Please Wait
19820
إن القصص و الروايات القرآنية قائمة على أساس الحق و الصدق و لا يمكن أن يتطرّق إليها ما هو خلاف الواقع و الحقيقة، لذلك لا يمكن قبول تقسيم القصص القرآنية على أساس تسرّب الخيال لها أو الإسطورة و غير ذلك، لأن كل ما في القرآن من الحوادث الماضية هو حق و له واقع، حتى لو لم تعتبر هذه القصص تاريخية، فليس القرآن كتاب تاريخ و لا بصدد الإستعراض التاريخي للحوادث، ففي عرضه للقصة لا يتناول إلا بعض أبعادها و عناصرها حسب أهدافه المعينة.
نعم، يمكن القول: بأن ما كان في قالب المثال و هو ناظر إلى العنوان الكلي ـ لا إلى الشخص الخاص ـ هو الوحيد الذي يحمل طابع التمثيل في القرآن لا غير، و ذلك لأن القرآن في هذه الموارد يصرّح بطابعه التمثيلي كالآيات المباركة: "كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتخَّذَتْ بَيْتًا" و "كَمَثَلِ الَّذِى يَنْعِقُ بمِا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَ نِدَاء".و مع إن انطباق هذه الموارد و غيرها على آلاف المصاديق المشابهة لا يمكن إنكاره، مع ذلك ما كان في قالب بيان الأمور الواقعية المتحققة في الخارج، لا يمكن حمله على الأسطورة و الرمز و التمثيل.
فیما یخص السؤال المطروح و هل أن قصص القرآن و تقاريره مبتنية على أساس الوقائق التاريخية، أو أنها قد تبتعد نوعاً ما عن الواقع في بعض الأحيان لضرورة تقتضي ذلك، أو بسبب إتخاذه لطريقة معينة في العرض فيدخل في وادي التمثيل غير الحقيقي و العرض الرمزي؟
ففي مجال الجواب عن السؤال المطروح طُرحت لحد الآن تحقيقات و مطالعات قيّمة في هذا المجال و قد عُرضت آراء متعدّده و متنوعه،[1] لا يمكن طرحها في هذه الخلاصة بشكل واسع، لكن يمكننا في هذه المقالة القول باختصار: إن القرآن الكريم هو كلام الله و هو الحق المطلق الذي لا يتطرّق إليه الباطل أبداً. و إن ألفاظ القرآن الكريم قد أنزلها الله سبحانه بمستوى فهم عامة الناس لغاية بيان المعارف الإلهية، و كلام الله سبحانه يختلف عن كلام البشر إختلافاً جوهرياً تاماً.
فالإنسان لو أراد بيان بعض المعارف الراقية قد يضطرّ لمزج الحق مع الخيّال غير الواقعي و يصب الموضوع الحقيقي في قالب القصص الرمزية و الكناية، و هذا كلّه بسبب القيود و المحدوديات الذاتيّة للإنسان، أمّا الله سبحانه و هو الحق المطلق اللامتناهي، لا يكون كلامه إلا حقاً و طلقاً كذلك و لا يمكن أن يتطرّق إليه الباطل و اللّاواقعية، حتى لو كان في قالب القصة.
فباعتقادنا، إن العبارات التي إستعملها القرآن الكريم في قصصه، تدل على موضوعية القرآن و واقعيته في بيانه للأخبار المتحقّقة في الماضي، كقوله عزّ و جلّ: "لَقَدْ كاَنَ فىِ قَصَصِهِمْ عِبرْةٌ لّأِوْلىِ الْأَلْبَبِ مَا كاَنَ حَدِيثًا يُفْترَى وَ لَاكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَينَْ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ كُلِّ شىَْءٍ وَ هُدًى وَ رَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون"[2] و كذلك: "وَ كلاُّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَ جَاءَكَ في هَذِهِ الْحَقُّ وَ مَوْعِظَةٌ وَ ذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِين"[3]
فالقرآن الكريم يبيّن في هذه الآيات المباركة بأن قصصه عبرة لأولي الألباب و حقٌّ لا يمكن انسجامه مع الباطل. إذن، يتضح بهذه الآيات المباركة، أن جميع القصص القرآنية بما فيها قصة خلق آدم (ع) و ... هي حقائق واقعية و إن صيغت في قالب القصة و التمثيل، و ذلك لأن القرآن الكريم هو كتاب هداية من قبل الحق المطلق فمن غير المعقول أن يجعل فيه قصصاً موضوعة و لا يمكن كونها هداية للناس، لعدم حاجة الله سبحانه إلى هذا الأمر. و من الطبيعي أن تكون القصة إحدى طرق الهداية و التفهيم و قد اتخذ علماؤنا الكبار طريقة القصة لبيان غرضهم، و لا إشكال في تدخل الخيال في القصص البشرية، غير القرآن الذي هو ليس كتاب قصة و لا تاريخ. فلا يوجد فيه إلا الحق الصريح الخالص غير الملفق بالخيال و التحريف و الوضع، و إلا خرج عن كونه حقاً.
فمن أهم خصوصيات دعوة الأنبياء الإلهيين، هو تجنب الطرق غير المطلوبة في التبليغ، إذ إنها تضرّ بثقة المخاطبين، و من هذا، نجد النبي الأكرم (ص) كباقي الأنبياء لم يكن بحاجة إلى وضع الأساطير و القصص غير الواقعية لأجل إيصال الرسالة الإلهية. و لاثبات هذه الحقيقة حاول السيد العلامة الطباطبائي في ردّه على من يقول بان القصص القرآنية قصص رمزية القول في ذيل قصة آزر عم النبي ابراهيم (ع): و من عجيب الوهم ما ذكره بعض الباحثين أن القرآن الكريم كثيراً ما يهمل فيما يذكره من تاريخ الأنبياء و الأمم و يقصّه من قصص الماضين أموراً مهمة هي من جوهريات القصص كذكر تاريخ الوقوع و محلّه و الأوضاع الطبيعية و الإجتماعية و السياسية و غيرها المؤثرة في تكوّن الحوادث الدخيلة في تركب الوقائع، ... و ليس ذلك إلا لأن القرآن سلك في قصصه المسلك الجيّد الذي يهدي إليه في القصص الحقيقي و هو أن يختار القاصّ في قصته كل طريق ممكن موصل إلى غايته و مقصده إيصالاً حسناً، و يمثل المطلوب تمثيلاً تاماً بالغاً من غير أن يبالغ في تمييز صحيح ما يقصه من سقيمه ... فمن الجائز أن يأخذ القرآن الكريم في سبيل النيل إلى مقصده و هو الهداية إلى السعادة الإنسانية قصصاً دائرة بين الناس أو بين أهل الكتاب في عصر الدعوة و إن لم يوثق بصحتها أو لم يتبين فيما بأيديهم من القصة جميع جهاتها الجوهرية حتى لو كانت قصة تخييلية ... و هذا خطأ فإن ما ذكره من أمر الفن القصصي حق غير أن ذلك غير منطبق على مورد القرآن الكريم فليس القرآن كتاب تاريخ و لا صحيفة من صحف القصص التخييلية و إنما هو كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه و قد نص على أنه كلام الله سبحانه، و أنه لا يقول إلا الحق، و إن ليس بعد الحق إلا الضلال، و إنه لا يستعين للحق بباطل، و لا يستمد للهدى بضلال، و أنه كتاب يهدي إلى الحق و إلى صراط مستقيم، و إن ما فيه حجة لمن أخذ به و على من تركه في آيات حجة لا حاجة إلى إيرادها فكيف يسع لباحث يبحث عن مقاصد القرآن أن يجوّز اشتماله على رأي باطل أو قصة كاذبة باطلة أو خرافة تخييل؟![4]
أما الأستاذ الشهيد المطهري فتطرّق في بحثه عن ضرورة مشروعية الوسيلة في التبليغ لظن غير واقعية القصة القرآنية و ادّعاء عدم تحقق بعض القصص القرآنية في التاريخ، حيث قال: أو هل ثبّتت كل القضايا التي حصلت في الدنيا في الكتب التأريخية؟! ثم إنتقد بعد ذلك من يدّعي بأن هدف القرآن من بيان القصص هو الموعظة لا ذكر التأريخ، فلا ضرورة في كونها واقعية قائلاً: "من المستحيل على الأنبياء في منطق النبوة أن يتوسلوا بالكذب و الأمر غير واقع ـ و العياذ بالله ـ و لو بصورة التمثيل لبيان حقيقة ما".[5]
فالقرآن الكريم لا يمكن أن يتطرق إليه الباطل بسبب إستحكامه و برهانيته و إنسجامه مع الفطرة و العقل البشري: " لا يَأْتيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزيلٌ مِنْ حَكيمٍ حَميدٍ".[6] من التهم التي وجهها الكفّار للنبي الأعظم (ص) هي أن ما جاء به هو نسج شعر و خيال. فردّ الله سبحانه و تعالى هذه التهمة بقوله "وَ مَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَ مَا يَنبَغِى لَهُ".[7]
فلا يمكن للقرآن أن يظهر أمراً غير واقعي و غير حقيقي على أنه واقع و حقيقة. بل إذا أراد بيان أمراً واقعاً يبينه على شكل قصة. فليست القصة القرآنية مفتعلة و مجهوله. بل حقائق حصلت في الأزمنة الماضية و ليس هدف القرآن من ذكرها هو تسلية الناس، بل الهدف هو النتائج الحقة التي يستنبطها الناس من القصة لهدايتهم و تعليمهم و تزكيتهم، لذلك يصف الله سبحانه و تعالى القصة القرآنية بأنها حق و أحسن القصص: "وَ اتْلُ عَلَيهْمْ نَبَأَ ابْنيْ ءَادَمَ بِالْحَق".[8]، [9]
نعم، يمكن القول: بان ما كان في قالب المثال و هو ناظر إلى العنوان الكلي ـ لا إلى الشخص الخاص ـ هو الوحيد الذي يحمل طابع التمثيل في القرآن لا غير، و ذلك لأن القرآن في هذه الموارد يصرّح بطابعه التمثيلي كالآيات المباركة: "كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتخَّذَتْ بَيْتًا"[10] و "كَمَثَلِ الَّذِى يَنْعِقُ بمِا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَ نِدَاء".[11] و مع إن انطباق هذه الموارد و غيرها على ألاف المصاديق المشابهة لا يمكن إنكاره، و لكن ما كان في قالب بيان الأمور الواقعية المتحققة في الخارج، لا يمكن حمله على الأسطورة و الرمز و التمثيل.[12]
و كما تعلمون بأن التمثيل على قسمين، واقعي و غير واقعي، فالأمثلة الواقعية هي الأمثلة التي حصلت في الزمن الماضي و قد استعان المتكلم بذكرها لتفهيم أمور معينة للمخاطب، و قد يستعين بأمثلة غير حاصلة للتقريب الذهني. أما القصص القرآنية، فهي كلها تحكي عن حوادث تحققت في الماضي، و قد بينها الله سبحانه في قالب المثال لأخذ الدروس و العبر منها و لهذا يقول الله سبحانه و تعالى لرسوله "اضرب لهم مثلاً ...".[13] و من الطبيعي أن الله سبحانه لا يأبى أن يضرب مثلاً بواقع طبيعيّ حاصل.[14]
إذن، كل ما يذكره القرآن الكريم من القصة و المثل فهو لأجل بيان حقيقة عالية المضامين ثقيلة الوزن فيصبّها في قالب السهولة و التبسيط لتكون في متناول فهم الجميع. فلا يمكن للقرآن أن يظهر أمراً غير حاصلا على أنه واقع و حقيقة. و إذا أراد إظهار أمر حاصل فيبينه على شكل قصة: "نحَّنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ".[15]،[16]
النتيجة:
إن لسان القرآن في باب القصص، قائم على أساس الحق و الصدق، سواء أ كان بلحاظ السبك البياني أم بلحاظ المحتوى، لذلك لا يمكن أن يدخله أمر غير واقعي و خلاف الحقيقة، فليس من المعقول قبول تقسيم القصة القرآنية على أساس يمكن من خلاله تسرب الخيال و الأسطورة إليها، لأن كل ما بينه القرآن من الحوادث الماضية قائم على أساس الحق و الواقع، حتى لو لم يُصطلح على القصة أنها تاريخية، فلا القرآن كتاب تاريخ و لا بصدد الإستعراض التاريخي للحوادث، ففي عرضه للقصة لا يتناول إلا بعض أبعادها و عناصرها حسب أهدافه المعينة.
[1] مثل: تحليل لسان القرآن منهجية فهمه، لمحمد باقر السعيدي الروشن، لسان الدين و القرآن، ابوالفضل الساجدي و ...
[2] يوسف، 111.
[3] هود، 120.
[4] راجعوا: الطباطبائي، سيد محمد حسين، الميزان، ج 7، ص 165 ـ 166، جامعه المدرّسين، قم.
[5] راجعوا: المطهّري، مرتضى، مجموعة الآثار، ج 16، ص 99 ـ 100، طهران، صدرا، 1378 ش.
[6] فصلت، 42.
[7] يس، 69.
[8] مائدة، 27.
[9] راجعوا:جوادي آملي، عبد الله، التفسير الموضوعي للقرآن، ج1، ص298- 301، مركز نشر اسراء، قم، 1378 ش.
[10] العنكبوت، 41.
[11] البقرة، 171.
[12] انظر: قصص القرآن في مرآة الواقعية.
[13] الكهف، 32، " وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَ حَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَ جَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً"
[14] البقرة، 26 " إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها".
[15] الكهف، 13.
[16] التفسير الموضوعي للقرآن، ج1، ص299- 300.