نعتقد نحن معاشر الشیعة بأن العلاقة المعنویة و الارتباط الروحی بین النبی الاکرم (ص) و بین المؤمنین برسالته لم ینقطع بموته و إن انقطعت العلاقة المادیة و الارتباط الجسمانی معه (ص)، و کذلک نعتقد أنه (ص) مطلع الآن على ما یدور فی هذا العالم و أنه یسمع سلامنا و زیارتنا و إن لهذه الزیارة الاثر الفعلی قطعاً. علماً أن الآیات التی استند الیها الوهابیون لاثبات مدعاهم هی بعیدة کل البعد عن ذلک الادعاء، بل هناک الکثیر من الآیات القرآنیة تثبت امکانیة الارتباط بالاموات، بل فی بعض الاحیان تعبر الآیات عن البعض کالشهداء بأنهم أحیاء غیر اموات بل احیاء عند ربهم یرزقون و انهم یستبشرون بالذین لم یلحقوا بهم. و مما لاشک فیه أن النبی الاکرم (ص) بالاضافة الى مقامه السامی هو على رأس قافلة الشهداء، فکیف یکون محروماً من هذه القدرة؟!.
حتى یتضح الأمر جلیاً لابد من الالتفات الى هذه القضیة، و هی أن المنهج الوهابی فی الاستناد الى آیات الذکر الحکیم لاثبات عقائدهم هو منهج انتقائی حیث یستند الى بعض الآیات من دون مقارنتها مع الآیات الأخرى أو السنة النبویة المطهرة القطعیة الصدور، یتمثل فی السعی لفرض فهمهم لتلک الآیات على الآخرین، علماً أن هذا المنهج قد رفض حتى من قبل المنصفین من أهل السنة فضلا عن الشیعة[1].
و من تلک الامور اعتقادهم بنفی تأثیر النبی الاکرم (ص) بعد وفاته و أنه لا یعلم بما یدور فی العالم؛ و من هنا نفوا الفائدة من وراء الزیارة أو الاستشفاع به[2].مستندین فی ذلک الى بعض الادلة منها الاستناد الى الآیتین المذکورتین فی متن السؤال.
من هنا، ینبغی فی المرحلة الاولى تحلیل الآیتین المذکورتین و بیان وجه استدلالهم بهما لاثبات مدعاهم؛ و فی المرحلة الثانیة الاجابة عن الاسئلة المطروحة ثم فی الختام الاشارة الى الآیات التی تدل على عدم انقطاع العلاقة بین النبی الاکرم (ص) و بین هذا العالم بعد رحیله.
1- تحلیل الآیتین اللتین استند الیهما الوهابیون:
1-1: الآیة الاولى (259 من سورة البقرة) تشیر إلى حکایة رجل سافر على حماره و معه طعام و شراب، فمرّ بقریة قد تهدّمت و تحوّلت إلى انقاض تتخلّلها عظام أهالیها النخرة. و إذ رأى هذا المشهد المروع قال: کیف یقدر اللّه على إحیاء هؤلاء الأموات؟
لم یکن تساؤله بالطبع من باب الشکّ و الإنکار، بل کان من باب التعجّب، إذ أنّ القرائن الأخرى فی الآیة تدلّ على أنّه کان أحد الأنبیاء، و قد تحدّث إلیه اللّه، کما أنّ الأحادیث تؤیّد هذا[3].
عند ذلک أماته اللّه مدة مائة سنة، ثمّ أحیاه مرّة اخرى و سأله: کم تظنّ أنّک بقیت فی هذه الصحراء؟ فقال و هو یحسب أنّه بقی سویعات: یوما أو أقل، فخاطبه اللّه بقوله: بل بقیت هنا مائة سنة، انظر کیف أنّ طعامک و شرابک طوال هذه المدّة لم یصبه أی تغیّر بإذن اللّه. و لکن لکی تؤمن بأنک قد أمضیت مائة سنة کاملة هنا انظر إلى حمارک الذی تلاشى و لم یبق منه شیء بموجب نوامیس الطبیعة، بخلاف طعامک و شرابک، ثمّ انظر کیف إنّنا نجمع أعضاءه و نحییه مرّة أخرى.[4]
فاستند الوهابیون الى هذه الآیة بان الرجل کان و لمدة مائة عام لا یعلم شیئاً حتى أنه عندما سأله الله کم لبثت؟ "َ قال لَبِثْتُ یَوْماً أَوْ بَعْضَ یَوْم"! من هنا خلصوا الى نتیجة مؤداها أن الانسان بعد الموت لا یعلم شیئا حتى الزمان الذی یقضیه، فضلاً عن کونه یعلم بانه سبب للبرکة و الخیر للآخرین، من هنا قالوا بعبثیة مخاطبة الموتى!.
2-1: الآیة الثانیة (116-117 من سورة المائدة)؛ هذه الآیات تشیر إلى حدیث یدور بین اللّه و المسیح(ع) یوم القیامة، تقول الآیة الاولى:" وَ إِذْ قالَ اللَّهُ یا عِیسَى ابْنَ مَرْیَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِی وَ أُمِّی إِلهَیْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟".
فیجیب المسیح (ع) بکل احترام ببضع جمل على هذا السؤال:
1- أوّلا ینزّه اللّه عن کل شرک و شبهة: قالَ سُبْحانَکَ.
2- ثمّ یقول: ما یَکُونُ لِی أَنْ أَقُولَ ما لَیْسَ لِی بِحَقٍّ أی ما لا یحق لی قوله و لا یلیق بی أن أقوله.
3- ثمّ یستند إلى علم اللّه الذی لا تحده حدود تأکیدا لبراءته فیقول: "إِنْ کُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِی نَفْسِی وَ لا أَعْلَمُ ما فِی نَفْسِکَ إِنَّکَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُیُوبِ".
4- ما قُلْتُ لَهُمْ إِلا ما أَمَرْتَنِی بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّی وَ رَبَّکُمْ، لا أکثر من ذلک.
5- وَ کُنْتُ عَلَیْهِمْ شَهِیداً ما دُمْتُ فِیهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّیْتَنِی کُنْتَ أَنْتَ الرَّقِیبَ عَلَیْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى کُلِّ شَیْءٍ شَهِیدٌ.
أی کنت أحول دون سقوطهم فی هاویة الشرک مدّة بقائی بینهم، فکنت الرقیب و الشاهد علیهم، و لکن بعد أن رفعتنی إلیک، کنت أنت الرقیب و الشاهد علیهم.
6- إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُکَ وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّکَ أَنْتَ الْعَزِیزُ الْحَکِیمُ، أی على کل حال فالأمر أمرک و الإرادة إرادتک، إن شئت أن تعاقبهم على انحرافهم الکبیر فهم عبیدک و لیس بامکانهم أن یفروا من عذابک، فهذا حقّک بإزاء العصاة من عبیدک، و إن شئت أن تغفر لهم ذنوبهم فإنّک أنت القوی الحکیم، فلا عفوک دلیل ضعف، و لا عقابک خال من الحکمة و الحساب[5].
الا ان الوهابیین استنتجوا من هذه الآیات المبارکة أن الانبیاء شهود على أممهم فی الحیاة الدنیا فقط حینما یکونون فی أوساطهم و اما بعد الموت فتنقطع أیدیهم عن أی فعل أو أی أثر. من هنا یکون من العبث صرف الوقت بالتوسل الغیر المجدی بالحدیث معهم بعد موتهم و طلب الشفاعة منهم و التوسل الیهم لقضاء حاجاتنا من خلال التوسط بیننا و بین الله تعالى!.
2- بعد ان اتضح - الى حد ما- المراد من الآیتین و کیفیة استدلال الوهابیین بهما، نشرع ببیان الجواب اللازم:
1-2. بالنسبة الى الآیة الاولى نقول: إن الله تعالى لم یخلق الانسان على مستوى واحد من الشعور و الانتباه فی جمیع مراحل حیاته، فشعوره عندما یکون مستیقظاً متأملاً فی ما یحیط به، یکون ادراکه اکثر بکثیر مما اذا کان مسترخیاً و فی حالة الاستراحة، فلعله فی هذه الحالة لا یلتفت الى الکثیر من الامور التی تدور حوله، و عندما یستغرق فی النوم تصل تلک الحالة الشعوریة بما یحیط به الى حد الصفر تقریباً، و مع هذه الحالة یوصف بأنه انسان حی.
نعتقد نحن معاشر الشیعة بالنسبة الى الموتى، أن الله لم یجعل جمیع الموتى فی مرتبة واحدة، بل انه تعالى و لمصالح یراها جعلهم فی مراتب مختلفة، البعض منهم سواء کانوا من المؤمنین أو الطالحین یتصفون کالاحیاء بدرجة من الانتباه و البعض الآخر لا یتصف بذلک[6].سیأتی البحث عنه فی القسم اللاحق و البحث عن حیاة الشهداء.
فمن الطبیعی أن الله تعالى - و لاظهار قدرته لهذا الشخص المؤمن الذی تعجب عن کیفیة إحیاء الموتى- قد سلب منه کل أنحاء الشعور و الاحساس بالعالم الخارجی لمدة مائة عام، ثم أعاد له احساسه و شعوره بها لیعزز إیمانه بالمعاد؛ و من البدیهی أنه لا یمکن الاستناد الى هذه الواقعة للخروج بنتیجة کلیة مؤداها أن کل من یخرج عن هذه الدنیا تنقطع علاقته بالعالم المادی، بل – کما سیتضح– أن الله تعالى منح بعض الافراد کالشهداء قدرة الاتصال بالعالم حتى بعد شهادتهم.
و من جهة أخرى، لو تأملنا فی الآیة المبارکة نجد أن الله تعالى فی ظرف واحد قام بعملین الاول هی تفسخ جسد الحمار و تحوله الى عظام بالیة وفی المقابل ابقى الطعام على حاله لم یتسنه أی لم یتعفن أو یتغیر طعمه!!.
و هنا یثار السؤال التالی: هل یعجز الله سبحانه أن یجعل شخصاً کالنبی الاکرم (ص) واسطة بینه و بین عباده کما صرحت الآیة بکونه واسطة بینه و بینهم فی کثیر من الامور فی الحیاة الدنیا[7]. و لا یتنافى هذا بحال من الاحوال مع العقائد الاسلامیة؟!
2-2: صحیح أن الانسان یؤثر فی الآخرین بسبب وجودة الفیزیاوی الجسدی من خلال التماس و الحرکة فی اوساط المجتمع و لکن هذا لا یعنی بحال من الاحوال أن التأثیر منحصر بهذا البعد من الانسان، بل هناک من الناس من یؤثر بوجوده المعنوی أیضاً، ففی روایة نقلها الفریقان – الشیعة و السنة- عن النبی الاکرم (ص) أنه قال: " نصرت بالرعب مسیرة شهر"[8]
فمن الطبیعی أن تأثیر الانبیاء فی المجتمع من زاویة البعد الفیزیاوی ینقطع بسبب عوامل کثیرة کالموت، السفر، السجن و...، لکن ما هو الدلیل على انتفاء البعد المعنوی بسبب تلک العوامل؟!
فما ورد فی سورة المائدة على لسان النبی عیسى (ع) یشیر الى إنتهاء حضوره و وجوده الجسدی عن الناس، و التی یتفق جمیع المفسرین على أنها لم تحصل بسبب الموت و الوفاة لان أغلب المفسرین یعتقد بانه مازال حیاً و أنه سیعود بجسده مرة أخرى الى هذا العالم فی آخر الزمان[9]. و على هذا الاساس لم یک کلام عیسى (ع) نافیاً لحضوره المعنوی، بل غایة ما یثبته أنه لا یتمکن من تحقیق رغباتهم التی تحتاج الى حضوره الجسدی فی اوساطهم فقط؛ و انه طلب من أتباعه مباشرة العدول عن عقائدهم الباطلة، و ان قوله " فَلَمَّا تَوَفَّیْتَنِی کُنْتَ أَنْتَ الرَّقِیبَ عَلَیْهِمْ" لا یعنی نفی الرقابة المعنویة عن نفسه (ع) و انتهاءها بعد رفعه الى السماء، بل هو یشیر الى حقیقة و هی أن الرقیب الواقعی هو الله تعالى الذی یرقب الامور بالاستقلال و أنه الرقیب وراء کل رقیب سواء کان من الانبیاء أم الملائکة، و قد أشارت الآیات القرآنیة الى تلک الحقیقة منها الآیة التی وبّخت نساء النبی الاکرم (ص) على ایذائهن له "إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُکُما وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَیْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْریلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنینَ وَ الْمَلائِکَةُ بَعْدَ ذلِکَ ظَهیر"[10] فکما أن الحصر فی قوله تعالى "فان الله هو مولاه" لا ینفی ولایة جبرئیل و صالح المؤمنین و الملائکة؛ فکذلک عبارة " کنت أنت الرقیب علیهم" هی الأخرى لا تنفی الرقابة المعنویة لعیسى (ع).
انطلاقاً مما مر، لابد من الالتفات الى هذه القضیة وهی انا لو نظرنا الى حیاة النبی الاکرم (ص) نرى نسبة قلیلة جداً من المسلمین وفقوا للاتصال به مباشرة و الالتقاء به (ص) و طلب الشفاعة منه، هذا من جهة و من جهة أخرى نرى القرآن الکریم یوصی هذه المجموعة على قلتها بعدم مضایقة النبی (ص) کما فی قوله تعالى " یا أَیُّهَا الَّذینَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُیُوتَ النَّبِیِّ إِلاَّ أَنْ یُؤْذَن"[11] و فی آیة أخرى نراه یطلب منهم الرجوع الى النبی الاکرم (ص) " وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُکَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحیماً"[12] فلا ریب انه لابد من حمل هذه الوصیة على الرجوع المعنوی، خاصة اذا أخذنا بنظر الاعتبار حقیقة ان اکثر المسلمین فی حیاته و کل المسلمین بعد وفاته (ص) لم تتوفر لهم الفرصة للقاء معه (ص)، فمن غیر الانصاف أن یحرم العدد الاکبر من المسلمین من لقائه و تنحصر الوصیة بالرجوع الیه و الاستفادة من استغفاره بطائفة قلیلة جداً من المسلمین وان کانوا اضعف اعتقاداً و ایماناً به (ص) من غیرهم من المسلمین.
فالشیعة تعتقد إنطلاقا من التعالیم الواردة عن أهل البیت (ع) أن الباب ما زال مفتوحاً و سیبقى کذلک للاتصال المعنوی بالرسول و طلب الشفاعة منه، بل هذا الأمر لا ینحصر بالنبی الاکرم (ص) بل یعم الصالحین و الاولیاء من عباد الله تعالى و کذلک الشهداء.[13]
3. اننا نعتقد بان ما ذکرناه کاف لرد الشبهة التی اثارها الوهابیون و لکن نشیر الى بعض الآیات القرآنیة التی تتحدث عن حیاة من هم غائبون عنا فی الظاهر و ذلک لزیادة الاطمئنان لدى القارئ:
1- 3: قال تعالى مخاطبا النبی الاکرم (ص): " وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِکَ مِنْ رُسُلِنا أَ جَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً یُعْبَدُونَ"[14].
و السؤال کیف یتمکن النبی الاکرم (ص) من سؤال من سبقه من الانبیاء عن هذا الموضوع؟ ان اغلب المفسرین السنة یعتقدون ان هذا السؤال تم فی لیلة المعراج[15].
فعلى هذا الاساس ان هؤلاء الانبیاء یمتکلون نوعا من الحیاة التی مکنتهم من الاجابة عن سؤال النبی الاکرم (ص). فما الضیر ان یتوفر هذا النوع من الحیاة للنبی الاکرم (ص) لیتصل به المؤمنون من خلاله؟!
2-3: جاء فی آیة أخرى الحدیث عن موسى (ع) " وَ لَقَدْ آتَیْنا مُوسَى الْکِتابَ" ثم بعد ذلک توجه الخطاب للنبی " فَلا تَکُنْ فی مِرْیَةٍ مِنْ لِقائِهِ"[16] فقد ذهب بعض المفسرین الى عود الضمیر فی "لقائه" على الله، أی لا تکن فی مریة من لقاء الله، لکن هناک الکثیر من المفسرین ذهبوا الى اتجاه آخر تکون نتیجته أن الآیة تمثل بشارة للنبی (ص) بأنه سیلتقی بالنبی موسى قبل رحیله و قد تحققت تلک البشارة فی لیلة الاسراء[17].
و مع غض النظر عن صحة أی من التفسرین لا نجد مفسراً من کبار مفسری أهل السنة استبعد امکان تحقق ذلک اللقاء تحت ذریعة وفاة و رحیل النبی موسى (ع).
من هنا لو ثبت من خلال القرآن الکریم أن اللقاء مع الموتى ممکن، فهل تعد زیارة القبور و الارتباط المعنوی معهم شرکاً و بدعة؟!
3-3: نجد فی موضع آخر من القرآن أن مؤمناً من المؤمنین عندما توفی و تفضل الله تعالى بعنایته الخاصة علیه فلما رأى النعم الالهیة حینها تمنى أن یعلم قومه بما هو علیه من النعم " قیلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ یا لَیْتَ قَوْمی یَعْلَمُونَ * بِما غَفَرَ لی رَبِّی وَ جَعَلَنی مِنَ الْمُکْرَمینَ".[18] و من البدیهی أن هذا التمنی ما کان المراد به یوم القیامة، لانه لا معنى حینئذ للتمنی لان الکل یشاهدون تلک النعم و یعلمون بها، بل المراد هو مرحلة البرزخ.[19] فهل یعتقد الرهابیون أن منزلة نبینا أدنى من منزلة هذا العبد الصالح بحیث أنه یمتلک من الاحساس و الشعور الذی یجعله یتمنى ذلک ما لا یمتلکه النبی الاکرم (ص) مع عظیم منزلته (ص)؟!
4-3: نرى فی عدد من الآیات أن الله تعالى ینهى الناس من عد الشهداء أمواتا " وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذینَ قُتِلُوا فی سَبیلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْیاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ یُرْزَقُون".[20] بل صریح القرآن أن الشهداء یستطیعون الاتصال بذویهم و اصدقائهم معنویاً " فَرِحینَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ یَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذینَ لَمْ یَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَیْهِمْ وَ لا هُمْ یَحْزَنُون".[21]
من هنا یمکن أن نستکشف حیاة النبی الاکرم (ص) بعد رحیله و ارتباطه المعنوی بصورة واضحة من خلال الخطوات التالیة:
أولا: لا شک انه و طبقا لآیات القرآن الکریم أن مقام الانبیاء و الصدیقین أرفع من مقام الشهداء[22]، فاذا کان الشهداء احیاءً عند ربهم، فهل یشک عاقل فی کون الانبیاء کذلک من باب أولى؟! و هل المقام مقام تعجب؟!
ثانیاً: لو سلمنا بأن الحیاة منحصرة بالشهداء فقط و لم یسر الأمر الى الانبیاء فلابد من الالتفات الى أن النبی الاکرم (ص) - طبقا لمعتقد الکثیر من الشیعة و السنة- قد استشهد عن طریق دس السم الیه[23].
فنبینا الاکرم (ص) شهید حی ناظر الى اعمالنا و قادر على الارتباط بنا ارتباطاً معنویاً؛ و ان الشبه التی أثارها الوهابیون لم تتمکن حتى من اقناع أهل السنة أنفسهم للتوقف عن زیارة النبی و قطع العلاقة المعنویة معه (ص).
ان مشکلة الوهابیة الاساسیة تکمن فی التحجر و الجمود على ظواهر الآیات و الروایات و عدم التمعن و التفکیر الدقیق فی مضامینها و مقارنة بعضها مع البعض الآخر او ملاحظة الروایات التی تشیر الى خلاف ما یذهبون الیه کما ورد فی الصحاح المعتبرة عندهم! فانهم یسلمون على سبیل المثال بما جاء فی صحیح البخاری من أن النبی الاکرم (ص) تحدث مع قتلى بدر من المشرکین بعد قتلهم و القائهم فی القلیب " « هل وجدتم ما وعد ربکم حقا؟! ثم قال: إنهم الآن یسمعون ما أقول ».[24] و کذلک یسلمون بان المیت یسمع خفق نعال المشیعین وغیرهم حیث عقد البخاری باب مستقلا تحت عنوان " باب المیت یسمع خفق النعال"[25]. بل إنهم یعتقدون أن النبی الاکرم (ص) یرد سلام المسلم علیه.[26] لکنهم لا یریدون التسلیم بان النبی الذی یتکلم مع الموتى و القادر على رد السلام هو نفسه یستطیع أن یکون الواسطة بینهم و بین الله تعالى.
[1] لمزید الاطلاع انظر الاسئلة رقم4205 (الرقم فی الموقع: 4940) و 4889 (الرقم فی الموقع: 5777) بحث جواز التوسل بالاموات عند أهل السنة.
[2] ذهب بعض الوهابیین الى جواز التوسل بالنبی الاکرم (ص) فی حیاته و لکنها لا فائدة منها بعد وفاته. یمکن التعرف على المراد من التوسل و عدم منافاته مع التوحید من خلال الرجوع الى الاسئلة التالیة: 542 (الرقم فی الموقع: 590)، 1321 (الرقم فی الموقع: 1316) و 1269 (الرقم فی الموقع: 2577).
[3] اکثر الروایات و التفاسیر تشیر الى أن هذا الرجل هو عزیر النبی، انظر: مستدرک الحاکم النیسابوری، ج2، ص282، دار المعرفة، بیروت، 1406 هـ.
[4] الشیخ ناصر مکارم الشیرازی،الأمثل فی تفسیر کتاب الله المنزل، ج2، ص: 27، نشر مدرسة الامام علی بن ابی طالب، قم، 1421 ق، الطبعة الاولى.
[5] الأمثل فی تفسیر کتاب الله المنزل، ج4، ص: 193-194.
[6] انظر: السؤال رقم 5674( الرقم فی الموقع:6146) کیفیة العلاقة مع البرزخ و الحیاة فیه.
[7] النساء،64، "وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُکَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحیما".
[8] انظر: ابو جعفر الطبری، جامع البیان فی تفسیر القرآن، ج 3، ص 2، دار المعرفة، بیروت، 1412 ق.
[9] نفس المصدر، ج3، ص203.
[10] التحریم، 4.
[11] الاحزاب،53.
[12] النساء،64.
[13] لمزید الاطلاع انظر السؤال رقم2737 ( الرقم فی الموقع:3053) .
[14] الزخرف، 45.
[15] القرطبی، محمد بن احمد، الجامع لأحکام القرآن، ج 16، ص 95، انتشارات ناصر خسرو، طهران، 1364 ش.
[16] السجدة،23.
[17] الطبری ابو جعفر محمد بن جریر، جامع البیان فی تفسیر القرآن،ج 14، ص 108، دار المعرفة، بیروت، 1412 ق، الطبعة الاولی.
[18] یس،26-27.
[19] انظر: الجامع لاحکام القرآن، القرطبی محمد بن احمد، ج16، ص20، انتشارات ناصر خسرو، طهران، 1364 ش، الطبعة الاولى.
[20] آل عمران،169؛ البقرة،154.
[21] آل عمران، 170-171.
[22] النساء،69، "فأولئک مع الذین أنعم الله علیهم من النبیین و الصدیقین و الشهداء و الصالحین..".
[23] لمزید الاطلاع انظر الرقم 6446(الرقم فی الموقع: 6897) .
[24] صحیح البخاری، ج 5، ص 9، دار الفکر، بیروت، 1401 ق.
[25] صحیح البخاری، ج 2، ص 92.
[26] مسند احمد، ج 2، ص 537، دار صادر، بیروت، بدون تاریخ.