Please Wait
الزيارة
15511
15511
محدثة عن:
2013/01/19
خلاصة السؤال
هل تصح رواية "حبّ الوطن من الإيمان" سنداً؟ و ما هي دلالتها؟
السؤال
من هم رواة حديث "حبّ الوطن من الإيمان"؟ و ما هي المصادر التي ذكرته؟ و ما هي القيمة السندية للحديث؟ و ما هي مضعفاته على فرض القول بضعفه؟
الجواب الإجمالي
روي عن النبي الأكرم (ص) أنّه قال في حديث مشيراً إلى قيمة الأوطان "حبّ الوطن من الإيمان"؛ الإ أنّه لم يرد في المصادر الحديثية الأولى لدى الفريقين الشيعة و السنة، و إنما ورد في بعض المصادر الثانوية، من دون الاشارة إلى سند الحديث و من هم الرواة الذين نقلوه عن النبي (ص). و عليه لا يمكن الجزم بنسبة الحديث إليه (ص) أو للأئمة الأطهار عليهم السلام. إلا أنّ ذلك لا يعني بحال من الأحوال الخدشة في متن الحديث و رفض مفاده؛ إذ لا تلازم بين ضعف سند الحديث و وهن متنه.
و حينما نستعرض الروايات نجدها تؤكد على حبّ الوطن حتى بمعنى المكان الذي يقطنه الآباء و الأجداد، مشيرةً إلى ضرورة الإهتمام بتلك المواطن و إعمارها و الميل إليها؛ و ذلك بسبب العلاقة الكبيرة و الآصرة العاطفية و الروحية الكبيرة بين الإنسان و بين مسقط رأسه و التربة التي نشأ و ترعرع فيها، تلك العلاقة التي تجعله يميل إلى تلك البقاع و ملاعب الصبا و التعاطف معها و مع كلّ شيء ينتمي إليها، و هذا أمر طبيعي لاغبار عليه، بل العقل و المنطق يدعمانه؛ و ذلك لأن ّحبّ الوطن معلول لحبّ الذات و مساوق للدفاع عن الحياة و قيمها.
ثم إنّ الباحثون في الشأن الديني و السياسي لم يروا علاقة تلازمية جازمة بين حبّ الوطن و الإيمان بالله تعالى على المستوى العقلي؛ فلا ترابط بين كون الرجل محبّاً لمواطن آبائه و مرابع صباه و بين كونه مؤمناً بالله تعالى.
فالمتحصل أنّه لا يمكن الجزم و بسهولة بأنّ حبّ الوطن من الإيمان و أنّه علامة الاعتقاد الراسخ بوجود الله.
نعم، رغم عدم التلازم العقلي الجازم بين المفردتين، لكن يمكن القول: بما أن الإنسان المؤمن يتوفر على مجموعة من الخصال الإيمانية و التربوية الحميدة و أنّه في حركة مثابرة لتربية الذات و الأخذ بيدها نحو التكامل باعتماد شتى السبل المساعدة في تحقيق تلك الغاية العظمى و منها عامل حبّ الوطن و الإخلاص له. و من الممكن أيضا حمل كلام الشيخ البهائي (ره) الذي فسّر فيه الوطن بالوطن الاخروي، على هذا المعنى باعتبار كون الآخرة هي الموطن السامي و الحقيقي للإنسان و أنها الموطن الحقيقي الذي ينبغي حبّه و اعتبار ذلك الحبّ علامة على الإيمان و القول بالملازمة بين حبّ الوطن و بين الإيمان؛ لأن المحبّ مؤمن بالآخرة و لاريب أنّ الإيمان بالآخرة يستوجب الإيمان بمالك يوم الدين و البعث و النشور و الثواب و العقاب.
و حينما نستعرض الروايات نجدها تؤكد على حبّ الوطن حتى بمعنى المكان الذي يقطنه الآباء و الأجداد، مشيرةً إلى ضرورة الإهتمام بتلك المواطن و إعمارها و الميل إليها؛ و ذلك بسبب العلاقة الكبيرة و الآصرة العاطفية و الروحية الكبيرة بين الإنسان و بين مسقط رأسه و التربة التي نشأ و ترعرع فيها، تلك العلاقة التي تجعله يميل إلى تلك البقاع و ملاعب الصبا و التعاطف معها و مع كلّ شيء ينتمي إليها، و هذا أمر طبيعي لاغبار عليه، بل العقل و المنطق يدعمانه؛ و ذلك لأن ّحبّ الوطن معلول لحبّ الذات و مساوق للدفاع عن الحياة و قيمها.
ثم إنّ الباحثون في الشأن الديني و السياسي لم يروا علاقة تلازمية جازمة بين حبّ الوطن و الإيمان بالله تعالى على المستوى العقلي؛ فلا ترابط بين كون الرجل محبّاً لمواطن آبائه و مرابع صباه و بين كونه مؤمناً بالله تعالى.
فالمتحصل أنّه لا يمكن الجزم و بسهولة بأنّ حبّ الوطن من الإيمان و أنّه علامة الاعتقاد الراسخ بوجود الله.
نعم، رغم عدم التلازم العقلي الجازم بين المفردتين، لكن يمكن القول: بما أن الإنسان المؤمن يتوفر على مجموعة من الخصال الإيمانية و التربوية الحميدة و أنّه في حركة مثابرة لتربية الذات و الأخذ بيدها نحو التكامل باعتماد شتى السبل المساعدة في تحقيق تلك الغاية العظمى و منها عامل حبّ الوطن و الإخلاص له. و من الممكن أيضا حمل كلام الشيخ البهائي (ره) الذي فسّر فيه الوطن بالوطن الاخروي، على هذا المعنى باعتبار كون الآخرة هي الموطن السامي و الحقيقي للإنسان و أنها الموطن الحقيقي الذي ينبغي حبّه و اعتبار ذلك الحبّ علامة على الإيمان و القول بالملازمة بين حبّ الوطن و بين الإيمان؛ لأن المحبّ مؤمن بالآخرة و لاريب أنّ الإيمان بالآخرة يستوجب الإيمان بمالك يوم الدين و البعث و النشور و الثواب و العقاب.
الجواب التفصيلي
تقتضي الإجابة الموضوعية عن السؤال المطروح تنظيمَ مباحث الجواب ضمن فقرات مترتبة، هي:
ألف: دراسة سند الحديث
روي عن النبي الأكرم (ص) أنّه قال في حديث مشيراً إلى قيمة الأوطان "حبّ الوطن من الإيمان"؛ الإ أنّه لم يذكر في المصادر الحديثية الأولى لدى الفريقين الشيعة و السنة، و إنما ورد في بعض المصادر الثانوية من قبيل كتاب "مستدرك سفينة البحار"[1] و "أعيان الشيعة"[2] و "الخزائن" للنراقي،[3] و "كشف الخفاء"[4] و "بيان المعاني"،[5] و غير ذلك من مصادر الفريقين، من دون الاشارة إلى سند الحديث و من هم الرواة الذين نقلوه عن النبي (ص).
و بعد التتبع في المصادر غير الحديثية التي يعود تاريخ تدوينها إلى بدايات القرن الرابع الهجري و ما تلاها من القرون، و جدنا الحديث منقولاً في كتاب "مرزبان نامه"[6] كأقدم مصدر تعرض لذكر الحديث.
و منه يظهر أنّ الرواية بالإضافة إلى إهمالها في المصادر الحديثية الأم، لم تذكر بسند خاص حتى يتم البحث في رجاله ومعرفة مدى وثاقتهم وقيمتهم العلمية، بل جاءت الرواية مرسلة، و عليه لا يمكن الجزم بنسبة الحديث إلى النبي الأكرم (ص) والأئمة الأطهار عليهم السلام. إلا أنّ ذلك لا يعني بحال من الأحوال الخدشة في متن الحديث و رفض مفاده؛ إذ لا تلازم بين ضعف سند الحديث و وهن متنه، وعليه لابد من البحث في دلالته ضمن الفقرة الثانية.
ب. دراسة متن الحديث
يواجه الباحث في متن الحديث مفردتين أساسيتين، و هما مفردتا "حبّ الوطن" و "الإيمان". و لكلّ واحدة منهما تعريفها الخاص وحدوده وأصوله، يمكن القول من خلالها: أنّ محبّ الوطن ينبغي أن يتمسك بتلك الأصول و الموازين وإلا لا يعد من مصاديق محبّ الوطن، و هكذا مفردة "الإيمان" لا تنطبق الإ على من تمسّك بأصولها و قواعدها التي تبتني عليها دون سواه.[7]
يضاف إلى ذلك أن الباحث في مفردات الحديث على إنفراد يجدها تنطوي على قيمة دينية إيجابية تعرضت لها الكثير من الروايات و الأحاديث المبثوثة في مصادر المسلمين صراحة تارة و تلميحاً أخرى؛ و عليه لا إشكال في الحديث من هذه الناحية، و إنما يجب تركيز البحث على العلاقة بين حبّ الوطن و طبيعة الإنسان، و هل أن حبّ الوطن يمكن أن يكون مؤشراً على إيمان الإنسان؟ و هذا يقتضي الخوض في مجموعة من الأبحاث نشير إليها تباعاً.
ألف: المراد من الوطن
تعرضت مصادر الدراسات السياسية و القانونية للحديث كثيراً عن بيان معنى الوطن و تحديد هويته و معالمه فلابد من الرجوع إليها لمعرفة حقيقة تلك المفردة و استكناه المراد منها.[8]
اختلفت كلمة الباحثين سواء على المستوى السياسي أو القانوني أو اللغوي و التفسيري في تحديد المراد من مفردة "الوطن"؛ فهل المراد من الوطن خصوص مدينة مكّة المكرّمة التي هي أمّ القرى وقبلة المسلمين؟ أم المراد منها الوطن المتعارف؟[9] ذهب صاحبّ الصحيح من سيرة النبي (ص) إلى القول: بأنّ الوطن الذي يعتبر الإسلام حبّه من الإيمان، ليس هو محل ولادة الإنسان، و إنما هو الوطن الإسلامي الكبير، الذي يعتبر الحفاظ عليه حفاظاً على الدين و الإنسانية، لأنّ به يعزّ الدين، و تعلو كلمة الله، و هو قوّة للإسلام، لأنّه محلّ استقرار و هدوء، و موضع بناء القوّة فكرياً و روحياً و مادياً، ثم الحركة على صعيد التنفيذ للانتقال إلى الوضع الأفضل و الأمثل.[10] فيما ذهب الشيخ البهائي (ره) إلى تفسيرٍ آخر يكشف عن رؤيته السياسية في القضايا العقائدية، حيث رفض تفسير مفردة الوطن في حديث "حبّ الوطن من الإيمان" بالمساحة الجغرافية القائمة على الجنسية و القومية[11]، بل فسّر الوطن بالمكانة الأخروية للروح الإنسانية؛ معللا ذلك بأنّ النبي الأكرم (ص) الذي اعتبر حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة، لا يمكن بحال من الأحول مناقضة نفسه و الذهاب إلى إعتبار حبّ الوطن علامة الإيمان، وقد قرر الشيخ البهائي ذلك في مقطوعة شعرية مضمونها: ليس المراد من الوطن العراق ومصر والشام بل هو مدينة لا تشبه سائر المدن والامصار.[12]
ب: حبّ الوطن في القرآن والحديث
لا تنافي بين مختلف التفسيرات التي ذكرت للوطن وبين التأكيد على حبّه، وحينما نستعرض الروايات نجدها تؤكد على حبّ الوطن حتى بمعنى المكان الذي يقطنه الآباء و الأجداد، مشيرةً إلى ضرورة الإهتمام بتلك المواطن و إعمارها و الميل إليها؛ و ذلك بسبب العلاقة الكبيرة و الآصرة العاطفية و الروحية الكبيرة بين الإنسان و بين مسقط رأسه و التربة التي تربى و ترعرع فيها، تلك العلاقة التي تجعله يميل إلى تلك البقاع و ملاعب الصبا و التعاطف معها و مع كلّ شيء ينتمي إليها، و هذا أمر طبيعي لاغبار عليه، بل العقل و المنطق يدعمانه؛ و ذلك لأن ّحبّ الوطن معلول لحبّ الذات و مساوق للدفاع عن الحياة و قيمها، و عليه يكون البحث عن حبّ الوطن بحثاً في نتائج و معلولات الحبّ بمعناه العام.
و قد تعرض القرآن الكريم بالتصريح تارة و التلميح أخرى إلى أصول حبّ الوطن و جذوره في العديد من المواطن، من قبيل:
أوّلاً: الآيات المؤيدة لحبّ الوطن؛ كقوله تعالى "وَ إِذْ أَخَذْنا ميثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ"[13] حيث جعلت الآية المباركة الإخراج من الوطن في مصاف القتل و أنّ الإجتناب عن هاتين الخصوصيتين هما من أبرز مصاديق العهد و الميثاق الإلهي.[14]
فيما جاء في سورة الممتحنة: "لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحبّ الْمُقْسِطينَ * إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَ ظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ".[15] حيث حثت الآيات المباركة على الإنصاف و العدل مع المخالفين دينياً ما لم يتعرضوا لقتال المسلمين و إخراجهم من ديارهم، معتبرة ذلك من الأمور المحبّذة و الخلا الحميدة في شخصية المسلم و أنّ الله تعالى يحبّ المقسطين خلافا للمتجاوزين من المجرمين و القتلة و الظالمين المخرجين للناس من ديارهم و أوطانهم.[16]
و المتحصل: أنّ هذه الطائفة من الآيات تشير إلى طبيعة العلاقة بين الإنسان و بين موطنه بل اعتبرت الحرمان من الوطن و الإخراج منها يمثل إبتلاء و إختباراً كبيراً يحتاج إلى ترويض للنفس يصعب تحمله غالباً.[17] و أنّ الارتباط بالوطن حق كفلته الفطرة الإنسانية و يعتبر سلبه بمثابة الاعتداء و التجاوز على هذا الحق الطبيعي.
ثانياً: الآيات التي تشير إلى تلك الحقيقة بصورة غير مباشرة، من قبيل قوله تعالى: "إِنَّما جَزاءُ الَّذينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْديهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظيم"[18] يستفاد من مضمون الآية الشريفة أنّ الإخراج من الوطن والإبعاد منه لا يعني إخراج المفسد في الأرض إلى منطقة نائية عن بلاده التي عاش فيها للحد من قيامه بعمليات السطو و التجاوز على الآخرين؛ بل اعتبرت الآية المباركة الإبعاد على حدّ القتل و الصلب و قطع الايدي و الارجل و أنّه من الأحكام المخزية لهم في الدنيا.[19]
و يؤيد ذلك ما روي من أنّه لمَّا بعثَ اللَّهُ النبي مُحمَّداً (ص) بمكَةَ و أَظْهَرَ بها دعوتهُ و نشرَ بها كلمتهُ و عاب أَعْيَانَهُمْ في عبادتهمُ الأَصْنامَ و أَخذُوهُ وَ أَساءُوا مُعاشرتهُ و سعوا في خراب المساجدِ... و أَلْجَئُوهُ إلى الخُرُوجِ منْ مكَةَ نحوَ المدينَةِ الْتَفَتَ خلْفَهُ إِليهَا و قالَ: اللَّهُ يعلَمُ أَنَّنِي أُحبّكِ و لوْلا أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرجُونِي عنكِ لما آثَرْتُ عليكِ بلَداً و لا ابْتَغَيْتُ عليكِ بدلا و إِنِّي لَمُغْتَمٌّ على مُفَارَقَتِكِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ يَا مُحَمَّدُ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى يُقْرِئُكَ السَّلامَ و يقولُ: سنرُدُّكَ إلى هَذَا الْبَلَدِ ظَافراً غَانماً سالماً قَادِراً قَاهِراً وَ ذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى "إِنَّ الَّذي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَ مَنْ هُوَ في ضَلالٍ مُبينٍ "[20] يعني إلى مكَّةَ.[21]
و قد أكدت الروايات على حبّ الوطن من قبيل ما روي عن الإمام علي (ع) أنّه قال: «من كرم المرء خمس خصال ... و حنته إلى أوطانه».[22]و الرواية واضحة الدلالة على قيمة حبّ الأوطان والحنين إليها، و أنّ الإنسان يحن بطبعه إلى مواطنه و مرابع الصبا و أنّه يبذل الغالي و النفيس في الدفاع عنها، دون أنْ يختص ذلك بديانة أو مذهب أو اتجاه فكري معين، و يزيد ذلك وضوحاً كون الإمام عليه السلام وجه خطابه للناس المتعبين من الحرب و المتكاسلين عن استجابه قائلاً: "أَيَّ دَارٍ بَعْدَ دَارِكُمْ تَمْنَعُونَ وَ مَعَ أَيِّ إِمَامٍ بَعْدِي تُقَاتِلُون"[23] و قال في حديث آخر: "عمرت البلدان بحبّ الأوطان.[24]
نعم، يجب أن يكون "حبّ الوطن" شأنه شأن سائر الأمور التي يرتبط بها الإنسان عاملا من عوامل تكامله و الأخذ بيده نحو الرقي و الكمال الروحي و الإنساني، لا أن يخرجه من الفطرة و المنطق و الانحراف به عن الصراط القويم و جاده السمو و الرفعة و التكامل الإلهي. فيجب أن تتحول المحبّة و الإلفة إلى عنصر محرّك للدفاع عن القيم و المثل الدينية و الإنسانية، شريطة أنْ يكون الحق و الحقيقة هو المهيمن و السائد في ربوع ذلك الوطن و أن تمتزج الغيرة الشعبية مع الإحساس بالمسؤولية و الشعور بالعزة و الشرف في تلك البلدان مع ذوبان الأنا القومية و الأنا القبلية.
فإن لم يكن الحق هو الحاكم في البلاد فلابد حينئذ من بذل قصارى الجهود ليعم الحق الأوطان و تسطع نور الحقيقة في سمائها و تكون القيم و المثل هي المسيطرة على كافة الساحات الإجتماعية و السياسية و...و مع العجز عن تحقيق هذه الغاية الكبرى لابد من الهجرة للبحث عنها؛ و هذا عين ما نرصده في حياة النبي الأكرم (ص) حيث بذل قصارى جهده في بدايات الدعوة الاسلامية و مع العجز عن تحقيق ذلك في موطنه الأصلي مكة المكرمة، أمر أصحابه بالهجرة منها إلى المدينة المنورة، و قد أكد القرآن على هذه الحقيقة كما في قوله تعالى "إِنَّ الَّذينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصيراً".[25] و هي صريحة في ضرورة الهجرة عند شعور الإنسان بالظلم في بلاده و عدم تمكنه من الحركة، مضافاً الى توبيخ و توجيه اللوم للمتكالسين عن الهجرة و المتمسكين بالأرض رغم المحن و الآلام التي تمرّ بهم.[26]
كذلك ينبغي على الإنسان الهجرة في مواطن خاصّة تقتضيها المصلحة الكبرى. فقد هاجر الكثير من كبار الأعلام و الشخصيات الفكرية و تركوا أوطانها رغبة في تحصيل غايات سامية لم تكن تتوفر لهم في أوطانهم لولا الهجرة كطلب العلم و الرقي المعرفي، و ليس من المنطقي أن يضحى بتلك الغايات الكبرى من أجل حفنة تراب يعيش فيها الإنسان متكاسلا خائر القوى محطم الآمال، و لم يقدم للبشرية أيّ خدمة تذكر. و من هنا فلابد من الهجرة و ترك الأوطان ليتمكن الماهجر من تفهيم البشرية معنى الإنسانية و قيمة العمل و المثابرة في تحصيل المثل و تحقيق الغايات الكبرى. و عليه لا يكون تقديس الأوطان أمراً ذاتيا لا يمكن التخلف عنه، بل يخضع ذلك كله لمعايير خاصّة و مصالح محددة هي التي تمنح الأوطان قيمتها و فقا لمقتضيات الزمان و المكان.
ج. عدم الملازمة بين حبّ الوطن و الإيمان بالله تعالى
لم ير الباحثون في الشأن الديني و السياسي علاقة تلازمية جازمة بين حبّ الوطن و الإيمان بالله تعالى على المستوى العقلي؛ فلا ترابط بين كون الرجل محبّاً لمواطن آبائه و مرابع صباه و بين كونه مؤمناً بالله تعالى، كما نرى ذلك جلياً في القرآن الكريم "وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَليلٌ مِنْهُمْ وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَشَدَّ تَثْبيتاً".[27] فلا الذي هاجر عن وطنه يكشف عن إيمان راسخ، و لا المتمسك بأرضه و الرافض للهجرة يكشف عن عكس ذلك.[28]
و من هنا لايمكن اعتبار حبّ الوطن علامة صارمة على إيمان صاحبّها بالله تعالى؛ إذ لو كان ذلك معياراً لاندرج الكثير من الناس في عداد المؤمنين بما فيهم الكافر الحربي. مضافاً إلى استلزام ذلك الحكم بوجوب حبّ الوطن و أنّ على المؤمن أنْ يحبّ وطنه و إنْ كان من مواطن الكفر الذي شمله الغضب الإلهي. و هذا ما لم يقل به أحد من الفقهاء و العلماء، بل نجد التأكيد في الكثير من الحالات على ضرورة ترك تلك المواطن و الهجرة إلى ديار تؤمّن للانسان سلامة دينه و قيمه التي يعتز بها. فالمتحصل أنّه لا يمكن الجزم و بسهولة بأنّ حبّ الوطن من الإيمان و أنّه علامة الاعتقاد الراسخ بوجود الله.
نعم، رغم عدم التلازم العقلي الجازم بين حبّ الوطن و بين الإيمان، لكن يمكن صدق ذلك في بعض الحالات و لدى بعض الاشخاص؛ و ذلك بالبيان التالي: بما أنّ الإنسان المؤمن يتوفر على مجموعة من الخصال الإيمانية و التربوية الحميدة، و أنّه في حركة مثابرة لتربية الذات و الأخذ بيدها نحو التكامل باعتماد شتى السبل المساعدة في تحقيق تلك الغاية العظمى و منها عامل حبّ الوطن و الإخلاص له، كما أشار إلى ذلك أمير المؤمنين (ع) في كلامه السابق الذي اعتبر فيه تلك الخصوصية من علامات كرم الإنسان المؤمن، شريطة أن يتوفر على مجموعة من الشروط و الخصوصيات التي تكمل المشهد التكاملي و الروحي.
و من الممكن أيضا حمل كلام الشيخ البهائي (ره) المذكور آنفاً على هذا المعنى باعتبار كون الآخرة هي الموطن السامي و الحقيقي للإنسان و أنها الموطن الحقيقي الذي ينبغي حبّه و اعتبار ذلك الحبّ علامة على الإيمان و القول بالملازمة بين حبّ الوطن و بين الإيمان؛ لأن المحبّ مؤمن بالآخرة و لاريب أنّ الإيمان بالآخرة يستوجب الإيمان بمالك يوم الدين و البعث و النشور و الثواب و العقاب.
محصلة البحث
ألف: دراسة سند الحديث
روي عن النبي الأكرم (ص) أنّه قال في حديث مشيراً إلى قيمة الأوطان "حبّ الوطن من الإيمان"؛ الإ أنّه لم يذكر في المصادر الحديثية الأولى لدى الفريقين الشيعة و السنة، و إنما ورد في بعض المصادر الثانوية من قبيل كتاب "مستدرك سفينة البحار"[1] و "أعيان الشيعة"[2] و "الخزائن" للنراقي،[3] و "كشف الخفاء"[4] و "بيان المعاني"،[5] و غير ذلك من مصادر الفريقين، من دون الاشارة إلى سند الحديث و من هم الرواة الذين نقلوه عن النبي (ص).
و بعد التتبع في المصادر غير الحديثية التي يعود تاريخ تدوينها إلى بدايات القرن الرابع الهجري و ما تلاها من القرون، و جدنا الحديث منقولاً في كتاب "مرزبان نامه"[6] كأقدم مصدر تعرض لذكر الحديث.
و منه يظهر أنّ الرواية بالإضافة إلى إهمالها في المصادر الحديثية الأم، لم تذكر بسند خاص حتى يتم البحث في رجاله ومعرفة مدى وثاقتهم وقيمتهم العلمية، بل جاءت الرواية مرسلة، و عليه لا يمكن الجزم بنسبة الحديث إلى النبي الأكرم (ص) والأئمة الأطهار عليهم السلام. إلا أنّ ذلك لا يعني بحال من الأحوال الخدشة في متن الحديث و رفض مفاده؛ إذ لا تلازم بين ضعف سند الحديث و وهن متنه، وعليه لابد من البحث في دلالته ضمن الفقرة الثانية.
ب. دراسة متن الحديث
يواجه الباحث في متن الحديث مفردتين أساسيتين، و هما مفردتا "حبّ الوطن" و "الإيمان". و لكلّ واحدة منهما تعريفها الخاص وحدوده وأصوله، يمكن القول من خلالها: أنّ محبّ الوطن ينبغي أن يتمسك بتلك الأصول و الموازين وإلا لا يعد من مصاديق محبّ الوطن، و هكذا مفردة "الإيمان" لا تنطبق الإ على من تمسّك بأصولها و قواعدها التي تبتني عليها دون سواه.[7]
يضاف إلى ذلك أن الباحث في مفردات الحديث على إنفراد يجدها تنطوي على قيمة دينية إيجابية تعرضت لها الكثير من الروايات و الأحاديث المبثوثة في مصادر المسلمين صراحة تارة و تلميحاً أخرى؛ و عليه لا إشكال في الحديث من هذه الناحية، و إنما يجب تركيز البحث على العلاقة بين حبّ الوطن و طبيعة الإنسان، و هل أن حبّ الوطن يمكن أن يكون مؤشراً على إيمان الإنسان؟ و هذا يقتضي الخوض في مجموعة من الأبحاث نشير إليها تباعاً.
ألف: المراد من الوطن
تعرضت مصادر الدراسات السياسية و القانونية للحديث كثيراً عن بيان معنى الوطن و تحديد هويته و معالمه فلابد من الرجوع إليها لمعرفة حقيقة تلك المفردة و استكناه المراد منها.[8]
اختلفت كلمة الباحثين سواء على المستوى السياسي أو القانوني أو اللغوي و التفسيري في تحديد المراد من مفردة "الوطن"؛ فهل المراد من الوطن خصوص مدينة مكّة المكرّمة التي هي أمّ القرى وقبلة المسلمين؟ أم المراد منها الوطن المتعارف؟[9] ذهب صاحبّ الصحيح من سيرة النبي (ص) إلى القول: بأنّ الوطن الذي يعتبر الإسلام حبّه من الإيمان، ليس هو محل ولادة الإنسان، و إنما هو الوطن الإسلامي الكبير، الذي يعتبر الحفاظ عليه حفاظاً على الدين و الإنسانية، لأنّ به يعزّ الدين، و تعلو كلمة الله، و هو قوّة للإسلام، لأنّه محلّ استقرار و هدوء، و موضع بناء القوّة فكرياً و روحياً و مادياً، ثم الحركة على صعيد التنفيذ للانتقال إلى الوضع الأفضل و الأمثل.[10] فيما ذهب الشيخ البهائي (ره) إلى تفسيرٍ آخر يكشف عن رؤيته السياسية في القضايا العقائدية، حيث رفض تفسير مفردة الوطن في حديث "حبّ الوطن من الإيمان" بالمساحة الجغرافية القائمة على الجنسية و القومية[11]، بل فسّر الوطن بالمكانة الأخروية للروح الإنسانية؛ معللا ذلك بأنّ النبي الأكرم (ص) الذي اعتبر حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة، لا يمكن بحال من الأحول مناقضة نفسه و الذهاب إلى إعتبار حبّ الوطن علامة الإيمان، وقد قرر الشيخ البهائي ذلك في مقطوعة شعرية مضمونها: ليس المراد من الوطن العراق ومصر والشام بل هو مدينة لا تشبه سائر المدن والامصار.[12]
ب: حبّ الوطن في القرآن والحديث
لا تنافي بين مختلف التفسيرات التي ذكرت للوطن وبين التأكيد على حبّه، وحينما نستعرض الروايات نجدها تؤكد على حبّ الوطن حتى بمعنى المكان الذي يقطنه الآباء و الأجداد، مشيرةً إلى ضرورة الإهتمام بتلك المواطن و إعمارها و الميل إليها؛ و ذلك بسبب العلاقة الكبيرة و الآصرة العاطفية و الروحية الكبيرة بين الإنسان و بين مسقط رأسه و التربة التي تربى و ترعرع فيها، تلك العلاقة التي تجعله يميل إلى تلك البقاع و ملاعب الصبا و التعاطف معها و مع كلّ شيء ينتمي إليها، و هذا أمر طبيعي لاغبار عليه، بل العقل و المنطق يدعمانه؛ و ذلك لأن ّحبّ الوطن معلول لحبّ الذات و مساوق للدفاع عن الحياة و قيمها، و عليه يكون البحث عن حبّ الوطن بحثاً في نتائج و معلولات الحبّ بمعناه العام.
و قد تعرض القرآن الكريم بالتصريح تارة و التلميح أخرى إلى أصول حبّ الوطن و جذوره في العديد من المواطن، من قبيل:
أوّلاً: الآيات المؤيدة لحبّ الوطن؛ كقوله تعالى "وَ إِذْ أَخَذْنا ميثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ"[13] حيث جعلت الآية المباركة الإخراج من الوطن في مصاف القتل و أنّ الإجتناب عن هاتين الخصوصيتين هما من أبرز مصاديق العهد و الميثاق الإلهي.[14]
فيما جاء في سورة الممتحنة: "لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحبّ الْمُقْسِطينَ * إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَ ظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ".[15] حيث حثت الآيات المباركة على الإنصاف و العدل مع المخالفين دينياً ما لم يتعرضوا لقتال المسلمين و إخراجهم من ديارهم، معتبرة ذلك من الأمور المحبّذة و الخلا الحميدة في شخصية المسلم و أنّ الله تعالى يحبّ المقسطين خلافا للمتجاوزين من المجرمين و القتلة و الظالمين المخرجين للناس من ديارهم و أوطانهم.[16]
و المتحصل: أنّ هذه الطائفة من الآيات تشير إلى طبيعة العلاقة بين الإنسان و بين موطنه بل اعتبرت الحرمان من الوطن و الإخراج منها يمثل إبتلاء و إختباراً كبيراً يحتاج إلى ترويض للنفس يصعب تحمله غالباً.[17] و أنّ الارتباط بالوطن حق كفلته الفطرة الإنسانية و يعتبر سلبه بمثابة الاعتداء و التجاوز على هذا الحق الطبيعي.
ثانياً: الآيات التي تشير إلى تلك الحقيقة بصورة غير مباشرة، من قبيل قوله تعالى: "إِنَّما جَزاءُ الَّذينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْديهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظيم"[18] يستفاد من مضمون الآية الشريفة أنّ الإخراج من الوطن والإبعاد منه لا يعني إخراج المفسد في الأرض إلى منطقة نائية عن بلاده التي عاش فيها للحد من قيامه بعمليات السطو و التجاوز على الآخرين؛ بل اعتبرت الآية المباركة الإبعاد على حدّ القتل و الصلب و قطع الايدي و الارجل و أنّه من الأحكام المخزية لهم في الدنيا.[19]
و يؤيد ذلك ما روي من أنّه لمَّا بعثَ اللَّهُ النبي مُحمَّداً (ص) بمكَةَ و أَظْهَرَ بها دعوتهُ و نشرَ بها كلمتهُ و عاب أَعْيَانَهُمْ في عبادتهمُ الأَصْنامَ و أَخذُوهُ وَ أَساءُوا مُعاشرتهُ و سعوا في خراب المساجدِ... و أَلْجَئُوهُ إلى الخُرُوجِ منْ مكَةَ نحوَ المدينَةِ الْتَفَتَ خلْفَهُ إِليهَا و قالَ: اللَّهُ يعلَمُ أَنَّنِي أُحبّكِ و لوْلا أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرجُونِي عنكِ لما آثَرْتُ عليكِ بلَداً و لا ابْتَغَيْتُ عليكِ بدلا و إِنِّي لَمُغْتَمٌّ على مُفَارَقَتِكِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ يَا مُحَمَّدُ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى يُقْرِئُكَ السَّلامَ و يقولُ: سنرُدُّكَ إلى هَذَا الْبَلَدِ ظَافراً غَانماً سالماً قَادِراً قَاهِراً وَ ذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى "إِنَّ الَّذي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَ مَنْ هُوَ في ضَلالٍ مُبينٍ "[20] يعني إلى مكَّةَ.[21]
و قد أكدت الروايات على حبّ الوطن من قبيل ما روي عن الإمام علي (ع) أنّه قال: «من كرم المرء خمس خصال ... و حنته إلى أوطانه».[22]و الرواية واضحة الدلالة على قيمة حبّ الأوطان والحنين إليها، و أنّ الإنسان يحن بطبعه إلى مواطنه و مرابع الصبا و أنّه يبذل الغالي و النفيس في الدفاع عنها، دون أنْ يختص ذلك بديانة أو مذهب أو اتجاه فكري معين، و يزيد ذلك وضوحاً كون الإمام عليه السلام وجه خطابه للناس المتعبين من الحرب و المتكاسلين عن استجابه قائلاً: "أَيَّ دَارٍ بَعْدَ دَارِكُمْ تَمْنَعُونَ وَ مَعَ أَيِّ إِمَامٍ بَعْدِي تُقَاتِلُون"[23] و قال في حديث آخر: "عمرت البلدان بحبّ الأوطان.[24]
نعم، يجب أن يكون "حبّ الوطن" شأنه شأن سائر الأمور التي يرتبط بها الإنسان عاملا من عوامل تكامله و الأخذ بيده نحو الرقي و الكمال الروحي و الإنساني، لا أن يخرجه من الفطرة و المنطق و الانحراف به عن الصراط القويم و جاده السمو و الرفعة و التكامل الإلهي. فيجب أن تتحول المحبّة و الإلفة إلى عنصر محرّك للدفاع عن القيم و المثل الدينية و الإنسانية، شريطة أنْ يكون الحق و الحقيقة هو المهيمن و السائد في ربوع ذلك الوطن و أن تمتزج الغيرة الشعبية مع الإحساس بالمسؤولية و الشعور بالعزة و الشرف في تلك البلدان مع ذوبان الأنا القومية و الأنا القبلية.
فإن لم يكن الحق هو الحاكم في البلاد فلابد حينئذ من بذل قصارى الجهود ليعم الحق الأوطان و تسطع نور الحقيقة في سمائها و تكون القيم و المثل هي المسيطرة على كافة الساحات الإجتماعية و السياسية و...و مع العجز عن تحقيق هذه الغاية الكبرى لابد من الهجرة للبحث عنها؛ و هذا عين ما نرصده في حياة النبي الأكرم (ص) حيث بذل قصارى جهده في بدايات الدعوة الاسلامية و مع العجز عن تحقيق ذلك في موطنه الأصلي مكة المكرمة، أمر أصحابه بالهجرة منها إلى المدينة المنورة، و قد أكد القرآن على هذه الحقيقة كما في قوله تعالى "إِنَّ الَّذينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصيراً".[25] و هي صريحة في ضرورة الهجرة عند شعور الإنسان بالظلم في بلاده و عدم تمكنه من الحركة، مضافاً الى توبيخ و توجيه اللوم للمتكالسين عن الهجرة و المتمسكين بالأرض رغم المحن و الآلام التي تمرّ بهم.[26]
كذلك ينبغي على الإنسان الهجرة في مواطن خاصّة تقتضيها المصلحة الكبرى. فقد هاجر الكثير من كبار الأعلام و الشخصيات الفكرية و تركوا أوطانها رغبة في تحصيل غايات سامية لم تكن تتوفر لهم في أوطانهم لولا الهجرة كطلب العلم و الرقي المعرفي، و ليس من المنطقي أن يضحى بتلك الغايات الكبرى من أجل حفنة تراب يعيش فيها الإنسان متكاسلا خائر القوى محطم الآمال، و لم يقدم للبشرية أيّ خدمة تذكر. و من هنا فلابد من الهجرة و ترك الأوطان ليتمكن الماهجر من تفهيم البشرية معنى الإنسانية و قيمة العمل و المثابرة في تحصيل المثل و تحقيق الغايات الكبرى. و عليه لا يكون تقديس الأوطان أمراً ذاتيا لا يمكن التخلف عنه، بل يخضع ذلك كله لمعايير خاصّة و مصالح محددة هي التي تمنح الأوطان قيمتها و فقا لمقتضيات الزمان و المكان.
ج. عدم الملازمة بين حبّ الوطن و الإيمان بالله تعالى
لم ير الباحثون في الشأن الديني و السياسي علاقة تلازمية جازمة بين حبّ الوطن و الإيمان بالله تعالى على المستوى العقلي؛ فلا ترابط بين كون الرجل محبّاً لمواطن آبائه و مرابع صباه و بين كونه مؤمناً بالله تعالى، كما نرى ذلك جلياً في القرآن الكريم "وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَليلٌ مِنْهُمْ وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَشَدَّ تَثْبيتاً".[27] فلا الذي هاجر عن وطنه يكشف عن إيمان راسخ، و لا المتمسك بأرضه و الرافض للهجرة يكشف عن عكس ذلك.[28]
و من هنا لايمكن اعتبار حبّ الوطن علامة صارمة على إيمان صاحبّها بالله تعالى؛ إذ لو كان ذلك معياراً لاندرج الكثير من الناس في عداد المؤمنين بما فيهم الكافر الحربي. مضافاً إلى استلزام ذلك الحكم بوجوب حبّ الوطن و أنّ على المؤمن أنْ يحبّ وطنه و إنْ كان من مواطن الكفر الذي شمله الغضب الإلهي. و هذا ما لم يقل به أحد من الفقهاء و العلماء، بل نجد التأكيد في الكثير من الحالات على ضرورة ترك تلك المواطن و الهجرة إلى ديار تؤمّن للانسان سلامة دينه و قيمه التي يعتز بها. فالمتحصل أنّه لا يمكن الجزم و بسهولة بأنّ حبّ الوطن من الإيمان و أنّه علامة الاعتقاد الراسخ بوجود الله.
نعم، رغم عدم التلازم العقلي الجازم بين حبّ الوطن و بين الإيمان، لكن يمكن صدق ذلك في بعض الحالات و لدى بعض الاشخاص؛ و ذلك بالبيان التالي: بما أنّ الإنسان المؤمن يتوفر على مجموعة من الخصال الإيمانية و التربوية الحميدة، و أنّه في حركة مثابرة لتربية الذات و الأخذ بيدها نحو التكامل باعتماد شتى السبل المساعدة في تحقيق تلك الغاية العظمى و منها عامل حبّ الوطن و الإخلاص له، كما أشار إلى ذلك أمير المؤمنين (ع) في كلامه السابق الذي اعتبر فيه تلك الخصوصية من علامات كرم الإنسان المؤمن، شريطة أن يتوفر على مجموعة من الشروط و الخصوصيات التي تكمل المشهد التكاملي و الروحي.
و من الممكن أيضا حمل كلام الشيخ البهائي (ره) المذكور آنفاً على هذا المعنى باعتبار كون الآخرة هي الموطن السامي و الحقيقي للإنسان و أنها الموطن الحقيقي الذي ينبغي حبّه و اعتبار ذلك الحبّ علامة على الإيمان و القول بالملازمة بين حبّ الوطن و بين الإيمان؛ لأن المحبّ مؤمن بالآخرة و لاريب أنّ الإيمان بالآخرة يستوجب الإيمان بمالك يوم الدين و البعث و النشور و الثواب و العقاب.
محصلة البحث
- يجب النظرة إلى قضية "حبّ الوطن" بصورة موضوعية و وضعه في مسير الفطرة الإلهية، لتكون حركة الإنسان و حبّه لوطنه في إطار حركته التكاملية و اعداده الروحي و النفسي و تعزيز القيم و المثل الإنسانية
- أكدت الآيات و الروايات على حبّ الوطن العرفي و الإجتماعي معتبرة ذلك من القضايا الطبيعية و أنّ الإنسان بطبعه يتعلق بمواطنه و مرابع صباه و لايوجد ما يمنع عن ذلك. فحبّ الوطن مفهوم حقيقي أقرّه الاسلام و دعا إليه، دون الإنجراف في عبادة الأوطان و منح الأصالة للتراب و الهواء و القومية و الخروج عن دائرة القيم و المثل الدينية و محاربة الشعوب و الأقوام على أسس مناطقية أو عرقية، لكونها مرفوضة جزماً و لا تنسجم بحال من الأحوال مع العقل و الشرع، بل لاريب في مخالفتها لروح الفطرة النقية.
[1] النمازي الشاهرودي، علي، مستدرك سفينه البحار، ج 10، ص 375، نشر مكتب الإعلام الإسلامي، قم، الطبعة الأولى، 1418ق.
[2] الأمين، السيّد محسن، أعيان الشيعة، ج 1، ص 301، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 1406ق.
[3] النراقي، الملا أحمد، الخزائن، تحقيق و تصحيح: حسن زاده آملي، حسن، ص 487 و 528، مؤسسة انتشارات قيام، طتهران، الطبعة الأولى، 1380ش.
[4] العجلوني، إسماعيل بن محمد، کشف الخفاء، ج 1، ص 345، دار الکتب العلمیة، بیروت، الطبعة الثالثة، 1408ق.
[5] الملاحويش آل غازي، عبدالقادر، بيان المعاني، ج 2، ص 404، مطبعة الترقي، دمشق، الطبعة الأولى، 1382ق.
[6] مرزبان بن رستم (المتوفی 302ق)، مرزبان نامه، تعريب: عرب شاه، شهاب الدين أحمد بن محمد، ص 178، مؤسسة الإنتشارات العربية، بیروت، الطبعة الأولى، 1997م.
[8] انظر: عميد زنجاني، وطن و سرزمين اسلامي= الوطن والبقاع الاسلامية، دفتر نشر فرهنگ اسلامي، طهران.
[9] کشف الخفاء، ج 1، ص 346.
[10] العاملي، جعفر مرتضى، الصحيح من سيرة النبی الأعظم (ص)، ج 3، ص 333 – 334، دار الحديث، قم، الطبعة الأولى، 1426ق.
[11] انظر: موضوع القومية في فكر الإمام الخميني، السؤال رقم 12364.
[12] الشيخ البهائي، كليات أشعار و آثار فارسي، ص 10، انتشارات محمودي، طهران، الطبعة الأولى، 1352ش.
[13] البقرة:84.
[14] جعفري، محمد تقي، ترجمة و تفسیر نهج البلاغة، ج 6، ص 201 – 202، دفتر نشر فرهنگ اسلامي، طهران، الطبعة السابعة، 1376ش.
[15] الممتحنه: 8-9.
[16] ترجمة و تفسیر نهج البلاغة، ج 6، ص 202 – 203.
[17] نفس المصدر، ص 202.
[18] المائدة، 33.
[19] ترجمة و تفسیر نهج البلاغة، ج 6، ص 203.
[20] القصص، 85.
[21] عبد الجبار، القاضي، تثبيت دلائل النبوّة، ج 2، ص 371 – 372، دار المصطفى، شبرا، القاهرة، بدون تاريخ؛ الفتال النيسابوري، محمد بن أحمد، روضة الواعظين و بصيرة المتعظين، ج 2، ص 406، انتشارات الرضي، قم، الطبعة الأولى، 1375 ش؛ الراوندى، قطب الدين سعيد بن هبة الله، الخرائج و الجرائح، ج 2، ص 910، مؤسسه الإمام المهدى (عج)، قم، الطبعة الأولى، 1409ق.
[22] الكراجكي، محمد بن على، معدن الجواهر و رياضة الخواطر، تحقيق و تصحيح الحسيني، أحمد، ص 50، المكتبة المرتضوية، طهران، الطبعة الثانية، 1394ق؛ ابن أبي الحديد، عبد الحميد بن هبه الله، شرح نهج البلاغة، تحقيق و تصحيح إبراهيم، محمد أبو الفضل، ج 20، ص 274، مكتبة آية الله المرعشي النجفي، قم، الطبعة الأولى، 1404ق.
[23] الشريف الرضي، محمد بن حسين، نهج البلاغة، تحقيق و تصحيح صبحي الصالح، ص 73، هجرة، قم، الطبعة الأولى، 1414ق.
[24] ابن شعبه الحراني، حسن بن علي، تحف العقول عن آل الرسول (ص)، تحقيق و تصحيح: الغفاري، على أكبر، ص 207، مكتب الإعلام والتبليغ الإسلامي، قم، الطبعة الثانية، 1404ق.
[25] النساء، 97.
[26] ترجمة و تفسیر نهج البلاغة، ج 6، ص 204.
[27] النساء،66.
[28] کشف الخفاء، ج 1، ص 346.
س ترجمات بلغات أخرى
التعليقات