Please Wait
6727
صحیح أن القرآن الکریم لم یتعرض و بصراحة لقضیة رفع الاسعار و لم یذکر هذا المصطلح فی آیة صریحة، و لکنه عالج القضیة من زاویة أخرى عندما تعرض للمسائل ذات الصلة برفع الاسعار او القضایا التی یکون مآلها الى الغلاء و رفع الاسعار، یعنی البخس و الاحتکار، فالاحتکار و البخس ذکرا بصراحة فی القرآن الکریم دون رفع الاسعار.
ثم أن أدلة منع الاحتکار و عد المحترک مذنبا و ملعوناً تعنی فی الحقیقة الذم و التحذیر من رفع الاسعار و غلاء القیم؛ و ذلک لان المحتکر ینوی من وراء احتکار السلع التشدید و التضییق على الناس لزیادة الطلب و من ثم ارتفاع القیم، فالاحتکار مقدمة للغلاء.
ولعل عدم التصریح القرآنی بقضیة رفع الاسعار یعود الى عدة اسباب نشیر الى واحد منها: أن الاسلوب القرآنی – و کما هو معروف- لا یشیر الى الجزئیات و انما یبین الکلیات و یترک بیان الجزئیات و تفسیر الآیات للائمة (ع) فالقرآن الکریم یرسم القوانین العامّة کالحدود، القصاص و.... و القوانین العامة للعبادات کالصلاة، الصوم، الحج، الوضوء و امثال ذلک، و یترک الجزئیات على عاتق الرسول الاعظم (ص) و الائمة من أهل بیته (ع).
صحیح أن القرآن الکریم لم یتعرض و بصراحة لقضیة رفع الاسعار و لم یذکر هذا المصطلح فی آیة صریحة، و لکنه عالج القضیة من زاویة اخرى عندما تعرض للمسائل ذات الصلة برفع الاسعار او القضایا التی یکون مآلها الى ذلک، یعنی البخس و الاحتکار.
من هنا نحاول فی هذا المقال الاستعانة بالآیات القرآنیة و الاحادیث الشریفة لمعالجة ظاهرة الاحتکار و رفع الاسعار عسى أن تتم الاجابة عن التساؤل المطروح.
والجدیر بالذکر أن رفع الاسعار و البخس فی التعامل و احتکار المواد کل ذلک یعد من الجرائم التی تدخل تحت عنوان التحایل لنهب أموال الناس. و لا ریب أن الجرائم إما قبیحة ذاتاً أو تقنیناً. و لان رفع الاسعار یتضمن فی باطنة التحایل فهو قبیح ذاتاً؛ لان الفطرة البشریة ترفض ذلک و یذمه العقل السلیم؛ من هنا نرى الشرع و العرف أجمعا على ذمه و منعه و اعتبرا ذلک من الامور التی تستحق العقاب و المؤاخذة.
فقد تکرر فی القرآن الکریم الذم الشدید لعملیة البخس فی التعامل فکان السبب فی تدمیر مدینة مدین و ابادة شعبها. و من الآیات التی تعرضت لهذه القضیة:
1. جاء فی سورة المطففین و التی یدل اسمها على محتواها: "وَیْلٌ لِلْمُطَفِّفینَ* الَّذینَ إِذَا اکْتالُوا عَلَى النَّاسِ یَسْتَوْفُونَ* وَ إِذا کالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ یُخْسِرُونَ* أَ لا یَظُنُّ أُولئِکَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ* لِیَوْمٍ عَظیمٍ* یَوْمَ یَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمین".[1]
2. جاء فی سورة الاسراء قوله تعالى: "وَ أَوْفُوا الْکَیْلَ إِذا کِلْتُمْ وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقیمِ ذلِکَ خَیْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْویلا".[2]
3. وفی سورة الرحمن: "وَ السَّماءَ رَفَعَها وَ وَضَعَ الْمیزانَ* أَلاَّ تَطْغَوْا فِی الْمیزانِ* وَ أَقیمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَ لا تُخْسِرُوا الْمیزانَ".[3]
4. وقد خاطب الله تعالى فی سورة الاعراف قوم شعیب القاطنین فی مدینة مدین بقوله: "وَ إِلى مَدْیَنَ أَخاهُمْ شُعَیْباً قالَ یا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَکُمْ مِنْ إِلهٍ غَیْرُهُ قَدْ جاءَتْکُمْ بَیِّنَةٌ مِنْ رَبِّکُمْ فَأَوْفُوا الْکَیْلَ وَ الْمیزانَ وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْیاءَهُمْ وَ لا تُفْسِدُوا فِی الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِکُمْ خَیْرٌ لَکُمْ إِنْ کُنْتُمْ مُؤْمِنین".[4]
5.و جاء الحدیث عن قوم مدین و سلوکیاتهم غیر المتوازنة فی سورة هود و موقفهم الصارم مع شعیب (ع) و التحذیر من العذاب الشدید، حیث قال تعالى: "وَ إِلى مَدْیَنَ أَخاهُمْ شُعَیْباً قالَ یا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَکُمْ مِنْ إِلهٍ غَیْرُهُ وَ لا تَنْقُصُوا الْمِکْیالَ وَ الْمیزانَ إِنِّی أَراکُمْ بِخَیْرٍ وَ إِنِّی أَخافُ عَلَیْکُمْ عَذابَ یَوْمٍ مُحیطٍ".[5] و "یا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِکْیالَ وَ الْمیزانَ بِالْقِسْطِ وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْیاءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فِی الْأَرْضِ مُفْسِدین".[6] و "وَ یا قَوْمِ لا یَجْرِمَنَّکُمْ شِقاقی أَنْ یُصیبَکُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَ ما قَوْمُ لُوطٍ مِنْکُمْ بِبَعید".[7]
6. و جاء فی سورة الانعام: " واوفوا الکیل و المیزان بالقسط".[8] و قد اشار تعالى فی هذه السورة الى المحرمات على العباد التی من ضمنها التحذیر من عدم الکیل بالمکیال الصحیح حیث قال تعالى: "قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّکُمْ عَلَیْکُمْ أَلاَّ تُشْرِکُوا بِهِ شَیْئاً وَ بِالْوالِدَیْنِ إِحْساناً وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَکُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُکُمْ وَ إِیَّاهُمْ وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتی حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِکُمْ وَصَّاکُمْ بِهِ لَعَلَّکُمْ تَعْقِلُونَ * وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْیَتیمِ إِلاَّ بِالَّتی هِیَ أَحْسَنُ حَتَّى یَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا الْکَیْلَ وَ الْمیزانَ بِالْقِسْط".[9]
و الجدیر بالالتفات و التأمل أن عد الاحتکار و البخس فی عداد الذنوب الکبیرة یکشف عن الاهمیة التی یحظى بها هذا الموضوع.
ثم أنه صحیح لم یصرح القرآن الکریم بقضیة رفع الاسعار و الغلاء بصورة مباشرة، و لکن لعل ذلک یعود الى إحدى الاسباب التالیة:
أولا: أن الاسلوب القرآنی – و کما هو معروف- لا یشیر الى الجزئیات و انما یبین الکلیات و یترک بیان الجزئیات و تفسیر الآیات للائمة (ع). و مما لاریب فیه اننا نعتقد بان السنة القطعیة لا تختلف فی الحجیة عن القرآن الکریم، و لیست هذه القضیة التی نحن بصدد البحث عنها هی الاولى من هذا القبیل بل هناک الکثیر من المسائل التی بیّن فیها القرآن الامور الکلیة و ترک التفصایل و الجزئیات على عاتق الائمة (ع) کما فی قضیة الامام الصادق مع مصادف.[10] و هذا لا یتنافى مع جامعة القرآن الکریم؛ و ذلک لانه صحیح أن الله تعالى انزل فی قرآنه الشریف جمیع ما یحتاجه البشر الى یوم القیامة، لکن هذا لا یعنی أن القرآن الکریم دائرة معارف کبرى تحتوی جمیع الجزئیات من علوم ریاضیة و جغرافیة و...، بل القرآن الکریم یرسم القوانین العامّة کالحدود، القصاص و.... و القوانین العامة للعبادات کالصلاة، الصوم، الحج، الوضوء و امثال ذلک، و یترک الجزئیات على عاتق الرسول الاعظم (ص) و الائمة من أهل بیته (ع).
ثانیا: لم یکن عند نزول القرآن الکریم مؤسسة أو مرجع یحدد الاسعار و یضبط القیمة السوقیة للاشیاء و انما یحکم الاسعار قانون العرض و الطلب، و بما أن القرآن الکریم جامع لتمام حاجات البشر و مبینا لاحکامها من هنا نراه یؤکد کثیراً و بصراحة على الحد من ظاهرة البخس فی المعاملة و الاحتکار و یذم ذلک بشدة و یحذر من عاقبتها على الفرد و المجتمع.
فاذا اخذنا هذا الامر بنظر الاعتبار یظهر لنا ان نتیجة البخس و الاحتکار و الغلاء ورفع الاسعار عدم التعادل و التوازن بین السلعة و القیمة (بذل مبلغ کبیر من المال مقابل بضاعة لا تستحق ذلک کیفا و کما)، من هنا لو اردنا تطبیق ذلک على المجتمعات المعاصرة و من خلال تنقیح المناط القطعی و استنباط الملاک المشترک یمکن الحکم من باب مقتضیات الزمان، مصلحة المجتمع و حکم العقل، بتسریة الاحکام الورادة فی البخس و الاحتکار لقضیة رفع الاسعار و غلاء السلع.
ثالثا: مع صرف النظر عن کل ذلک نقول: إن القرآن الکریم بین الاطر العامة للمعاملات من الناحیة الاخلاقیة یمکن ان تکون رداعا عن رفع الاسعار کمفهوم تجنب الحرص، الطمع، الظلم، الاحتکار، البخس و الانصاف فی المعاملة و....
و کذلک ادلة منع الاحتکار ولعن المحتکر[11]. و التی تکشف فی الحقیقة عن مدى الذم و المنع لعملیة الغلاء و رفع الاسعار؛ و ذلک لان المحتکر ینوی من وراء احتکار السلع التشدید و التضییق على الناس لزیادة الطلب و من ثم ارتفاع القیم، فالاحتکار مقدمة للغلاء.
[1] المطففین، 1-6.
[2] الاسراء، 35.
[3] الرحمن، 6-9.
[4] الاعراف، 85.
[5] هود، 84.
[6] هود، 85.
[7] هود، 89. ولمزید الاطلاع عن قصة اصحاب مدین انظر سورة هود الآیات 84-95.
[8] الانعام، 152.
[9] الانعام، 151-152.
[10] ذکر الشهید المطهری فی کتاب داستان راستان، انه جاء فی الخبر: دعا أبو عبد الله (ع) مولى له یقال له مصادف فأعطاه ألف دینار و قال له تجهز حتى تخرج إلى مصر، فإن عیالی قد کثروا قال: فتجهز إلى بمتاع و خرج مع التجار إلى مصر فلما دنوا من مصر استقبلتهم قافلة خارجة من مصر فسألوهم عن المتاع الذی معهم ما حاله فی المدینة و کان متاع العامة فأخبروهم أنه لیس بمصر منه شیء فتحالفوا و تعاقدوا على أن لا ینقصوا متاعهم من ربح الدینار دینارا فلما قبضوا أموالهم انصرفوا إلى المدینة فدخل مصادف على أبی عبد الله علیه السلام و معه کیسان فی کل واحد ألف دینار فقال جعلت فداک هذا رأس المال و هذا الآخر ربح فقال إن هذا الربح کثیر و لکن ما صنعتم (صنعته- خ) فی المتاع فحدثه کیف صنعوا و کیف تحالفوا فقال: سبحان الله تحلفون على قوم من المسلمین أن لا تبیعوهم إلا بربح الدینار دینارا؟ ثمَّ أخذ أحد الکیسین فقال: هذا رأس مالی و لا حاجة لنا فی هذا الربح ثمَّ قال: یا مصادف مجالدة السیوف أهون من طلب الحلال.( وانظر: المجلسی الاول، روضة المتقین فی شرح من لا یحضره الفقیه، ج6، ص: 413)
[11] وسائل الشیعة، ج17، ص 424، عَنْ أَبِی عَبْدِ اللَّهِ (ع) قَال: قال رسول اللَّه (ص):"الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ وَ الْمُحْتَکِرُ مَلْعُونٌ"،