الشیطان ینتمی إلى الجن حسب تصریح القرآن الکریم، و إن الجن مکلفون کما أن البشر مکلفون، و بحسب قول الإمام علی علیه السلام: "وَ کَانَ قَدْ عَبَدَ اللَّهَ سِتَّةَ آلَافِ سَنَةٍ لَا یُدْرَى أَ مِنْ سِنِی الدُّنْیَا أَمْ مِنْ سِنِی الْآخِرَة" و إن کل یوم منها یعادل آلاف السنین. و إن من أکبر وعظم الألطاف و العنایة بالنسبة لإبلیس هی أولاً: أنه وفق لعبادة الحق تعالى، و ثانیاً: بسبب کثرة عبادته اعتبر و نسب إلى زمرة الملائکة، و إن هذا من أفضل أنواع المساعدة و اللطف حیث وضع فی صف الملائکة، فعرف و أدرک طهارتهم وصفائهم. و من القوانین التی تحکم نظام الوجود أنه کلما کانت معرفة المکلف و علمه أکثر و درجته أرقى فإن عقابه و مجازاته فی حالة خطأه تکون أشد و أقسى.
و من هنا فبعد أن تمت الحجة على الشیطان، و من ثم استکباره فی قضیة آدم فإن خطاب المولى تعالى و کلامه فیما یخص الشیطان دلیل على شدة العقوبة و قساوتها بالنسبة إلى الشیطان، و کذلک سقوطه و انحطاطه.
من خلال تتبع الآیات القرآنیة نظیر الآیة 50 من سورة الکهف و الآیة 31 من سورة الحجر یمکن التوصل إلى أن الشیطان ینتمی إلى الجن، و لکن لکثرة عبادته اعتبر من زمرة الملائکة، و إن قصة استکبار الشیطان و عناده التی تمثل الاختبار و الامتحان بالنسبة له ذکرت فی القرآن بحدود سبع مرات.
و فی هذه القصة الکثیر من الدروس و العبر. و تتألف هذه القصة من عدة أقسام و مکونات هی:
ـ الأمر بالسجود لآدم علیه السلام.
ـ خصوصیات آدم و ممیزاته التی من أجلها أمر الله إبلیس أن یسجد له.
ـ موقف إبلیس و إباؤه من السجود.
ـ جوابه الذی یتضمن علة استکباره و رفضه للسجود. حیث قال: {لَمْ أَکُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}.[1]
و یقول فی موضع آخر: {أَنَا خَیْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِی مِنْ نَارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِینٍ}.[2]
و هذا درس کبیر، فالشیطان و مع کل هذه العبادة التی عبر عنها الإمام علی(ع) و ذکر" وَ کَانَ قَدْ عَبَدَ اللَّهَ سِتَّةَ آلَافِ سَنَةٍ لَا یُدْرَى أَ مِنْ سِنِی الدُّنْیَا أَمْ مِنْ سِنِی الْآخِرَة"[3] و التی یعادل کل یوم منها آلاف السنین. مع کل هذا تکون عاقبته أن یطرد و یبعد بعد أن یمتحن و یخاطب بخطاب مذل و مهین حیث یقال له: {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّکَ رَجِیمٌ}.[4] {وَ إِنَّ عَلَیْکَ اللَّعْنَةَ إِلَى یَوْمِ الدِّینِ}.[5]
و من هنا فلابد و أن نکون على حذر شدید ومراقبة مستمرة بالنسبة لأنفسنا و لا نتوهم إذا ما وفقنا فی زمن معین، و سرنا فی أیام معدودات على الصراط المستقیم أن الأمر قد انتهى، و أننا سوف نستمر على هذه الحالة فنطمئن و نغفل و نترک الحذر. فالعالم هو ساحة التغیرات و التقلبات، و ما دام الإنسان حیاً فاحتمال سقوطه و انقلابه محتملاً فی أی یوم من أیام حیاته و تحت وطأة أی ظرف یمر به، و لذلک فلا بد من الدوام و الاستمرار فی طلب عاقبة الخیر من الله سبحانه.
و القسم الثانی: هو ردة فعل الشیطان بعد أن طرد و أُبعد و انحط من تلک المرتبة العالیة بسبب عدم قبوله السجود لآدم حینما أمره الله بذلک، فإنه أضمر عداوةً شدیدة لآدم حیث قال: {أَرَأَیْتَکَ هَذَا الَّذِی کَرَّمْتَ عَلَیَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى یَوْمِ الْقِیَامَةِ لأَحْتَنِکَنَّ ذُرِّیَّتَهُ إِلاَّ قَلِیلاً}.[6]
و أما فی سورة ص الآیة 82 فقد جاء خطابه على النحو التالی: {قَالَ فَبِعِزَّتِکَ لأُغْوِیَنَّهُمْ أَجْمَعِینَ}.[7]
و على أساس البیان السابق اتضح ما یلی:
أولاً: إن الشیطان ینتمی إلى طائفة الجن، و إن الجن مکلفون کما هو الحال بالنسبة إلى البشر {وَ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِکَةِ اسْجُدُوا لآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِیسَ کَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّیَّتَهُ أَوْلِیَاءَ مِنْ دُونِی وَ هُمْ لَکُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِینَ بَدَلاً}[8] {وَ مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الإِنْسَ إِلاَّ لِیَعْبُدُونِ}[9].
فالجن و بضمنهم الشیطان هی موجودات مختارة و ذات إرادة و إنها تقف على مفترق طریقین لتختار أحد هذین الطریقین، فإذا اختارت طریق الحق، یکون الثواب و الخیر من نصیبها، و إذا اختارت طریق الباطل فالعقاب فی انتظارها. فالآیة 56 من سورة الذاریات، التی مر ذکرها تدل على أن الجن و الأنس یشترکون فی أمر العبادة، و ینقل القرآن الکریم قول الجن أنفسهم و اعترافهم بأنهم على قسمین. فمنهم الصالحون ومنهم الطالحون، و ذلک فی قوله تعالى: {وَ أَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَ مِنَّا دُونَ ذَلِکَ کُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً}.[10]
ثانیاً: إن أعظم لطف و عنایة بالنسبة لإبلیس أنه وفق لعبادة الحق فی المرتبة الأولى، و فی المرتبة الثانیة اعتبر من صف الملائکة بسبب کثرة عبادته و طول مدتها، و قد کان قربه من ساحة الملائکة بدرجة کبیرة إلى الحد الذی جعل القرآن إبلیس مستثنى و الملائکة مستثنى منه، فی قضیة السجود لآدم حینما امتنع الشیطان عن ذلک، فی قوله تعالى: {إِلاَّ إِبْلِیسَ أَبَى أَنْ یَکُونَ مَعَ السَّاجِدِینَ}.[11]
و إن أعظم مساعدة و لطف و عنایة بإبلیس هو جعله إلى جانب صف الملائکة، حیث أدرک و عرف مدى طهارة و صفاء و إخلاص هذا النوع من المخلوقات.
و لکن أحد أنظمة عالم الوجود و قوانینه أنه کلما کانت معرفة المکلف أکبر و درجته أکثر رقیاً و مرتبته أعلى، کلما کانت عقوبته أشد و أکبر عندما یصدر الخطأ و یبتلى بالعصیان و الذنب.
و من هنا فبعد أن تمت الحجة على الشیطان (من خلال عبادته و تواجده فی صف الملائکة) کان خطاب الحق و عقوبته له شدیدة و قاسیة، حینما اختار العصیان و التمرد و ذلک برفضه الانصیاع لأمر الله بالسجود لآدم علیه السلام.