فی البدایة لابد من أن نکون على معرفة بمعانی بعض الکلمات و الاصطلاحات من أمثال (القضاء) و (القدر) و (التقدیر) و (القضاء الإلهی).
القدر بمعنى المقدار المحدد، و التقدیر بمعنى تحدید هذا المقدار و تعیینه، و القضاء بمعنى الحسم و تمام الأمر. و معنى التقدیر الإلهی هو أن الله سبحانه وضع لکل ظاهرة حدودها الخاصة حیث یتم تحققها تحت تأثیر عوامل خاصة، و المراد بالقضاء الإلهی أنه بعد توفر المقدمات و الشروط لوجود أی ظاهرة، فإن الله یوصلها إلى مراحلها النهائیة.
و أما بالنسبة إلى أفعال الإنسان، فلابد أن نعلم أن الله سبحانه یأخذ بتقدیره کل خصوصیات هذا الفعل و من بین تلک الخصوصیات کون هذا الفعل اختیاریاً. فتقدیر الله سبحانه بالنسبة لأفعال الإنسان یعنی أن الإنسان یفعل الفعل على أساس توفر عوامل و شروط معینة مع الاستفادة من مساحة الاختیار التی یتمتع بها، و لا یوجد أی لون من ألوان الإجبار و القهر. و على هذا الأساس و کون مسألة اختیار الإنسان مما هو ملحوظ فی التقدیر الإلهی فلا وجود للتناقض بین الانتحار و القضاء و القدر الإلهیین. و أما بالنسبة لموقع مثل هذا الفرد فی عالم الآخرة فلابد من القول أن الأمر متعلق بنوع عمله، فإذا کان عمله من النوع الذی ینتهی به الی الانتحار عادةً، فإن حکم عمله هو حکم الانتحار، و مع أخذ الروایات بنظر الاعتبار فإنه سوف یلقى عذاباً شدیداً، و أما إذا کان عمله من النوع الذی لا ینتهی به إلى الموت عادة، فلا یکون عذابه الأخروی من نوع عذاب الفرض المتقدم، و إنما یلاقی التخفیف فی العذاب.
للإجابة عن هذا السؤال لابد من التذکیر بعدد من النقاط:
1- مفهوم القضاء و القدر:
(القدر) بمعنى المقدار المعین و (التقدیر) بمعنى تحدید المقادیر و صنع الشیء بمقدار معین و محدد، و (القضاء) بمعنى الحسم و إتمام العمل ، و کذلک تستعمل بمعنى القضاء و الحکم و التقییم (و هذا نوع من الحسم و الإتمام الاعتباری أیضاً) و تارة یستعمل المصطلحان (القضاء و القدر) بصورة مترادفة بمعنى (المصیر).
و المراد بالتقدیر الإلهی هو أن الله تعالى قرر و حدد لکل ظاهرة وجودیة حجماً معیناً و حدوداً کمیة و کیفیة و زمانیة و مکانیة خاصة بحیث یتم تحققها تحت تأثیر علل و عوامل تدریجیاً. و المراد من القضاء الإلهی هو أنه بعد تهیئة المقدمات و الشروط اللازمة و الأسباب بالنسبة لأی ظاهرة، فإن الله یوصلها الى مراحلها النهائیة بشکل حتمی.[1]
2- علاقة القضاء و القدر باختیار الإنسان:
التقدیر الإلهی، و المصیر له دائرتان:
1- دائرة خارجة عن اختیار الإنسان، و ذلک کما فی وقوع الحوادث الطبیعیة کالسیل، و الزلزال، و الطوفان و غیرها من الظواهر التی یکون موقف الإنسان المتدین منها هو التسلیم المطلق حال وقوعها، و من البدیهی أن التسلیم أمام هذه الحوادث لا یتنافى مع السعی للحیلولة دون وقوعها أو تقلیل الخسائر الناجمة عنها أو تعویض تلک الخسائر، لأن التسلیم یرتبط بأصل تحقق الأمور التی تقع خارج الإرادة الإنسانیة، و تتحقق من دون أن یکون للإنسان أی دور فیها. و أما لزوم السعی من أجل منع وقوعها أو التقلیل من الآثار الناجمة عنها أو تعویض الخسائر الناشئة فلا یتنافى مع التسلیم و هما أمران مختلفان و الفرق بیّن بینهما.
لأنه من الممکن أن تقع مثل هذه الحوادث فی نفس الموارد التی یبذل الإنسان ما بوسعه من جهد لمنع وقوعها، فلو أن الإنسان یشید بناءً مقاوماً للزلازل بقدر معین فإن وقوع الزلزال بشدة عالیة یدمر مثل هذا البناء، و لا یبقى للإنسان المتدین إلا التسلیم و الرضا فیما لو وقع مثل هذا الأمر.
2- الدائرة التی تشمل أفعال الإنسان الاختیاریة، و فی هذه الدائرة لا منافاة بین التقدیر الإلهی و إرادة الإنسان و تصمیمه بحریة کاملة، و على هذا الأساس فإن الإنسان یتحمل مسؤولیة أعماله بنفسه فی هذه الدائرة.
لأن معنى القضاء و القدر الإلهیین هو أن تحقق کل ظاهرة بجمیع خصوصیاتها و قیودها و شروطها مستند إلى العلم و الإرادة الإلهیة و إن الجمیع تحت تدبیره و حکمته، و إن ما قدره الله فعل الإنسان بکامل خصوصیاته و شروطه لا بدونها. و بعض هذه الخصوصیات یرجع إلى الخصوصیات الزمانیة و المکانیة، و بعضها یتعلق بالفاعل نفسه، و من خصوصیات هذه الأفعال کونها اختیاریة، بمعنى أنها تؤدى مع کامل الاختیار و الحریة بالنسبة إلى الفاعل.
و على هذا الأساس فإن معنى التقدیر الإلهی المسبق لأفعال الإنسان هو أن شخصاً خاصاً ینجز عملاً فی زمان معین و مکان معین مع الاختیار الکامل، من دون أی إجبار.
إذن فالقضاء و القدر لیس فقط لا یتنافى مع أفعال الإنسان الاختیاریة و حسب، و إنما یؤیدها، بمعنى أن وقوع هذا الفعل بالجبر و القهر محال. و ذلک لأن القضاء و القدر الإلهیین متعلق بوقوعه مع الاختیار و الإرادة الحرة، و إذا وقع الفعل من دون اختیار و إرادة فذلک یعنی أنه وقع خلافاً للقضاء و القدر الإلهی.[2]
3- حکم الانتحار:
(الانتحار حرام بأی نحو من الأنحاء، و من الذنوب الکبیرة، و قد ورد عن الإمام الصادق (ع): «من قتل نفسه متعمداً فهو فی نار جهنم خالداً فیها»[3] و قد روی عن الإمام الباقر(ع): «إن المؤمن یبلى بکل بلیة و یموت بکل میتة إلا أنه لا یقتل نفسه».[4]
العذاب فی الآخرة إذن فکل من یقدم على الانتحار و بأی هدف کان یرتکب ذنباً کبیراً و سوف یلاقی أشد.
4- حکم من یقدم على الانتحار بقصد التهدید لا بقصد قتل النفس:
لابد من القول فی هذا المورد: أولاً: إن التظاهر بالانتحار (حتى و إن لم یکن منجراً إلى القتل) تظاهر بالذنب و تشبه بأهل المعاصی و نوع من اللامبالاة بالأوامر الإلهیة. و ثانیاً: إذا انتهى عمله إلى الموت فیمکن تصور حالتین فی المسألة: إن العمل الذی قام به من باب التهدید إذا کان مما یؤدی إلى الموت عادةً کإلقاء النفس من الطابق الرابع لإحدى الأبنیة مثلاً. ففی مثل هذه الحالة یحسب عمله انتحاراً و إن لم یکن قاصداً به الموت و تطبق علیه أحکام الانتحار.
و أما إذا کان عمله مما لا ینتهی إلى الموت عادةً، فإذا أدى إلى الموت صدفةً، و لم یکن یقصد الموت بعمله، فإن الأمر مختلف عن الصورة الأولى، فمع أن الشخص ینتهک حرمة الأوامر الإلهیة إلا أنه لا یعد کالأول، و لا یکون عذابه و حسابه کصاحب الفرض السابق، و لا یمکن أن ینسب إلیه حکم الانتحار، و لذلک یخفف عنه العذاب، لأنه لم یکن یقصد الانتحار حقیقةً، و لم یعمل ما یؤدی إلى الموت عادةً.
أما فیما یخص السؤال و هل أن الإقدام على الانتحار یقصد التهدید من القضاء و القدر الإلهی، فالأمر أصبح واضحاً بعد الذی تقدم من الکلام، و إن جمیع الموارد و کل الأمور واقعة تحت تدبیر القضاء و القدر الإلهیین، و لا تتنافى مع إرادة الإنسان و حریته، جمیعها داخلة فی دائرة القضاء و القدر الإلهی، و لکنهما یختلفان بلحاظ التبعات و المسؤولیة و العذاب الأخروی بالفرضین المتقدمین. لأن التبعات الأخرویة للعمل تقاس بمقدار ارتباط العمل بالإنسان.
عند ما لا یکون لدى الإنسان قصد جدی، و إن عمله لا یؤدی إلى الموت عادة، فإن تعلق العمل بالإنسان أقل فی هذه الحالة، و لذلک تکون تبعاته أقل.