1- الحکمة الاولی: و هی التی تبحث عن کلیّات العالم و مسألة الوجود.
2- الحکمة الوسطی و التی تشمل الریاضیّات
3.الحکمة السفلی و هی التی تشمل العلوم التجربیة و الطبیعیّات.
و قد لا یکون هذا التقسیم خاطئاً. و لکن هذا التقسیم علیه أسئلة کثیرة:
الأول: کیف یکون العلم – الذی إذا حذفت فیه الأباطیل و الإضافات و المکرّرات فإنه لا یملأ مائة صفحة من کتاب – أفضل من العلم الذی ربما لا تکفیه آلاف الصفحات لتسجیل حقائق عن جزء صغیر جدّاً مثل الذرة؟
و کیف تکون المختلقات الذهنیة لبعض من یسمی بالمفکّرین أعلی درجة من الأهمیة فی مقابل العلوم المختلفة حول خفایا و أسرار الکائنات و مخلوقات الله العظیمة و القوانین الحاکمة بینها؟ بحیث یقول أحد الفضلاء فی کتابه: "إذا شبّهنا الحکمة الاولی بإنسان فإن الحکمة السفلی تکون بمثابة حصاة فی مثانة ذلک الإنسان، أی إنها شیء لا قیمة له بل هی شیء زائد و ضار. و الملفت للنظر أن الله الذی خلق تلک الأشیاء لم یکن علیماً بأنها لا قیمة لها!!!
و الحق أن علم البشر محدود فی کلیّته، و أن التقسیم إنما یکون فی المرحلة اللاحقة، إضافة الی أن علم البشر فی المورد الأول أی الحکمة الاولی محدود بشکل أکبر فهو یتألّف من المعلومات التی یطرحها العقل فی کون الله بدیهیّاً و أن الله نفسه قد أبلغ الأنبیاء بالأخبار عن العوالم التی لا یتمکّن الإنسان من الاطلاع علیها.
و أن توسّع المعلومات التی یمکن إدراکها من قبل البشر تتعلّق بالقوانین الحاکمة علی العالم و علی الأشیاء الموجودة فیه.
و إضافة الی ذلک: ألا یحتمل أن هؤلاء الذین ابتلوا بالتوهّم فی الاجابة عن أسئلة البشر حول الحکمة السفلی و قدّموا إجابات خاطئة تماماً (و المقصود بهم فلاسفة الیونان القدیمة الذین تذکر آراؤهم عادة فی بدایة مبحث العلم) أن یکونوا قد وقعوا فی نفس الأخطاء فی مورد الحکمة الاولی أیضاً و انحدروا بالبشریة فی ظلمات الجاهلیة السحیقة؟
تقاس قیمة العلم بالنسبة الی هدف خاص، فملاک قیمة العلم هو بمقدار فاعلیة ذلک العلم فی ساحة السعادة الأبدیة للإنسان، و العلوم العقلیة بمالها من العمومیة و الأبدیة للوصول الی الأهداف الإنسانیة الرفیعة هی الأکثر فاعلیة (و رغم أن العلوم التجربیة تجلب الکثیر من الرفاه الدنیوی و لکن دورها ضئیل فی تحقق سعادة الإنسان بما هو إنسان). و وجود خطأ فی العلم لا یدلّ علی بطلان جمیع استنتاجات علماء ذلک العلم. و کذلک فإن الکثرة الکمیّة للعلم لا تدل علی کونه هو الأهم، إذن فالعلوم الإلهیة العقلیة لها القیمة الأکبر فی رقیّ الإنسان، علی الرغم من علماء هذه العلوم قد ارتکبوا أخطاء فی العلوم الطبیعیة أو حتی فی العلوم الإلهیة.
للإجابة عن سؤالکم من الضروری التعرّض الی عدة امور:
الف: تعریف الحکمة: "الحکمة" هی استکمال النفس الإنسانیة بتصوّر الامور و التصدیق بالحقائق النظریة العملیة بقدر الوسع البشری. و تنقسم الحکمة إلی الحکمة العملیة (و هی العلم بالامور التی یمکننا تعلّمها و العمل بها) و الحکمة النظریة (و هی العلم بالامور التی یکمننا أن نتعلّمها و لکن لا یمکننا العمل بها). و تنقسم الحکمة النظریة إلی: الطبیعیّات (الحکمة السفلی) و هی الحکمة التی تتعلّق بالأشیاء المتحرکة و المتغیّرة، و الریاضیات (الحکمة الوسطی) و هی الحکمة التی تتعلّق بالامور الثابتة فی الذهن و إن کانت مندمجة بالتغیّر فی الوجود الخارجی. و الإلهیات (الحکمة العلیا) و هی الحکمة التی تتعلّق بالشیء الذی لا یکون فی وجوده أیضاً ممتزجاً مع التغیر و الحرکة.[1]
ب: ملاک تقییم العلوم:
إن تقییم الأشیاء یتم عن طریق عرضها علی مبدأ و هدف خاص و بالمقارنة معه یقال: ذلک الشیء ذو قیمة أو لا قیمة له، و الّا فلو ترکنا الأمر علی اطلاقه فإنه لا یمکننا التقییم طبقاً لذلک، فمثلاً حینما نرید أن نعرف أن قطعة من الذهب هل لها قیمة أم لا، فإنه یجب أن نعرف الغرض من هذا التقییم، فیمکن أن یکون لها قیمة کبیرة فی آلات الزینة، و لکن لا تکون لها أی قیمة عند من یکون علی وشک الهلاک من الجوع فی الصحراء. و بناء علی هذا فإذا أردنا تقییم علم من العلوم فیجب أن نری ما هو الغرض من هذا التقییم، و إذا لم یکن لهذا التقییم هدف و مبدأ خاص للقیاس فلا اعتبار له أساساً.
و لنری الآن أن تقییم العلوم المذکورة کان بأی هدف و فکرة، فهل کان فکرنا مادّیاً أم إلهیّاً، و هل لوحظت القیمة المادیّة للعلوم أم القیمة المعنویة، فإنه یجب فی تقییم العلم أن یجعل الملاک هو السعادة الأبدیة للإنسان، لأن الإنسان موجود أبدی لا یقبل الفناء و أن الحیاة الدنیویّة هی مرحلة من مراحل حیاة الإنسان و هی فانیة، کما أن استدلالکم الذی ذکرتموه هو استدلال عقلی و لیس تجربیّاً و جزئیّاً.
صحیح أن العلوم المادیة تبیّن لطائف الخلقة و ظرائفها، و لکنها لا تعتبر بحدّ نفسها طریقاً الی معرفة الله و تحقق سعادة الإنسان فی الآخرة، الّا إذا انضمت إلیها ملاحظات من العلوم الإلهیة؛ فمثلاً ما ذکرتم من علم الذرّة، فإنه و إن کان یستغرق آلاف الآلاف من الصفحات فإنه علم یمکن أن یجتمع مع الکفر أیضاً، فإن کثیراً من العلماء المعاصرین و القدماء کان فکرهم و لا یزال مادیاً و لم ینفعهم علمهم أبداً، بل قد استخدم علمهم فی کثیر من الموارد ضدّ سعادة البشریة أیضاً، و لهذا السبب فإن مثل هذه العلوم التی لا تأثیر مباشر لها فی مسیر القرب الإلهی، لا قیمة لها فی المعاییر الإسلامیة، الا أن تقع فی طریق هدف مقدّس و تستخدم فی مسیر القرب الی الله و لا یمکن ذلک الا بالعلوم المعرفیة و الإنسانیة و بالرؤیة الکونیة الإلهیة الشاملة و هی التی یبحث عنها فی العلوم الإلهیة.
و من هنا فإن العلوم المعرفیة و الإلهیة حتی لو کانت صفحة واحدة فهی فی نظر العالم الإلهی أفضل من آلاف الصفحات من العلوم غیر المقرّبة، و التی لا تأثیر مباشرا لها علی السعادة البشریة، حتی و إن بذلت جهود کبیرة، فی سبیل الحصول علی هذه العلوم، و ذلک لأن فقدانها لا یضرّ بسعادة الإنسان الأبدیة، و إن کان وجودها یمکن أن یساهم فی توفیر أسباب الراحة لنا.
تصوّروا لو أمکن أن نثبت عن طریق استدلال عقلی وجود الله مع صفاته الأصلیة، فإن هذه الصفحات القلیلة یمکنها أن تغیّر کل حیاة الإنسان الدنیویة و الأخرویة من دون حاجة الی أی شیء آخر، کما یمکن لعلم الذرّة و بواسطة مقدمة عقلیة أن یکون برهاناً لإثبات الخالق و الناظم للعالم.
فنکون قد تمسّکنا فی هذه الصورة بالعلوم العقلیة، و کان هذا العلم عبارة عن أحد مسائل هذه العلوم.
ج: الخطأ فی العلوم:
و الملاحظة الاخری التی یجدر ذکرها هو أن مجرد احتمال الخطأ فی العلم لا یثبت الخطأ فی ذلک العلم، بل أن وقوع الخطأ فی بعض العلوم لا یقلّل من قیمة الفروع الاخری فی ذلک العلم، و العلوم العقلیة التی اهتمّ بها الفلاسفة منذ قدیم الزمان، نری التغییر فیها قلیلاً بالنسبة للعلوم التجربیة.
و إن أکثر الأخطاء الفاحشة فی العلوم قد حصلت فی العلوم الطبیعیة. و أنتم إذا لاحظتم المنطق الارسطی ترون أنه مع عراقته فی الزمن و قدمه فإنه لایزال مورداً لقبول و اهتمام أکثر الفلاسفة، فی حین إنکم لا تلاحظون مثل ذلک فی العلوم التجربیة بل نشهد بین فترة و أخری حصول تحوّل أساسی فی العلوم التجربیة. ففی علم الفیزیاء تلاحظون مدی الفرق بین فیزیاء نیوتن و فیزیاء انشتاین، أو مدی التحوّل الذی طرأ علی علم الهیئة القدیم و اختلافه عن علم الهیئة الجدید. و الحال أن العلوم العقلیة قلیلاً ما یطرأ علیها مثل هذه التغییرات.
د: عدم صحة استعمال الألفاظ الموهنة فی البحوث العلمیة:
استعمال الألفاظ الموهنة فی البحوث العلمیة هو من المغالطات الشائعة، و هو بعید عن شأن من یقوم ببحث علمی. فینبغی فی البحوث العلمیة احترام جمیع الطبقات و حفظ شؤون البحث العلمی. و کذلک فإنه فی البحوث العلمیة قیمة العلم لا تقاس بأمتار لکی تقیّم العلوم بطول السطور و مساحة الصفحات و حجم الکتب، بل أن شرف العلم هو بتبع المعلوم الذی یبحث عنه، و حیث إن البحث فی العلوم العقلیة هو عن خالق الکون و أفضل مخلوقاته – و هو الإنسان- فهی أفضل العلوم و إن کان عدد سطورها و صفحاتها أقلّ من بعض العلوم التجربیة.
یقول الکندی إن أشرف و أعلی أقسام الفلسفة هو الفلسفة الاولی التی یحصل بواسطتها معرفة الله الذی هو علّة لکل حق، و من هنا فإن الفیلسوف الأکمل و الأشرف هو من یکون له إحاطة بهذا العلم الأشرف لأن العلم بالعلة أشرف من العلم بالمعلول.[2]
ثم هل أن المدار فی تقییم العلوم التجربیة هو الحجم؟! فإنکم إذا جمعتم قوانین نیوتن فإنها سوف لا تکون أکثر من عدة صفحات، و لکن البشر قد انتفع بها لسنین طوال و لا یخفی علی أحد قیمتها و أهمیّتها فهی أفضل من آلاف الصفحات من الکتب. إذن، فحتی فی العلوم التجربیة أیضاً لیس الملاک فی تقییم العلم حجم السطور و الصفحات لذلک العلم.