفاء الکامل، أی کل ما هو خفی عن نظرنا و علمنا[2].
3ـ و یقول بعض الفلاسفة: «الغیب ما لا یقع علیه الحس لا یشار إلیه»[3].
4ـ و جاء فی بعض التعاریف: عالم الغیب عبارة عن عالم الجواهر من المجردات[4].
و بشکلٍ إجمالی یمکن القول أن عالم الغیب مقابل لعالم الشهادة و حیث إن لعالم الشهادة مراتب مثل:
1ـ الحضور المکانی.
2ـ الحضور عند الحواس.
3ـ الحضور فی الفکر و العلم.
4ـ الحضور فی مقام المعرفة و البصیرة.
فإن لعالم الغیب ما یناظرها من المراتب:
1ـ الغیب المکانی:
کما قال القرآن الکریم فی قصة یوسف: «لا تَقْتُلُوا یُوسُفَ وَ أَلْقُوهُ فِی غَیَابَتِ الْجُبِّ»[5] و معنى ذلک لا تقتلوه و لکن ألقوه فی مکان یغیبه بالبئر.
2ـ الغیب عن الحواس الظاهریة:
یقول القرآن فی قصة سلیمان (ع): «فَقَالَ مَا لِیَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ کَانَ مِنَ الْغَائِبِینَ»[6]. و المراد من غیبة الهدهد فی الآیة أنه غائب عن عیون و حواس أخری.
3ـ الغیب عن الفکر و العلم:
یقول القرآن فیما یخص هذه المرتبة: «وَ یَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ کَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَیْبِ .... قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَیْبُ السَّمَاوَاتِ وَ الأَرْضِ»[7]. فالقرآن ینهى عن مثل هذا الکلام رجماً بالغیب و یرجع مثل هذا العلم إلى الله سبحانه «قُلْ رَبِّی أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ».
4ـ الغیب فی مقام المعرفة و البصیرة:
یقول القرآن بخصوص هذه المرتبة: «عَالِمُ الْغَیْبِ فَلا یُظْهِرُ عَلَى غَیْبِهِ أَحَدًا»[8].
5ـ الغیب من علم الله.
بما أن علم الله سبحانه لا حدود له، فلا یوجد أی غیب بالنسبة له و أنه یعلم أشیاء لا یعلمها أحدٌ غیره، یقول القرآن فی هذه المرتبة من الغیب: «وَ عِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَیْبِ لا یَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ»[9].
و علیه فیمکن القول أن عالم الغیب له مراتب، و من الممکن أن تکون إحدى المراتب غیب لشخص و لیست غیباً لشخصٍ آخر و إنما هی حضور و شهود.
و إن العلة فی نسبیة الغیب اختلاف مراتب و درجات کل إنسان و مقدار ما یتمتع به من حضور، فمن الممکن لشخصٍ أن یکون له حضور فی عالم الملکوت، و إن عالم الملکوت حاضر لدیه، و فی مثل هذه الحالة فإن عالم الملکوت لیس بغیب لدى هذا الإنسان، و لکن عالم الملکوت یعد غیباً بالنسبة لمن لا یملک هذه المرتبة. و لکننا عندما نعرض الغیب لا ننظر إلى أحوال الخواص، و إنما نلاحظ أحوال عامة الناس.
و على أی حال فإن کان مرادکم من عالم الغیب هو الجواهر العقلیة المجردة فلا بد من القول أن الأدلة کثیرة على ضرورة وجود مثل هذه الموجودات، نشیر إلى بعض من هذه الأدلة کما یلی:
1ـ الاستدلال العقلی على ضرورة عالم الغیب: إن الله تعالى واجد لجمیع الکمالات، و إن إظهار الموجود صاحب الکمال «موجودات عالم الغیب» هو أحد الکمالات، و علیه فخلق مثل هذا العالم ضروری بالنسبة إلى الله.
و یمکن أن تکون ملاحظة بعض النقاط کمفاتیح لفهم هذا الدلیل:
النقطة الأولى: لقد ثبت فی محله أن الله سبحانه موجود لا یحتاج إلى أی شیء، و من هنا فهو حائز على جمیع مراتب الکمالات، و إلا علینا أن نقبل أن الله محتاج بإزاء کل کمال فاقد له، و أن الموجود المحتاج لا یمکن أن یکون إلهاً.
کما قیل أیضاً: ما أمکن لمجرد بالإمکان العام فهو له بالضرورة[10]: بمعنى أن الموجود الحائز على جمیع مراتب الکمال، فای مرتبة یمکن فرضها له من الکمال، فهی موجودة فیه قطعا أی أنه یشتمل على کل کمالات الممکن.
النقطة الثانیة: أن لعالم الغیب کمالات لیست موجودة فی عالم المادة:
1ـ إن هذا العالم فاقد للمادة و الاستعداد، و علیه فکل ما فی عالم المجردات هو بالفعل و ثابت لا یخضع للتغیر، و لا للزمان، فحقیقة الشیء حاضرة بتمامها، و لا وجود للتدرج، خلافاً لعالم المادة فإنه فی تغییر دائم و مستمر، و لذلک فعالم المادة لا یمکن الإمساک به. و ذلک لأنه فی کل آن لا یوجد إلا حال الأشیاء، و إن ماضیها و مستقبلها مفقود، کما أن کل شیء فی عالم المادة عابر و متحول[11].
2ـ إن المادة منحصرة فی المکان و الزمان و الوضع و الأبعاد الثلاثة بینما لا تقع المجردات فی قبضة مثل هذه القیود فلا یحدها مکان و لا زمان و وضع و بعد، فهی حاضرة فی کل زمان و مکان و هذه المزیة و التقدم أبعد الکثیر من التعارضات، الشرور و محدودیة عالم المادة عن عالم المجردات[12].
3ـ إن للمادة قابلیة للإشارة الحسیة، الشکل، و اللون و التجزأة و الترکیب، کما أنها تتسم بالتکثرات، و کل قسم أو نوع من هذه الکثرات یزید فی قیود المادة و محدودیتها، فی حین لا وجود لمثل هذه المحدودیات فی عالم المجردات. و لذلک فموجودات عالم الغیب لا حدود لها. و اللامحدودیة میزة عظیمة أخرى یتمتع بها عالم الغیب و هی دلیل على أن هذا العالم أقوى من عالم المادة و یتمتع بکمالات وجودیة أکثر و من الطبیعی أن الأهلیة لإدراک هذه المعانی یحتاج إلى سعیٍ و جهد و توسل و توجه إلى مبدأ الوجود و تحصیل العلوم المختلفة، و أما بواسطة هذه الألفاظ فلا یمکن الحصول إلا على رائحة خفیفة بعیدة عن هذه المعانی[13].
النقطة الثالثة: إن ظهور و إظهار الکمال هو کمالٌ یضاف الی الکمالات الأخرى.
ثبت فی محله أن إظهار الموجود صاحب الکمال هو کمال أیضاً و قلنا «أن کل ما یمکن له بالإمکان العام فهو له واجب» و علیه فخلق مثل هذه الموجودات «موجودات عالم الغیب» ضروریة بالنسبة لله تعالى، أی أن عدم خلق مثل هذا العالم یساوی فقدان کمال من الکمالات، و هذا ینافی ألوهیة الله کما ینافی عدم تناهیه.
و مما تقدم یمکن استحصال النتیجة التالیة: إن عالم المجردات یتمتع بکمالات و خصوصیات لیست موجودة فی هذا العالم، و قد اوجب ذلک ضرورة خلق عالم المجردات من قبل الله تعالی «و بدیهی أن هذه الضرورة ناشئة عن ذات الکمال المطلق، و لیست مفروضة على الذات» لأن ظهور الکمالات غیر المتناهیة لله تعالى یتوقف على ظهور جمیع الکمالات سواء الموجودة فی الموجودات المجردة أو الکمالات التی توجد فی الموجودات المحسوسة.
2ـ إن عالم المجردات هو العلة الإیجادیة و واسطة الفیض الإلهی على هذا العالم.
لقد ثبت فی الحکمة ان عالم المجردات هو علة إیجادیة و واسطة للفیض الإلهی بالنسبة لهذا العالم و من دونه لا یوجد إمکان لتحقق العالم الخارجی[14].
و من الطبیعی أن جمیع هذه المطالب قائمة علی فرضیة اساسیة و هی أن الله خارج هذا العالم. و إلا إذا کان الله یدرج تحت عنوان المجرد الغائب و یقال أن الله غیب، بل غیب الغیوب[15]. باعتبار أن کنه ذاته غائب عن جمیع الموجودات، ففی هذه الحالة لا یبقى مکان لهذا السؤال، لأن عدم وجوده یعنی نهایة عالم الوجود.
3ـ دلیل الجمال على کون موجودات عالم الغیب غیبیة.
کما هو واضح فإن جمال عالم المادة یکمن فی خفاء بعض الاشیاء و ظهور بعضها الاخر، فکثیر من الأشیاء بعد خفاؤها حسناً و جمالاً، و أن ظهورها یشکل خللاً بالنسبة إلى کمال و جمال عالم المادة «فمثلاً لو افترضنا أن جمیع أجزاء جسم الإنسان تکون مکشوفة، فحینئذ یکون منظر الإنسان قبیحاً و غیر مقبول، بحیث یفقد الإنسان کل جماله، فی حین أن وجود أجهزة جسم الإنسان کجهاز الهضم و جهاز الدوران و....... تعد من کمال الجسم و ضروریات وجوده، و لکن کمال هذه الأجهزة فی خفائها و عدم ظهورها، و إن حالة ظهورها تفقدها کمالها، و لکن هذا الخفاء من أجل التمثیل فقط، لأن غیب البدن لا یعد غیباً بحسب اصطلاح الغیب» و کذلک ظهورها إما أن یکون غیر ممکن أو أن یکون کمالها فی خفائها. و على وجه الخلاصة یمکن القول: إن قسماً من فلسفة وجود الموجودات الغیبیة یمثل فی:
1ـ أن هذه الموجودات من لوازم ظهور الکمالات الإلهیة المطلقة.
2ـ وجودها ضروری کوسائط لتحقیق العالم المادی.
3ـ إن کون بعض موجودات العالم غیبیة یزید فی جمالها.
[1]المیزان فی تفسیر القرآن، ج 1، ص 45، مکتب النشر الإسلامی التابع لجماعة المدرسین فی حوزة قم العلمیة، مکان الطبع: قم، سنة الطبع 1374 ش، الطبعة الخامسة.
[2]ورد فی القرآن الکریم: « إِنِّی أَعْلَمُ غَیْبَ السَّماواتِ وَ الأَرْضِ» و «تِلْکَ مِنْ أَنْباءِ الْغَیْبِ نُوحِیها إِلَیْکَ».
[3]معجم مصطلحات آثار الشیخ إشراق، 271، غیب:......ص 271.
[4]فصوص الحکمة و شرحه، الشرح، ص 71، هو عالم الغیب المقابل لعالم الشهادة و هو عالم الجواهر العقلیة من المجردات.
[5]یوسف، 10.
[6]النمل، 20.
[7]الکهف، 20.
[8]الجن، 26.
[9]الأنعام، 59.
[10]المیزان فی تفسیر القرآن، ج 17، ص 382.
[11]شرح فصوص الحکم متن ص 176 [14] (العلم الأول وحدانی، و العلم الثانی کثرة) شرح فصوص الحکم متن ص 208 [16] (اللامتناهی ممتنع فی عالم الخلق و واجب فی عالم الأمر)فصوص الحکمة و شرحه الشرح ص 126 [32] فص فی ماهیة الملائکة و کیفیة استفادة النبی منها... ص 126.
[12] شرح فصوص الحکم، متن ص 276 [30]
[13]الحکمة المتعالیة فی الأسفار العقلیة الأربعة، ج 7، ص 227 الربع أن کون وحدة الصادر الأول عددیة... ص 226.
[14]شرح فصوص الحکم متن ص 221 [17] (عالم الربوبیة، عالم الأمر، عالم الخلق، و ارتباط العوالم بالمبدأ تعالى) و الحکمة المتعالیة فی الأسفار العقلیة الأربعة، ج 6، ص 99، الفصل(8) فی أن واجب الوجود لا شریک له فی الإلهیة و أن إله العالم واحد ..... ص 92.
فصوص الحکمة و شرحه الشرح، ص 126، [32.] فص فی ماهیة الملائکة و کیفیة استفادة النبی منها ...، ص 126.
شرح فصوص الحکم متن، ص311 [45]
[15](اصطلاح عرفانی) و هو عبارة عن ملاحظة الذات بدون ما عداها و بقطع النظر عما عداها و هذا ما یسمونه غیب الغیوب و بطن البواطن و الهویة المطلقة.
معجم المعارف الإسلامیة، ج 2، ص 740.
معجم المعارف الإسلامیة، ج 2، ص 1382.
(اصطلاح عرفانی) مرتبة الأحدیة هی جمع مراتب غیب الغیوب و غیب المکنون و غیب الصون. (اصطلاحات نعمة الله ص70).