Please Wait
5450
لاریب أن القیام بالعبادات یعد من التوفیق الالهی فما یوّفر الارضیة المناسبة للعبادات یعد من الامور التی وفق الله لها، و لکن الجدیر بالالتفات الیه أن العادات اذا کانت من قبیل العادات الفعلیة التی لا تجعل الانسان أسیراً للعوامل الخارجیة و انما ینحصر دورها فی جعله أکثر إتقانا للفعل الممارس و أٍشد ممارسة، فهذه العادات لا تعد مذمومة بل هی من الامور المحبذة و من العوامل التربویة الفاعلة. نعم، قد یتحول الانسان من خلال الممارسة الکثیرة و التطبع على الشیء الى کائن آلی و حینئذ تفقد العبادة قیمتها الاساسیة. و من هنا نرى الاسلام و لأجل التصدی لحالة التطبع المذموم هذه أدخل عنصر النیّة فی العبادات لیحقق هدفین اساسیین هما الحفاظ على عنصر الالتفات و التوجه الى هدف العبادة من جهة و اخراجها من الحالة المیکانیکیة الآلیة من جهة ثانیة لتصدر عن قصد و إرادة.
لاریب أن القیام بالعبادات یعد توفیقا إلهیا[1]، و قد یسلب هذا التوفیق من الانسان أحیاناً[2]، و لکن السؤال المطروح هنا هل هناک تناف بین الاعتیاد على العبادة و التطبع علیها و بین کونها توفیقا الهیاَ؟
و لتتضح الاجابة عن السؤال المطروح لابد من الاشارة الى بعض الامور الضروریة:
1. هل أن جمیع العادات مستهجنة و مذمومة؟
هناک من العلماء التربویین من یرى اعتیاد الانسان و تطبعة على شیء ما مذموم مطلقا فلا ینبغی له أن یعتاد على شیء ما مهما کان ذلک الشیء؛ و ذلک لانه سیقع فی نهایة المطاف أسیر تأثیره و یخضع لحکومته فیأنس به و لا یتمکن من التحرر منه، و اذا ما قام الانسان بالعمل (خیراً کان أو شراً) لیس انطلاقا من حکم العقل ولا انطلاقا من تشخیص المصلحة فی ذلک الفعل بل بسبب الاعتیاد علیه بحیث لو ترکه إستوحش لفراقه، حینئذ یتحول الى کائن آلیّ فاقد لروح الابتکار مسلوب الاختیار و الارادة، یقول الامام الصادق (ع): "لاتَنْظُروا الى طولِ رُکوعِ الرَّجُلِ وَ سُجودِهِ فَانَّ ذلِکَ شَىْ ءٌ اعْتادَهُ فَلَوْ تَرَکَهُ اسْتَوْحَشَ لِذلِکَ، وَ لکِنِ انْظُروا الى صِدْقِ حَدیثِهِ وَ اداءِ امانَتِهِ".[3]
و بهذا یفقد العمل الاخلاقی حینئذ قیمته فلا قیمة للاعمال التی تصدر عن اعتیاد و تطبع لان صاحبها محکوم بالعادة و التطبع لا انه یقوم بها عن قناعة و معرفة بها.
2. لا تکون العادات مذمومة اذا أخذت بید الانسان للقیام بالعبادات عن إرادة و معرفة. توضیح ذلک:
نعتقد بان العادات لیست مذمومة مطلقا؛ و ذلک لانها تقسّم الى قسمین: العادات الفعلیة و العادات الانفعالیة. و الفعلیة هی التی لا توقع الانسان تحت تأثیر عامل خارجی، بل تجعله یمارس العمل بدقة اکبر و إتقان أشد نتیجة التکرار و الممارسة. فالفن عادة و الکتابة عادة بل کثیر من الملکات النفسانیة عادات فعلیة کالشجاعة، الجود و السخاء، العفة و طهارة الذیل. و من خصائص هذه الحزمة من العادات أنها لا تعنی تطبّع الانسان و اعتیاده علیها، بل تعنی أن الانسان قبل التکرار و الممارسة کان ضعیف الارادة فی مقابل الاتجاهات المعاکسة، و لکن تشتد ارادته بعد التکرار و التطبع على الفعل فیکون صاحبها اشد صلابة و احکم ارادة فی مقابل تلک المعوقات، و یسهل أمامه ما هو صعب حسب الطبیعة الانسانیة. فتارة یروم الانسان القیام بعمل ما یخالف الطبیعة لکنه یجد من الصعب القیام به قبل الممارسة و الاعتیاد فعلى سبیل المثال الاسیتقاظ من النوم صباحا و ترک الفراش یعد من الامور التی لا تحبذها الطبیعة البشریة، لکنه یسعى للتطبع على الاستیقاظ مبکراً و رویدا رویدا یکون قد اعتاد ذلک، و هذا لا یعنی الا تسهیل الصعب و تذلیل الجموح. و بعبارة أخرى: کان أسیر الطبع و لکنه تحرر من ذلک بسبب تنشیط عوامل أخرى لدیه من خلال العادة و الممارسة، فیکون حراً أمام تلک العوامل الطبیعیة المتضادة فیعمل عقله لیختار ما هو الصالح و یعمل ارداته فی اختیار النوم أو الیقظة. و لا ریب أن مثل هکذا سجایا و عادات لا تعد من الامور المذمومة قطعا لان صاحبها لیس أسیراً للطبیعة بل صاحب ارادة و عقل یختار من خلالهما ما یرید ممارسته، بل أنه یستیطع کسر تلک العادات و العودة الى النوم صباحاً إن اراد ذلک.
من هنا، لیس من الصحیح أن توسم جمیع العادات و السجایا بالسلبیة بل لابد من التمییز بین نوعین العادات، العادات التی تجعل صاحبها أسیراً لها و تخلق منه إنساناً آلیا یتحرک من دون ارادة و اختیار و بین العادات التی تعزز تلک الارادة و تخضعها لحکم العقل بحیث یکون الانسان رغم اعتیادها قادراً على القیام بها و عدمه.
و الحدیث الذی ذکرناه: "لاتَنْظُروا الى طولِ رُکوعِ الرَّجُلِ وَ سُجودِهِ فَانَّ ذلِکَ شَىْ ءٌ اعْتادَهُ فَلَوْ تَرَکَهُ اسْتَوْحَشَ لِذلِکَ" ناظر الى هذه الحالة خاصة التی تسلب فیها العاداتُ العملَ قیمته الاخلاقیة.
واما العادات الانفعالیة فهی التی تجعل من الانسان أسیر عوامل خارجیة کالاعتیاد على التدخین فهذه تخلق فی الانسان -عادة- حالة من الانس و التطبع، و فی الغالب تکون العادات المربیة للبدن من نوع العادات الانفعالیة کالنوم على فراش الراحة الوثیر و الاعتیاد على طعام خاص بنحو لو توفرت کل الاطعمة لما نالت رضاه، تلک عادات انفعالیة مستهجنة. و اما العادات الفعلیة فلا یمکن ذمها لمجرد کونها عادات، نعم، قد تذم لسبب آخر لا لکونها عادة.[4]
3. الاسلام و من أجل التصدی لحالة التطبع المذموم أدخل عنصر النیّة فی العبادات. توضیح ذلک:
لم یقبل الاسلام العبادات مهما کانت اذا کانت مجردة عن النیّة، فجعل للنبیة رکنین اساسیین:
الاول کون العمل ملتفتا الیه لا مجرد عادة و تطبع، اذ قد یقوم الانسان بکثیر من الاعمال من دون التفات بسبب الاعتیاد و من دون أن یلتفت بان بدنه یمارس عملاَ ما، کالمشی مثلا حیث لا یشعر به غالبا.
إذن الرکن الاول للنیة التفات القلب لذلک العمل و ما یشترط من استدامة النیّة ناظر الى هذه النکتة.
یقول علماء النفس: إن العمل المعتاد للانسان یتوفر على خاصیتین متضادتین. کلما اعتاد الانسان علیه و مارسه بکثرة، سهل القیام به. فالعامل على الآلة الطابعة کلما ازدادت ممارسته سهلت عملیة الطباعة لدیه، و لکن کلما کثرت الممارسة قلت نسبة الالتفات الى الفعل و تحول العمل أشبه ما بالعمل غیر الارادی. هذه هی خاصیة العادة. و ما تأکید الاسلام على النیة الا للحد من بروز هذه الظاهرة الخطیرة و الرکن الثانی من النیّة الحد من تحول العبادات الى ممارسات غیر طبیعیة و غیر فکریة و لا هادفة، واخراجها من هذه الحالة الى الحالة المضاده لها الناتجة من الارادة و التفکیر و الهادفة الى تحقیق غایة مهمة.[5]
[1]و التوفیق هو أن یجمع بین جمیع الأسباب التی یحتاج إلیها فی حصول الفعل و لهذا لا یقال فیمن أعان غیره وفقه لأنه لا یقدر أن یجمع بین جمیع الأسباب التی یحتاج إلیها فی حصول الفعل.( مجمع البیان فی تفسیر القرآن، ج1، ص: 102)
[2]لمزید الاطلاع انظر: السؤال رقم 230 (الرقم فی الموقع: 1855)؛
[3] الکافی ج : 2 ص : 105.
[4]انظر: الشهید المطهری، مجموعه الآثار، ج22، ص:567- 573.
[5]انظر: الشهید المطهری، مجموعه الآثار، ج22، ص643- 644.