Please Wait
9468
حياة السيد بحر بحر العلوم[1]
الولادة:
ابصر السيد محمد مهدي بن السيد مرتضى الطباطبائي البروجرد من احفاد الامام الحسن المجتبى (ع)، النور ليلة الجمعة من شهر شوال عام 1155هـ/ 1113 هجري شمسي، في مدينة كربلاء المقدسة و في اسرة عرفت بالتقوى و العلم.[2] و من عجائب الامور أن والده السيد مرتضى رأى في الليلة التي ولد فيها السيد بحر العلوم بان الامام الرضا (ع) قد أمر محمد بن اسماعيل بن بزيع – من اصحاب الائمة الكاظم و الرضا و الجواد عليهم السلام- بان يوقد شمعة فوق داره ( دار السيد المرتضى)، و لما إمتثل محمد بن اسماعيل الشمعة لامر الامام و اوقد الشمعة شع نورها الى السماء بعمود لا نهاية له، و قد تقارنت هذه الرؤيا مع ولادة السيد بحر العلوم.
مشايخه و اساتذته
أخذ السيد بحر العلوم العلم منذ نعومة اظفاره على يد والدته الكريمة و اقتبس من شعاع علم أبيه السيد مرتضى (المتوفى 1204هـ) و نهل من مكارم اخلاقهم حتى اشتد عوده. و بعد انهاء مرحلة المقدمات و السطوح (فقها و اصولا) في الدراسة الحوزوية التي تقارنت مع بلوغه سن التكليف الشرعي، حضر على يد والده في ابحاث الخارج استمرت خمس سنوات نال خلالها مرتبة الاجتهاد بعد عناء شديد و مثابرة جادة في البحث و الدراسة.
كذلك حضر على يد كل من الاساتذة الكبار - في حوزة كربلاء- محمد باقر الوحيد البهباني، و و الشيخ يوسف البحراني، و محمد تقي الدورقي النجفي و مهدي الفتوني النباطي العاملي.
تبادل العلم هو و الميرزا المدرس فأخذ الفلسفة (الحكمة) على يد الميرزا أبو القاسم المدرس، و أخذ منه المدرس الاصول والفقه.
وقد ارجع الوحيد البهبهاني في أواخر عمره الناس الى السيد بحر العلوم في المسائل التي احتاط بها، حيث كان يراه مجتهدا جامعا للشرائط.
سافر السيد سنة 1186 هـ الى خراسان قاصداً زيارة الامام الرضا (ع) و لقاء كبار العلماء هناك فقام خلال تلك الفترة التي استمرت سبع سنوات بالاضافة الى زيارة العلماء بحضور درس الميرزا مهدي الاصفهاني الخراساني ( 1153- 1218ق) فاخذ عنه الفلسفة و العقائد و الكلام، و هو الذي لقبه ببحر العلوم بعد أن رأى عليه علامات النبوغ و الذكاء قائلا له ( ها انت بحر العلوم) و بقي هذا اللقب ملازما له إلى اليوم. ثم رجع إلى النجف أواخر شعبان سنة 1193 فكانت مدة هذه السفرة سبع سنين.
سفره الى الحج
و في تلك السنة حج بيت الله الحرام الحجة الأولى و لما ورد مكة المشرفة جعل يدرس بالمذاهب الأربعة و كان لا يكاد يفارق مكانا الا ترك أثرا فيه و آثاره من هذا القبيل كثيرة. و قد وضع في حجته هذه أو في التي بعدها العلامات الكافية لأداء الحجاج المناسك على وفق أهل البيت (ع) التي بقيت بعده يستفيد بها الخلق و عين المواقيت في حدود الإحرام للحج و العمرة و المزدلفة و المشاعر و أظهر منها ما كان مخفيا و حسبك بذلك علو همة و ثبات جاش في ذلك العصر الذي ساد فيه التعصب و النصب، حيث كان يعتقد اتباع جميع المذاهب أن السيد من علماء مذهبهم، و هذه القضية تحتاج الى براعة و ذكاء كبيرين جدا، الا انه في الايام الاخيرة من رحلته افصح عن مذهب فتقاطر العلماء عليه لمناقشته فكان يرد على الجميع بما أوتي من علم و براهين رصينة.
مظهر الفضائل
جمع السيد بحر العلوم فضائل الاخلاق و التقوى و كان نموذجا بارزا لاخلاق الانبياء و كان من المصاديق البارزة في هذا المجال حتى أنشد تلميذه المعروف الشيخ كاشف الغطاء:
جمعت من الاخلاق كل فضيلة
فلا فضل الا عن جنابك صادر
و صفه صاحب اعيان الشيعة بقوله:
و قد كان على جانب عظيم من مكارم الأخلاق تقيا كبير النفس عالي الهمة سخيا مجتهدا مخلصا يكره التزلف و الرياء و يؤثر الحقائق على الظواهر و اللباب على القشور. و يعتقد السواد الأعظم إلى الآن انه من ذوي الأسرار الالهية الخاصة و من أولي الكرامات و العنايات و المكاشفات و مما لا ريب فيه أنه كان ذا نزعة من نزعات العرفاء و الصوفية يظهر ذلك من زهده و ميله إلى العبادة و السياحة.[3]
كان شديد التواضع يحفظ للآخرين حرمتهم فكان لهم أبا رحيماً، و كان اعجوبة في كلامه و حركاته و سكناته، و كأنه ملك يمشي على الارض، فكان دائم الذكر لله تعالى.
نال مرتبة من السمو الاخلاقية يعجز الاخرون عن إدراكها، و كان يقسم اوقاته بين العمل و العبادة و الذكر و كان لمسجد الكوفة نصيب من وقته الشريف للمناجاة و التهجد هناك.
و كان يحث تلامذته على العبادة و التهجد كثيراً فكان يتألم كثيراً اذا ما شاهد أحد تلامذته يقصر في ذلك، حتى أنه اعترض على تلك الظاهرة فاحتجب عن التدريس لعدة أيام و لما ارسلوا من يستفسر عن سبب انقطاعه قال: الطالب الذي لا يقوم الليل و لا يتضرع الى الله تعالى لا يستحق الدرس، و ها أنا ذا اجوب ليلا شوارع النجف فلم اسمع مناجاة الطلاب و لا تضرعهم الى الله تعالى!!! فأحدث موقفه هذا انقلابا كبيراً في نفوسهم فاحيوا الليل بالعبادة و التهجد و عندئذ عاد الى الدرس و القاء المحاضرات.
كان السيد كثير الاهتمام بشؤون الفقراء و المحتاجين فكان يحمل اليهم الطعام في جوف الليل ليسد بذلك رمقهم و يشبع جوعهم.
سر العشق
و لمعرفة المزيد من عظمة و مكانة السيد بحر العلوم نشير الى نماذج من لقائه من لقائه بالإمام المهدي (عج)، منها:
الف: صاحب الناقة
نقل جناب المولى السلماسي(طاب ثراه) عن ناظر أمور السيد بحر العلوم في أيام مجاورته بمكّة قال: كان(رحمه اللّه) مع كونه في بلد الغربة منقطعا عن الأهل و الأخوة، قويّ القلب في البذل و العطاء، غير مكترث بكثرة المصارف.
فاتّفق في بعض الأيام أن لم نجد الى درهم سبيلا فعرّفته الحال، و كثرة المؤنة، و انعدام المال، فلم يقل شيئا.
و كان دأبه أن يطوف بالبيت بعد الصبح و يأتي الى الدار، فيجلس في الغرفة المختصّة به و نأتي اليه بغليان فيشربه، ثم يخرج الى غرفة اخرى يجتمع فيها تلامذته، من كلّ المذاهب فيدرس لكلّ على مذهبه.
فلمّا رجع من الطواف في اليوم الذي شكوته في أمسه نفوذ النفقة، و أحضرت الغليان على العادة، فاذا بالباب يدقّه أحد، فاضطرب أشدّ الاضطراب، و قال لي:
خذ الغليان و أخرجه من هذا المكان.
و قام مسرعا خارجا عن الوقار و السكينة و الآداب، ففتح الباب و دخل شخصٌ جليل في هيئة الأعراب، و جلس في تلك الغرفة و قعد السيد عند بابها، في نهاية الذلّة و المسكنة، و أشار اليّ أن لا اُقرِّب اليه الغليان.
فقعدا ساعة يتحدّثان، ثمّ قام، فقام السيد مسرعا و فتح الباب،و قبّل يده و أركبه على جمله الذي أناخه عند الباب، و مضى لشأنه و رجع السيد متغير اللون و ناولني براة، و قال: هذه حوالة على رجل صرّاف، قاعد في جبل الصفا، فاذهب اليه و خذ منه ما أحيل عليه.
قال: فأخذتها و أتيت بها الى الرجل الموصوف، فلمّا نظر اليها قبّلها و قال: عليّ بالحماميل، فذهبت و أتيت بأربعة حماميل فجاء بالدارهم من الصنف الذي يقال له ريال فرانسة، يزيد كلّ واحد على خمسة قرانات العجم و ما كانوا يقدرون على حمله، فحملوها على أكتافهم،و أتينا بها الى الدار.
و لمّا كان في بعض الأيّام، ذهبت إلى الصرّاف لأسأل منه حاله، و ممّن كانت تلك الحوالة فلم أر صرّافا و لا دكّانا.
فسألت من بعض من حضر في ذلك المكان عن الصرّاف، فقال:ما عهدنا في هذا المكان صرّافا أبدا و انّما يقعد فيه فلان.
فعرفت انّه من أسرار الملك المنّان، و ألطاف وليّ الرحمان.[4]
ب: كالبحر الموّاج
يقول العلامة المرحوم الميرزا القمي صاحب كتاب (القوانين): كنت أتباحث مع العلامة بحر العلوم في درس الاستاذ الوحيد البهبهاني و كنت غالبا ما اقرّر البحث له الى ان جئت الى ايران، ثم اشتهر شيئا فشيئا علم السيد بحر العلوم بجميع الاصقاع، و كنت استغرب و اتعجب من ذلك الى ان وفقني اللّه تعالى لزيارة العتبات المقدسة فعندما تشرفت بزيارة النجف الاشرف التقيت بالسيد و طرحت مسألة فرأيت السيد بحر العلوم بحراً موّاجا و عميقاً من العلوم.
فقلت:سيدنا عندما كنّا نتباحث معا لم تكن لك هذه المرتبة، و كنت تستفيد منّي، و لكنك الآن مثل البحر؟!
فقال: يا ميرزا هذه من الاسرار، اقولها لك فلا تحدث بها أحدا ما دمت حيا و اكتمها.
و كيف لا أصير كذلك و قد الصقني سيدي بصدره الشريف في ليلة من الليالي في مسجد الكوفة.[5]
ج. تلاوة القرآن
قال الميرزا حسين اللاهيجاني الرشتي:
حدّثني العالم الربّاني و المؤيد من السماء المولى زين العابدين السلماسي ، قال:
ان السّيد الجليل بحر العلوم طاب ثراه ورد يوما في حرم أمير المؤمنين عليه آلاف التحيّة و السّلام فجعل يترنم بهذا المصرع:
(چه خوش است صوت قرآن*** زتو دل ربا شنيدن)
كم هو جميل صوت القرآن من***لسانك انه حقا يخطف القلوب.
فسُئل رحمه اللّه عن سبب قرائته هذا المصرع، فقال:
لما وردت في الحرم المطهر رأيت الحجّة (ع)جالسا عند الرأس يقرأ القرآن بصوت عال، فلمّا سمعت صوته قرأت المصرع المزبور، و لما وردت الحرم ترك قراءة القرآن، و خرج من الحرم الشريف.[6]
وفاته:
ترك السيد بحر العلوم التدريس بسبب المرض و انشغل بالمطالعة و التأليف في بيته الى أن لبّى نداء ربّه يوم 24 من ذي الحجة أو رجب عام 1212 هـ، و كان لرحيله (ره) الاثر العظيم في العالم الاسلامي و احزن قلوب الشيعة و المحبين له، و قد شيع تشيعا مهيبا بعده صلّي عليه ثم اودع الثرى الى جنب مرقد الشيخ الطوسي في النجف الاشرف.
[1] نقلا عن کتاب گلشن ابرار، اعداد و تدوين: مجموعة من الباحثين في الحوزة العلمية قم، ج 1، ذیل عنوان: السید بحر العلوم، درياى بى ساحل= السيد بحر العلوم بحر مترامي الاطراف. (بتصرف).
[2] الشيخ عباس القمي، الفوائد الرضوية، ص 676؛ النوري، میرزا حسین، مستدرك الوسائل، ج 3، ص 383؛ التنکابني، میرزا محمد، قصص العلماء، ص 168؛ امین العاملي، محسن، اعيان الشيعة، ج 10، ص 158.
[3] انظر اعيان الشيعة، ج10، ص 158.
[4] الشيخ عباس القمي، منتهى الآمال، ج 2، ص 547، الفوائد الرضوية، ص 680.
[5] شریف رازي، محمد، گنجينه دانشمندان، ج 8، ص 371.
[6] الفوائد الرضوية، ص 682.