لا وجود لأی نفع بالنسبة إلى الله سبحانه من أی عبادة لأی مخلوق سواء کان مختاراً أو غیر مختار!
و لکن العبادة الاختیاریة تفید فی التکامل و الترقی و الرشد و شدة التقرب الوجودی من الله سبحانه.
أما العبادة غیر الاختیاریة لسائر الموجودات و من جملتها الملائکة، فإنها تکون بمقتضى وجودها، و إن عبادة الملائکة تکون منبعثة من شهود الرب[i] و إدراک هیبة و عظمة الحق تعالى، و لیست من جهة حاجة الرب للعابد أو لعبادته.
الملک من موجودات ما وراء الطبیعة، و الطریق إلى إثبات وجوده إما بالرجوع إلى نصوص الوحی و التعبد بها، أو بواسطة التجارب الخاصة بتأثیر هذه الموجودات فی حیاة العباد الإیمانیة (المخلصین من الانبیاء والاولیاء)، و هذا الموجود الماورائی لیس بجسم و لا جسمانی حتى یمکن الکلام فی الکم و الکیف بالنسبة إلیه، أو إنه قابل للتصویر. نعم یمکن لهذا الموجود أن یتمثل بصورة البشر فی بعض الأحیان حتى أن الإنسان یراه على هیئة البشر، و لکنه لم یکن بشراً فی الواقع، و مثل ذلک رؤیة الروح من قبل مریم علیها السلام.[1] أو مجیء الملائکة کضیوف عند إبراهیم علیه السلام[2] أو لوط[3]، و حضور جبرائیل علیه السلام عند رسول الله صلى الله علیه و آله على هیئة دحیة الکلبی، و لکننا نعلم بوجود المحدودیة و التکثر و التنوع فیما بینهم، کل ذلک بما یتناسب مع کیفیة وجود الملائکة أنفسهم، و لذلک فبعضهم موکل بالعذاب فی الدنیا، و بعضهم موکل بالعذاب فی البرزخ، و بعضهم موکل بالعذاب فی القیامة، و بعضهم کتّاب لما یصدر من الإنسان من أعمال، و بعضهم یکتب القضاء و القدر الإلهی، و بعضهم المدبرات أمرا، و بعضهم ینزل بالوحی، و بعضهم یلقی الإلهام فی القلوب، و بعضهم حافظ و ناصر للمؤمنین و معین لهم، و بعضهم آمر للبعض الآخر، و بعضهم مأمور و مطیع لما هو أعلى، بعضهم موکل بالرزق، وبعضهم موکل بالمطر، و بعضهم موکل بقبض الأرواح، و فیما بینهم جمع فی سجود دائم، و آخرون فی رکوع دائم، و بعضهم فی تسبیح و تحمید دائم، و بعضهم مشغول بالاستغفار و الشفاعة للمؤمنین و شیعة علی علیه السلام، و بعضهم فی حالة لعن و براءة من الکفار و المشرکین و المنافقین و المعاندین لآل الله علیهم السلام، و کل ذلک یتم بکیفیة تکون فیها لکل واحد منهم وظیفة و مقام معلوم، و لا یملک القدرة على تجاوز أو تخطی الوظیفة المحددة بالنسبة إلیه، و إنهم یفعلون کل ما یُأمَرون.
و العبادة لا تعنی شیئاً غیر إظهار العبودیة مقابل الرب و المولى و المالک، و کلما کان إدراک هیبة الحق تعالى و عظمته أکثر، کلما کان تجلی العبودیة و إظهار التصاغر مقابل هذه العظمة أکثر، و هذا التجلی و إظهار العبودیة هو دلیل على کمال العبد و معرفته و درایته، و لا یعود للرب أی شیء أو نفع من هذه العبادة، و لیس من اللازم أن یعود شیء بالنسبة إلى الذات المقدسة، حتى یکون هذا الأمر سبباً فی خلق و تکوین هؤلاء العباد، لأن أصل وجود هؤلاء و تکونهم هو إظهار قدرة الله، و إعطاء نعمة الوجود لهذه الموجودات.
و أما إذ کان العبد منشغلاً بالعبادة اختیاراً، فإن مثل هذه العبادة تکون سبباً فی کمال نفسه، و صفاء باطنه، و فی النتیجة تقدمه فی مراتب العبودیة و الإنسانیة، إذن ففائدة هذا التسبیح و التحمید و التعظیم مردودها إلى العبد، و لیس للرب من فائدة فی هذه العبادة حتى یناله الضرر فی ترکها و عدم الإتیان بها، و إنما یحرم العبد نفسه فی ترکها من ثمراتها و عائداتها و عطائها.
و الظاهر أن هذه الشبهة عرضت لبعض الملائکة، و ذلک عندما أخبرهم الله أنه سبحانه سوف یجعل خلیفة فی الأرض کما یصور القرآن ذلک فی سورة البقرة: {وَ إِذْ قَالَ رَبُّکَ لِلْمَلائِکَةِ إِنِّی جَاعِلٌ فِی الأَرْضِ خَلِیفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِیهَا مَنْ یُفْسِدُ فِیهَا وَ یَسْفِکُ الدِّمَاءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِکَ وَ نُقَدِّسُ لَکَ قَالَ إِنِّی أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَ عَلَّمَ آَدَمَ الأَسْمَاءَ کُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِکَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِی بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ کُنْتُمْ صَادِقِینَ * قَالُوا سُبْحَانَکَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّکَ أَنْتَ الْعَلِیمُ الْحَکِیمُ * قَالَ یَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَکُمْ إِنِّی أَعْلَمُ غَیْبَ السَّمَاوَاتِ وَ الأَرْضِ وَ أَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَ مَا کُنْتُمْ تَکْتُمُونَ}[4].
و إنه من المسلم أن العبادة على وجه الاختیار و الوعی مفضلة على العبادة التی تکون على وجه الإجبار و التکوین و هی أکثر قیمة منها، و لذلک فالأولى لها من الآثار ما لیس للثانیة، فالعبادة الاختیاریة ترتقی بالموجود من القوة على الفعل، أما العبادة التکوینیة الجبریة فثمرتها أن یبقى العابد فی مرتبة الفعلیة الثابتة التی لا سبیل فیها إلى الارتقاء، و أما فی حالة التخلف و التقصیر فالنتیجة هی السقوط و الانحطاط!
و قد وصف الإمام علی علیه السلام الملائکة على النحو التالی: (و ملائکة خلقتهم و أسکنتهم سماواتک فلیس فیهم فترة، و لا عندهم غفلة، و لا فیهم معصیة، هم أعلم خلقک بک و أخوف خلقک منک، و أقرب خلقک منک، و أعملهم بطاعتک، لا یغشاهم نوم العیون و لا سهو العقول، و لا فترة الأبدان لم یسکنوا الأصلاب، و لم تضمهم الأرحام، و لم تخلقهم من ماء مهین أنشأتهم إنشاء فأسکنتهم سماواتک و أکرمتهم بجوارک، و ائتمنتهم على وحیک، و جنبتهم الآفات، و وقیتهم البلیات، و طهرتهم من الذنوب، و لولا قوتک لم یتقووا، و لولا تثبیتک لم یثبتوا، و لولا رحمتک لم یطیعوا، و لولا أنت لم یکونوا. أما إنهم على مکانتهم منک، و طاعتهم إیاک، و منزلتهم عندک، و قلة غفلتهم عن أمرک، لو عاینوا ما خفی عنهم منک لاحتقروا أعمالهم، و لأزروا على أنفسهم، و لعلموا أنهم لم یعبدوک حق عبادتک، سبحانک خالقاً ومعبوداً ما أحسن بلاءک عند خلقک)[5] و إذا تأملنا هذا النص - الذی تفضل به أمیر المؤمنین علیه السلام - بدقة و إمعان، یتضح لنا ما یلی:
1ـ سر العبادة.
2ـ سر الاعتراض.
3ـ و سر الاعتراف و السجود بعد ذلک.
فعبادة الملائکة هی على أساس مقتضى علمهم الشهودی بذات الحق، و منشأ خوفهم و خشیتهم عظمة الحق تعالى و هیبته، و هذا العلم یتناسب مع وجودهم المحدود، و کذلک عبادتهم فإنها تتناسب مع محدودیة ذواتهم، و لا تتناسب مع الذات الإلهیة المقدسة.
و إن اعترافهم فی قضیة خلق آدم ناشئ من محدودیة علمهم و عندما انکشف لهم الأمر، و حینما عرفوا عجزهم عن الإحاطة بالحکمة فی خلق الله سبحانه اعترفوا بجهلهم و قصورهم و تقصیرهم، و بعد ذلک سجدوا لآدم بأمر الله سبحانه.
و خلاصة القول إن عبادة الملائکة لیست من قبیل عبادة الإنسان التی تکون على أساس الاختیار و التشریع و التکلیف، و لذلک فلا تکون سبباً للترقی و التکامل و الرشد بالنسبة لهم، و لکن إذا ما ترکوا هذه العبادة أو قصروا فیها فإن ذلک یتسبب فی سقوطهم و انحطاطهم.
إذن فمنشأ عبادة الملائکة علمهم بالذات الإلهیة المقدسة، و إدراک هیبته و عظمته من جانب، و من جانب آخر هناک محدودیة و جودهم و تصاغرهم، کما أن هذا الإحساس کامن فی فطرة الإنسان، و لکنه یحتاج إلى التوجه و الانتباه. و إن عبادة الملائکة على وجه الجبر و التکوین لا تعود على الله فی شیء من النفع و الفائدة، و إن الله لیس بحاجة إلیهم و لا إلى عبادتهم، و لکن وجودها – الذی یمثل الواسطة بین عالم الملکوت او عالم الملک والطبیعة – لازم الخلقة والنظام الخلق الاحسن و إنه سبحانه هو مظهر القدرة، فهو الخالق القادر الحکیم العلام.
المصادر:
1ـ القرآن الکریم: فاطر، 1؛ الصافات، 164؛ التکویر، 21؛ السجدة، 5 و 12؛ الأنعام، 62؛ النحل، 2 و 102؛ البقرة، 97؛ عبس، 16؛ المعارج، 4؛ الحجر، 21؛ الحج، 22؛ النازعات، 5؛ التحریم، 6؛ الذاریات، 4؛ المؤمن، 7؛ النجم، 26؛ الأنبیاء، 28 و 103؛ البقرة، 161 و 33 - 30 و 248؛ آل عمران، 39 و 125 - 124؛ التحریم، 4؛ مریم، 7 و 19 - 16؛ الزمر، 73؛ المدثر، 30؛ الزخرف، 77.
2ـ الطباطبائی، محمد حسین، المیزان، مکتب منشورات جامعة المدرسین قم، ص5 ـ 13.
3ـ مصباح الیزدی، محمد تقی، معارف قرآن" معارف القرآن"، 1 ـ 3، فی سبیل الحق، الطبعة 2، 1368، قم، ص 283 ـ 295.