Please Wait
الزيارة
7703
7703
محدثة عن:
2014/10/28
خلاصة السؤال
طرح الفيزياوي الانجليزي ستيفن هوكينغ مؤخراً نظريته المعروفة بنظرية الكم و التي تنتهي بفكرة مؤداها غياب الخالق و عدم الحاجة له، فما هو موقف علماء المسلمين من هذه النظرية؟
السؤال
طرح الفيزياوي الانجليزي المشهور ستيفن هوكينغ (Stephen Hawking) نظريته المحيّرة و القائمة على غياب الخالق و أن الكون خلق بصورة تلقائية بلا حاجة إلى خالق اعتماد نظرية الكم (Quantum Theory) و الجاذبية الأرضية. فما هو موقف علماء المسلمين و مفكريهم من هذه النظرية؟ و هل هناك ردود صدرت ضدها؟
الجواب الإجمالي
1. لا توجد في العلم بمعنى scienceمقولة قطعية بنسبة 100/0 و ليس نظرية هوكينغ بمستثناة عن تلك القاعدة. و من هنا لو تحررننا من الصخب و الضجيج الإعلامي الذي إفتعلته وسائل الاعلام المرئية والمكتوبة نجد أن صاحب النظرية نفسها لم يجزم بقطعيتها.
2. إن مساعي هوكينغ في الوصول إلى نظرية موحدة تعالج جميع الاشكاليات و تفسّر جميع الظواهر تمثل في ذاتها جهداً طموحاً، و مواصلة لمسيرة انشتاين و تحقيق الحلم الذي كان يروم الوصول إليه، و هي في الحقيقة عين الانطلاق من الكثرة إلى الوحدة التي طرحها الفلاسفة الاسلاميون.
3. إن حركة هوكينغ هذه تمثل خلطاً بين المباحث الفلسفية و العلمية؛ فباعتباره عالم فيزياء يكون خاضعا لقوانين و قواعد المادة و الطبيعة و أن مجال عمله رصد العلاقة بين الظواهر المادية و ضررورة تحركه في إطار يمكن رصده من خلال التجربة و وفقا لقواعد الدراسات الطبيعية؛ في حين يكون تطبيق تلك المعايير على موضوع خارج نطاق المادة عملا مجانفا للصواب، و هذا هو الخطأ الكبير الذي وقع فيه الرجل؛ و ذلك لأنه عالج قضايا فلسفية بآليات و قوانين المادة، فكيف يتسنّى للطبيعي و المادي الولوج في مباحث وراء المادة إستناداً إلى قواعد و آليات مادية؟ و كيف يستنى له رصد العلاقات بين المادي و المجرّد؟ و كيف يجزم بصدور الاشياء تلقائياً و ينفي وجود القوة المجردة عن المادة؟
4. لقد أخطأ هوكينغ في تصوره لله تعالى حيث وضع هوكنيغ اللهَ في عداد سائر العلل، و مع معرفة العلة المادية للاشياء تنتفي العلل الأخرى و منها وجود الله. و الحال أن هذه الصورة للإله لا تنطبق إلا على الإله الاسطوري و التخيلي؛ لا الإله الحقيقي و العرفاني و هذه في الحقيقة هي المشكلة الكبرى للثقافة الغربية التي يجهل الكثير منهم الفهم الاسلامي و العرفاني الدقيق لمفهوم الإله.
5. لو سلمنا جدلا بأنّ النظرية المذكورة تزعم انتفاء الحاجة لخالق للكون فإنّ ذلك لا يؤدي إلى حصول أدنى خدشة في الإيمان الديني؛ لعدم انحصار سبل معرفة الله تعالى في رصد الأمور الطبيعية و المادية و بحسب التعبير القرآني الآيات الآفاقية، بل يمكن اعتماد الدليل الأنفسي الذي هو اعمق دلالة على وجود الله انطلاقا من ذات الانسان و عشقه له تعالى والذي يعد من البراهين التي لا تتزعزع.
2. إن مساعي هوكينغ في الوصول إلى نظرية موحدة تعالج جميع الاشكاليات و تفسّر جميع الظواهر تمثل في ذاتها جهداً طموحاً، و مواصلة لمسيرة انشتاين و تحقيق الحلم الذي كان يروم الوصول إليه، و هي في الحقيقة عين الانطلاق من الكثرة إلى الوحدة التي طرحها الفلاسفة الاسلاميون.
3. إن حركة هوكينغ هذه تمثل خلطاً بين المباحث الفلسفية و العلمية؛ فباعتباره عالم فيزياء يكون خاضعا لقوانين و قواعد المادة و الطبيعة و أن مجال عمله رصد العلاقة بين الظواهر المادية و ضررورة تحركه في إطار يمكن رصده من خلال التجربة و وفقا لقواعد الدراسات الطبيعية؛ في حين يكون تطبيق تلك المعايير على موضوع خارج نطاق المادة عملا مجانفا للصواب، و هذا هو الخطأ الكبير الذي وقع فيه الرجل؛ و ذلك لأنه عالج قضايا فلسفية بآليات و قوانين المادة، فكيف يتسنّى للطبيعي و المادي الولوج في مباحث وراء المادة إستناداً إلى قواعد و آليات مادية؟ و كيف يستنى له رصد العلاقات بين المادي و المجرّد؟ و كيف يجزم بصدور الاشياء تلقائياً و ينفي وجود القوة المجردة عن المادة؟
4. لقد أخطأ هوكينغ في تصوره لله تعالى حيث وضع هوكنيغ اللهَ في عداد سائر العلل، و مع معرفة العلة المادية للاشياء تنتفي العلل الأخرى و منها وجود الله. و الحال أن هذه الصورة للإله لا تنطبق إلا على الإله الاسطوري و التخيلي؛ لا الإله الحقيقي و العرفاني و هذه في الحقيقة هي المشكلة الكبرى للثقافة الغربية التي يجهل الكثير منهم الفهم الاسلامي و العرفاني الدقيق لمفهوم الإله.
5. لو سلمنا جدلا بأنّ النظرية المذكورة تزعم انتفاء الحاجة لخالق للكون فإنّ ذلك لا يؤدي إلى حصول أدنى خدشة في الإيمان الديني؛ لعدم انحصار سبل معرفة الله تعالى في رصد الأمور الطبيعية و المادية و بحسب التعبير القرآني الآيات الآفاقية، بل يمكن اعتماد الدليل الأنفسي الذي هو اعمق دلالة على وجود الله انطلاقا من ذات الانسان و عشقه له تعالى والذي يعد من البراهين التي لا تتزعزع.
الجواب التفصيلي
نحاول توزيع الجواب عن السؤال على مرحلتين، نتعرض في الأولى منهما إلى تقرير نظرية هوكينغ و تسجيل ملاحظات نقديه عليها، و في المرحلة الثانية نشير إلى النظريات المطروحة من قبل علماء المسلمين و متكلميهم في هذا المجال.
المرحلة الأولى: هوكينغ و نظريته
1. نبذة عن حياته
ستيفن هوكينغ (Stephen Hawking) ولد في أكسفورد، إنجلترا عام 1942 م ويعرف بأنه"من أبرز علماء الفيزياء النظرية على مستوى العالم، درس في جامعة أكسفورد و حصل منها على درجة الشرف الأولى في الفيزياء، و تابع دراساته في جامعة كامبريدج للحصول على الدكتوراة في علم الكون و الفلك. له أبحاث نظرية في هذا العلم و أبحاث في العلاقة بين الثقوب السوداء و الديناميكا الحرارية، و له دراسات في التسلسل الزمني" تمتد جهوده العلمية إلى أربعين عام. يعتبره البعض من أبرز الفيزياويين بعد انتشتاين بل وصفه البعض بانشتاين الثاني. و قد بذل جهوداً كبيرة في مجال نظرية الكم و محاولة تتميم النظرية النسبية لانشتاين.
أثارت نظريته حول غياب الخالق، قدرًا هائلاً من الجدل في الوسط العلمي، و رفع درجة حرارة الجدل بين العلوم و الدين بقوله في كتابه "المشروع العظيم "The Grand Design" إن الفيزياء الحديثة لا تتفق على الإطلاق مع القول إنّ للكون خالقًا. و أن علمي الفيزياء و الرياضيات قادران على الخروج بقانون علمي أو معادلة تثبت عدم الحاجة إلى فكرة الخالق.
2. نظريات هوكينغ العلمية
إهتم هوكينغ في كتابه "تاريخ الزمن" الذي اصدره سنة 1988م بقضية منشأ العالم و مبدأه و قد اشتهر شهرة عظيمة بسبب أبحاثه التي سلط الضوء فيها على الثقوب السوداء و الفلك و نظرية الكم، معقتداً و لأوّل مرّة بان الثقوب السوداء هذه تستطيع و تحت ظروف خاصة أن تفيض ذرات متناهية الصغر عرفت في الوسط العلمي بإشعاع هوكينغ.
و ذهب في كتابه "المشروع العظيم" The Grand Design إلى القول بإن الفيزياء الحديثة لا تتفق على الإطلاق مع القول إن للكون خالقًا.
ويقول في الكتاب، الذي كتبه بالاشتراك مع الفيزيائي الأميركي لينارد ملودينا ونشر في شهر أيلول/سبتمبر 2010، أنه مثلما أزاحت النظرية الداروينية الحاجة إلى خالق في مجال علم الأحياء (البيولوجيا)، فإن عددًا من النظريات الجديدة أحالت أي مفهوم لخالق للكون مفرّغًا من المعنى إذ لا حاجة إلى خالق في المقام الأول.
وفي كتابه، يعلن هوكينغ أيضًا موت الفلسفة كعلم. و يقول إن الفيزياء توشك الآن على كتابة "نظرية كلّ شيء" أو "النظرية الشاملة" القادرة على شرح خاصيات الطبيعة كافة. و لطالما بقيت نظرية كهذه، يمضي قائلا، حلماً يراود الفيزيائيين منذ زمن آينشتاين، لكنّ المشكلة ظلت هي المصالحة بين نظرية الكم quantum theory، التي تشرح عالم ما تحت الذرة، مع الجاذبية التي تشرح الكيفية التي تتداخل بها الأشياء على المستوى الكوني.
و يقول هوكينغ إن نظرية إمM-theory-المشروحة في الإطار- و هي تقع بين ما يعرف بـ”نظريات الأوتار” – هي التي ستحقق هذا الهدف. و يكتب قائلا: “نظرية إم هي النظرية الموحدة التي كان اينشتاين يأمل في العثور عليها. و ثمة انتصار عظيم يتمثل في حقيقة أننا، نحن البشر – و كوننا مجرد مجموعات من الجزئيات الأساسية للطبيعة – قادرون على أن نصبح بكلّ هذا القرب من فهم القوانين التي تحكمنا و تحكم الكون المحيط بنا”.
ويمضي هوكينغ قائلاً إن "نظرية إم" تتعدى مجرد كونها معادلة رئيسية لتصبح "عائلة بأكملها من النظريات التي تعيش جنبا إلى جنب داخل إطار نظري متماسك، تمامًا كمختلف الخرائط السياسية و الجغرافية و الطوبوغرافية التي تصف رقعة ما على الأرض كلّ منها في مجال تخصصه و لكن بدون أن يناقض بعضها بعضًا. هذه هي الحال الذي ستؤول إليها نظرية إم عندما يتعلق الأمر بمختلف مظاهر العالم المادي".
استنادًا إلى كل هذا يقول هوكينغ: “لأن ثمة قانونًا مثل الجاذبية، صار بمقدور الكون أن يخلق نفسه من عدم. و الخلق العفوي هذا هو السبب في أن هناك شيئًا بدلاً من لا شيء، و في وجود الكون ووجودنا نحن”. و يمضي قائلاً: “عليه يمكن القول إن الكون لم يكن بحاجة إلى إله يشعل فتيلا ما لخلقه”، و إن ما يعرف باسم “الانفجار الكبير” Big Bang لم يكن سوى عواقب حتمية لقوانين الفيزياء. و يضيف أن الأرجح هو وجود أكوان أخرى تسمى “الكون المتعدد Multiverseخارج مجموعتنا الشمسية. فإذا كانت نية الإله هي خلق الجنس البشري، فهذا يعني أن ذلك الكون المتعدد بلا غرض يؤديه و بالتالي فلا لزوم له[1].
و الجدير بالذكر هنا أن بعض الفيزياويين رفض الاذعان بهذه الوحدة و منهم النمساوي الشهير "ولفانج باولي".
3. هوكينغ والايمان بالله
من الملاحظ أن هوكينغ كان قبيل نشر كتابه"المشروع العظيم" The Grand Design الذي اصدره في السابع من أيلول سنة 2010م من المؤمنين بأنّ فكرة وجود خالق للكون تنسجم مع معطيات العلم الحديث. غير أنه في كتابه المشروع العظيم الذي كتبه بالاشتراك مع الفيزيائي الأميركي لينارد ملودينا ذهب إلى نظرية مخالفة تماما لما ذهب إليه هنا متحديا النظرية التي طرحها الفيزياوي الكبير اسحاق نيوتن المتمثلة باستحالة كون العالم وليد حالة من اللا نظم و ليس وليد الفوضي بل هو من صنع خالق مدبر.
4. نقد آراء هوكينغ الأخيرة
1. لا توجد في العلم بمعنى scienceمقولة قطعية بنسبة 100/0 و ليس نظرية هوكينغ بمستثناة عن تلك القاعدة. و من هنا لو تحررننا من الصخب و الضجيج الإعلامي الذي إفتعلته وسائل الاعلام المرئية والمكتوبة نجد أن صاحب النظرية نفسها لم يجزم بقطعيتها كما يظهر من كلامه حول نظرية الإنفجار الكوني الانفجار الكبير"Big Bang". يضاف إلى ذلك أن الفيزياويين ما زالوا يفترضون وجود نظريات أخرى تختلف عن النظرية المطروحة، و لم يرفعوا اليد عن نظرية المجال الموحد(Unified Field Theory) و نظرية إم M(M-Theory). و مازالوا يبحثون عن حلّ معضلة الترابط بين نظرية ميكانيكيا الكم (Quantum Mechanics) والنظرية النسبية (Theory Of Relativity). الأمر الذي يحكي عدم جزمهم بأيّ من النظريات المطروحة.
2. إن مساعي هوكينغ في الوصول إلى نظرية موحدة تعالج جميع الاشكاليات و تفسّر جميع الظواهر تمثل في ذاتها جهداً طموحاً، و مواصلة لمسيرة انشتاين و تحقيق الحلم الذي كان يروم الوصول إليه، و هي في الحقيقة عين الانطلاق من الكثرة إلى الوحدة التي طرحها الفلاسفة الاسلاميون. نعم، لما كان موضوع القضية من الأمور المادية عند هوكينغ يمكن القول بأنّ ما ذهب إليه يقترب مع ما طرحه الحكماء اليونانيون قبل الميلاد في خصوص المادة الأولى حيث ذهب البعض منهم إلى القول بأنّ العالم خلق من الماء كمادة أولى فيما اختار آخرون أنه منشأه الهواء.[2] و عليه لا تنافي بين التسليم بالنظرية و القول بوجود خالق للكون.
3. إن إنكار هوكينغ لمبدأ الوجود (الله) يصطدم بعقبات كثيرة منها:
إولاً: إن حركته هذه تمثل خلطاً بين المباحث الفلسفية و العلمية؛ فباعتباره عالم فيزياء يكون خاضعا لقوانين و قواعد المادة و الطبيعة و أن مجال عمله رصد العلاقة بين الظواهر المادية و ضررورة تحركه في إطار يمكن رصده من خلال التجربة و وفقا لقواعد الدراسات الطبيعية؛ في حين يكون تطبيق تلك المعايير على موضوع خارج نطاق المادة عملا مجانفا للصواب، و هذا هو الخطأ الكبير الذي وقع فيه الرجل؛ و ذلك لأنه عالج قضايا فلسفية بآليات و قوانين المادة، فكيف يتسنّى للطبيعي و المادي الولوج في مباحث وراء المادة إستناداً إلى قواعد و آليات مادية؟ و كيف يستنى له رصد العلاقات بين المادي و المجرّد؟ و كيف يجزم بصدور الاشياء تلقائياً و ينفي وجود القوة المجردة عن المادة؟ و بحسب تعبير العلامة الشعراني: إن البحث عن المبدأ و آثار و علل الحياة من المباحث التي تقع مسؤوليتها على كاهل الفلاسفة؛ خلافا للبحث عن بعض الآثار الخاصة فيتكفل بها علم الأحياء و نظائره من علوم الحياة.[3]
و من هنا يرى بعض الباحثين أنّ إحدى أسباب الأزمات المعاصرة تكمن في هيمنة المنحى العلمي(scienticism) على الكثير من الباحثين و المفكريين التجريبيين، معتقدين بأن العلوم التجريبية هي النافذة الوحيدة على المعارف و هي المصدر الفريد الذي ينبغي أن يرتوي منه الباحثون و تعالج من خلاله القضايا الشائكة على جميع المستويات و السبيل الوحيد للوصول إلى الحقيقة. علما أن نظرية القول بضرورة المنحى العلمي و الركون إلى التجربة في حد ذاتها تفتقر إلى الدليل و لا يمكن إثباتها وفقا لقوانين المادة لعدم خضوعها للتجربة العلمية.
فقد وقع التجريبيون (من الفيزيائيين و علماء الأحياء و النفس و...) تحت تأثير الانبهار بالعلوم و الركون إلى معطياتها مازجين بين العلم و الهيمنة العلمية مما وفر الأرضية للوقوع في اشكالات خطيرة و خلط بين دائرتي الماديات و المجرّدات، و بين الطبيعة و ما ورائها.[4]
و من هنا فإن القانون الذي ذكره هوكينغ و إن إدى إلى نتائج عقدية (Theological) و خلق ردّة فعل من قبل أساتذة جامعة كارمبج قسم الإلهيات (Faculty of Divinity, University of Cambridge) إلا أنّ ذلك لا يخرج القضية من دائرة العلوم التجريبية و لا يمنحه حق الخوض في قضايا فلسفية أو دينية بلغة تجريبية صرفة.
ثانياً: لقد أخطأ هوكينغ في تصوره لله تعالى حيث وضع هوكنيغ اللهَ في عداد سائر العلل، و مع معرفة العلة المادية للاشياء تنتفي العلل الأخرى و منها وجود الله. و الحال أن هذه الصورة للإله لا تنطبق إلا على الإله الاسطوري و التخيلي؛ لا الإله الحقيقي و العرفاني و هذه في الحقيقة هي المشكلة الكبرى للثقافة الغربية التي يجهل الكثير منهم الفهم الاسلامي و العرفاني الدقيق لمفهوم الإله، بالرغم من أنّه يستحيل على العقل الانساني القاصر إدراك حقيقة كنه الإله[5] كما صرّح بذلك الإمام علي عليه السلام حينما قال: «الَّذِي لَا يُدْرِكُهُ بُعْدُ الْهِمَمِ وَ لَا يَنَالُهُ غَوْصُ الْفِطَن».[6]
و عليه فان الشيء الميسر للانسان و المساحة التي يمكن له التحرّك فيها بالنسبة إلى معرفة الله تعالى هي معرفة ذاته تعالى عن طريقة التجليات والظهورات التعيّنية التي باتت تعرف بمقام الإسماء و الصفات.[7]
و على كل حال فإنّ الإله الحقيقي هو الحاضر في عمق كلّ الوجود و المتجلي في تمام شبكة العلل المادية.
و بعبارة أخرى: إنّ المؤمن الحقيقي و الموحد الواقعي هو من يجمع بين القول بوجود العلل المادية الكثيرة و بين الإيمان بوجود إله خارج نطاق المادة هو علل العلل و إليه تنتهي سلسلة العلل و المعاليل، و إنّ العالم كلّه مظهر و تجل للباري تعالى. و عليه ما ذهب إليه هوكينغ من اعدام فكرة الإله و أنه لا حاجه له بعد معرفة العلة المادية، لا تمثل إلا رؤية ساذجة و سطحية لحقيقة القضية؛ و ذلك لأنّ قانون الجاذبية و نظرية الكم التي ذكرها هوكينغ تقع ضمن سائر القوانين التي جعلها الله تعالى لعلل تكوينية لإدارة العالم و خلقه، و عليه لابد من توجيه السؤال لهوكينغ عن الفارق بين قانون الجاذبية و غيره من القوانيين و ما هي مبررات استثنائه عنده؟
و بعبارة أخرى: إنّ الايمان بوجود الله لدى الإلهيين لا ينطلق من جهلهم بسلسلة العلل و المعاليل الطبيعية، بل كلما غاص الانسان في العمق التجريبي و الطبيعي للعلوم المادية ازداد عمق إيمانه بوجود الخالق الحقيقي للكون، حيث يأخذ من نتاجات العلوم الحديثة منطلقا للتعمق العقلي و الفكري و الانتهاء إلى نتيجة مؤداها وجود علة العلة التي غير خاضعة للقوانين المادية التي تعني وجود الله تعالى لقصور المناهج التجريبة من اخضاع الاشياء غير المادية إلى مبضع جراحتها، و هذا ما أكدته الآية الكريمة «يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ»[8] و ما جاء في الآية الأخرى: «إِنَّ في خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ»[9] و تجلى ذلك واضحا في قوله تعالى «إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماء».[10]
ثالثاً: لو سلمنا جدلا بأنّ النظرية المذكورة تزعم انتفاء الحاجة لخالق للكون فإنّ ذلك لا يؤدي إلى حصول أدنى خدشة في الإيمان الديني؛ لعدم انحصار سبل معرفة الله تعالى في رصد الأمور الطبيعية و المادية و بحسب التعبير القرآني الآيات الآفاقية[11]، بل يمكن اعتماد الدليل الأنفسي الذي هو اعمق دلالة على وجود الله انطلاقا من ذات الانسان و عشقه له تعالى والذي يعد من البراهين التي لا تتزعزع.[12] و إلى هذا المعنى يشير الإمام الحسين عليه السلام بقوله: «خَسِرَتْ صَفْقَةُ عَبْدٍ لَمْ تَجْعَلْ لَهُ مِنْ حُبِّكَ نَصِيبا».[13]
و عليه فالمؤمن المنزهة عن شائبة النفاق و بالخصوص النفاق العلمي منه - الذي يعد من أشدّ أنواع النفاق- يعيش الحصانة من آفات عبادة العلم و الانبهار بالتقنيات، بعيدا عن الحداثوية التي تجعل من النتاج العلمي و التقني الغربي قدوتها التي تتحرّك و فقاً لمعطياتها و ترسم مسيرتها الدين طبقا لنتاجاته، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى دين يشوبه الشرك و النفاق. و يعد هوكينغ نموذجا واضحا لهذا الاتجاه المنبهر بالمعطيات العلمية حتى بدأت تساوره الشكوك عن خطأ نظريته عن الثقوب السوداء و التي بدأ في تطويرها عام 1997م. فكما نعرف جميعًا أن الثقوب السوداء تتولد من موت النجوم وينتج عنها قوة جذب هائلة حتى الضوء لا يستطيع الإفلات منها ولكن هوكينغ في عام 1975 قال: إن الثقوب السوداء ليست سوداء فعلًا و لكنها تشع الطاقة. و دافع عنها بقوّة و في نهاية المطالف أعلن عن خطئه في عام 2004م. و من نماذج هذا الاتجاه الكثير من العلماء الذين اصروا قبل غاليلو على ثبات الأرض و حركة الشمس حولها.
فالمتحصل: أن الراصد لطريقة البحث الفلسفي و الكلامي و الأدلة التي طرحها الفلاسفة و المتكلمون يرى بوضوح أن النظرية المذكورة عاجزة عن توجيه أيّة خدشة و أنّ أيّا منها لم تعتمد بحال من الأحوال على مقولة الانفجار العظيم.
نظرية هوكينغ لدى علماء الغرب
من المحتم لأقوال كهذه أن تثير قدرًا هائلاً من الجدل وسط العلماء من بعض أهل العلوم و أهل الدين و العامة على حد سواء. و من الطبيعي أيضا أن يرحب شخص مثل عالم الأحياء البروفيسير البريطاني رتشارددوكينغز، الذي اشتهر بكتابه "وهم الإله" (2006)، بنظرية هوكينغ إنطلاقا من إلحاده المعلن. لكن آخرين من المفكرين و العلماء و الكتاب دخلوا حلبة الجدل بين متحفظ و معارض و قارع لنواقيس الخطر. و نقتطف في ما يلي طائفة من آرائهم:
1. جورج إيليس، البروفيسير في جامعة كيب تاون ورئيس "الجمعية الدولية للعلوم والدين" يقول: إن السؤال لا يتعلق بما إن كان هوكينغ على خطأ أو صواب. و يعلن: "مشكلتي الكبرى مع ما ذهب إليه هي أنه يقدم للجمهور أحد خيارين: العلوم من جهة و الدين من الجهة الأخرى. وسيقول معظم الناس: "حسنا.. نختار الدين"، و هكذا تجدالعلوم أنها الخاسرة".
2. فرانك كلوز، و هو مثل هوكينغ فيزيائي نظري بجامعة أوكسفورد يذهب إلى القول: "بالنظر إلى العدد الهائل من النجوم و الكواكب في الكون المعروف لدينا، فيمكن التساؤل حول فعالية أي خالق لها. و لكن إذا كان الغرض الوحيد هو خلقي و خلقك و خلق ستيفن هوكينغ، أما كانت مجموعة شمسية واحدة تكفي لذلك؟
2. غراهام فارميلو، بروفيسير الفيزياء النظرية بجامعة نورث إيسترن الأميركية و كبير الباحثين بالزمالة في متحف العلوم بلندن يقول: "يبدو أن هوكينغ يعتقد أن بالوسع تبني نظرية إم بدلا عن فكرة وجود خالق للكون. و الخبراء يطمئنونا إلى الاحتمالات الهائلة التي تفتحها هذه النظرية، و أنا على استعداد لتصديقهم. لكن إحدى المشاكل الكبرى المتعلقة بهذه النظرية هي أن اختبارها يظل غاية في العسر إلى أن يتمكّن الفيزيائيون من بناء مسرِّع للجزيئات في حجم مجرّة كاملة".
ويضيف فارميلو قوله: "حتى لو استطاع هؤلاء إيجاد بديل لهذا المسرّع و نجحت نظرية إم في كلّ الاختبارات، ستظل أسباب الترتيب الحسابي الكامن في قلب الترتيب الكوني لغزًا غامضًا لا يخضع للتفسير. و من الطبيعي أن يجتذب موضوع الدين و العلوم أعدادًا هائلة من الناس، و لذا فهو أفضل نوع من الدعاية والوسيلة الأسرع لبيع كتاب ما".
3. بن ميلر، ممثل وكوميدي بريطاني يُعتبر فيزيائياً أيضاً، و هو يتناول الأمر من زاوية خفيفة نوعا بقوله: "نظرية إم غامضة إلى حد أن لا أحد يعلم ما الذي يشير إليه حرف إم هذا. (…) وهي توحي بأن ثمة 11 بعدًا زمنيًا – مكانيًا في الكون، و أن هذه الأبعاد هي التي تقرر ترتيب الثوابت الأساسية في الطبيعة… لكن ما هو السبيل لفهم هذه الأبعاد و هذا الترتيب؟ لا فكرة لدي!".
المرحلة الأولى: هوكينغ و نظريته
1. نبذة عن حياته
ستيفن هوكينغ (Stephen Hawking) ولد في أكسفورد، إنجلترا عام 1942 م ويعرف بأنه"من أبرز علماء الفيزياء النظرية على مستوى العالم، درس في جامعة أكسفورد و حصل منها على درجة الشرف الأولى في الفيزياء، و تابع دراساته في جامعة كامبريدج للحصول على الدكتوراة في علم الكون و الفلك. له أبحاث نظرية في هذا العلم و أبحاث في العلاقة بين الثقوب السوداء و الديناميكا الحرارية، و له دراسات في التسلسل الزمني" تمتد جهوده العلمية إلى أربعين عام. يعتبره البعض من أبرز الفيزياويين بعد انتشتاين بل وصفه البعض بانشتاين الثاني. و قد بذل جهوداً كبيرة في مجال نظرية الكم و محاولة تتميم النظرية النسبية لانشتاين.
أثارت نظريته حول غياب الخالق، قدرًا هائلاً من الجدل في الوسط العلمي، و رفع درجة حرارة الجدل بين العلوم و الدين بقوله في كتابه "المشروع العظيم "The Grand Design" إن الفيزياء الحديثة لا تتفق على الإطلاق مع القول إنّ للكون خالقًا. و أن علمي الفيزياء و الرياضيات قادران على الخروج بقانون علمي أو معادلة تثبت عدم الحاجة إلى فكرة الخالق.
2. نظريات هوكينغ العلمية
إهتم هوكينغ في كتابه "تاريخ الزمن" الذي اصدره سنة 1988م بقضية منشأ العالم و مبدأه و قد اشتهر شهرة عظيمة بسبب أبحاثه التي سلط الضوء فيها على الثقوب السوداء و الفلك و نظرية الكم، معقتداً و لأوّل مرّة بان الثقوب السوداء هذه تستطيع و تحت ظروف خاصة أن تفيض ذرات متناهية الصغر عرفت في الوسط العلمي بإشعاع هوكينغ.
و ذهب في كتابه "المشروع العظيم" The Grand Design إلى القول بإن الفيزياء الحديثة لا تتفق على الإطلاق مع القول إن للكون خالقًا.
ويقول في الكتاب، الذي كتبه بالاشتراك مع الفيزيائي الأميركي لينارد ملودينا ونشر في شهر أيلول/سبتمبر 2010، أنه مثلما أزاحت النظرية الداروينية الحاجة إلى خالق في مجال علم الأحياء (البيولوجيا)، فإن عددًا من النظريات الجديدة أحالت أي مفهوم لخالق للكون مفرّغًا من المعنى إذ لا حاجة إلى خالق في المقام الأول.
وفي كتابه، يعلن هوكينغ أيضًا موت الفلسفة كعلم. و يقول إن الفيزياء توشك الآن على كتابة "نظرية كلّ شيء" أو "النظرية الشاملة" القادرة على شرح خاصيات الطبيعة كافة. و لطالما بقيت نظرية كهذه، يمضي قائلا، حلماً يراود الفيزيائيين منذ زمن آينشتاين، لكنّ المشكلة ظلت هي المصالحة بين نظرية الكم quantum theory، التي تشرح عالم ما تحت الذرة، مع الجاذبية التي تشرح الكيفية التي تتداخل بها الأشياء على المستوى الكوني.
و يقول هوكينغ إن نظرية إمM-theory-المشروحة في الإطار- و هي تقع بين ما يعرف بـ”نظريات الأوتار” – هي التي ستحقق هذا الهدف. و يكتب قائلا: “نظرية إم هي النظرية الموحدة التي كان اينشتاين يأمل في العثور عليها. و ثمة انتصار عظيم يتمثل في حقيقة أننا، نحن البشر – و كوننا مجرد مجموعات من الجزئيات الأساسية للطبيعة – قادرون على أن نصبح بكلّ هذا القرب من فهم القوانين التي تحكمنا و تحكم الكون المحيط بنا”.
ويمضي هوكينغ قائلاً إن "نظرية إم" تتعدى مجرد كونها معادلة رئيسية لتصبح "عائلة بأكملها من النظريات التي تعيش جنبا إلى جنب داخل إطار نظري متماسك، تمامًا كمختلف الخرائط السياسية و الجغرافية و الطوبوغرافية التي تصف رقعة ما على الأرض كلّ منها في مجال تخصصه و لكن بدون أن يناقض بعضها بعضًا. هذه هي الحال الذي ستؤول إليها نظرية إم عندما يتعلق الأمر بمختلف مظاهر العالم المادي".
استنادًا إلى كل هذا يقول هوكينغ: “لأن ثمة قانونًا مثل الجاذبية، صار بمقدور الكون أن يخلق نفسه من عدم. و الخلق العفوي هذا هو السبب في أن هناك شيئًا بدلاً من لا شيء، و في وجود الكون ووجودنا نحن”. و يمضي قائلاً: “عليه يمكن القول إن الكون لم يكن بحاجة إلى إله يشعل فتيلا ما لخلقه”، و إن ما يعرف باسم “الانفجار الكبير” Big Bang لم يكن سوى عواقب حتمية لقوانين الفيزياء. و يضيف أن الأرجح هو وجود أكوان أخرى تسمى “الكون المتعدد Multiverseخارج مجموعتنا الشمسية. فإذا كانت نية الإله هي خلق الجنس البشري، فهذا يعني أن ذلك الكون المتعدد بلا غرض يؤديه و بالتالي فلا لزوم له[1].
و الجدير بالذكر هنا أن بعض الفيزياويين رفض الاذعان بهذه الوحدة و منهم النمساوي الشهير "ولفانج باولي".
3. هوكينغ والايمان بالله
من الملاحظ أن هوكينغ كان قبيل نشر كتابه"المشروع العظيم" The Grand Design الذي اصدره في السابع من أيلول سنة 2010م من المؤمنين بأنّ فكرة وجود خالق للكون تنسجم مع معطيات العلم الحديث. غير أنه في كتابه المشروع العظيم الذي كتبه بالاشتراك مع الفيزيائي الأميركي لينارد ملودينا ذهب إلى نظرية مخالفة تماما لما ذهب إليه هنا متحديا النظرية التي طرحها الفيزياوي الكبير اسحاق نيوتن المتمثلة باستحالة كون العالم وليد حالة من اللا نظم و ليس وليد الفوضي بل هو من صنع خالق مدبر.
4. نقد آراء هوكينغ الأخيرة
1. لا توجد في العلم بمعنى scienceمقولة قطعية بنسبة 100/0 و ليس نظرية هوكينغ بمستثناة عن تلك القاعدة. و من هنا لو تحررننا من الصخب و الضجيج الإعلامي الذي إفتعلته وسائل الاعلام المرئية والمكتوبة نجد أن صاحب النظرية نفسها لم يجزم بقطعيتها كما يظهر من كلامه حول نظرية الإنفجار الكوني الانفجار الكبير"Big Bang". يضاف إلى ذلك أن الفيزياويين ما زالوا يفترضون وجود نظريات أخرى تختلف عن النظرية المطروحة، و لم يرفعوا اليد عن نظرية المجال الموحد(Unified Field Theory) و نظرية إم M(M-Theory). و مازالوا يبحثون عن حلّ معضلة الترابط بين نظرية ميكانيكيا الكم (Quantum Mechanics) والنظرية النسبية (Theory Of Relativity). الأمر الذي يحكي عدم جزمهم بأيّ من النظريات المطروحة.
2. إن مساعي هوكينغ في الوصول إلى نظرية موحدة تعالج جميع الاشكاليات و تفسّر جميع الظواهر تمثل في ذاتها جهداً طموحاً، و مواصلة لمسيرة انشتاين و تحقيق الحلم الذي كان يروم الوصول إليه، و هي في الحقيقة عين الانطلاق من الكثرة إلى الوحدة التي طرحها الفلاسفة الاسلاميون. نعم، لما كان موضوع القضية من الأمور المادية عند هوكينغ يمكن القول بأنّ ما ذهب إليه يقترب مع ما طرحه الحكماء اليونانيون قبل الميلاد في خصوص المادة الأولى حيث ذهب البعض منهم إلى القول بأنّ العالم خلق من الماء كمادة أولى فيما اختار آخرون أنه منشأه الهواء.[2] و عليه لا تنافي بين التسليم بالنظرية و القول بوجود خالق للكون.
3. إن إنكار هوكينغ لمبدأ الوجود (الله) يصطدم بعقبات كثيرة منها:
إولاً: إن حركته هذه تمثل خلطاً بين المباحث الفلسفية و العلمية؛ فباعتباره عالم فيزياء يكون خاضعا لقوانين و قواعد المادة و الطبيعة و أن مجال عمله رصد العلاقة بين الظواهر المادية و ضررورة تحركه في إطار يمكن رصده من خلال التجربة و وفقا لقواعد الدراسات الطبيعية؛ في حين يكون تطبيق تلك المعايير على موضوع خارج نطاق المادة عملا مجانفا للصواب، و هذا هو الخطأ الكبير الذي وقع فيه الرجل؛ و ذلك لأنه عالج قضايا فلسفية بآليات و قوانين المادة، فكيف يتسنّى للطبيعي و المادي الولوج في مباحث وراء المادة إستناداً إلى قواعد و آليات مادية؟ و كيف يستنى له رصد العلاقات بين المادي و المجرّد؟ و كيف يجزم بصدور الاشياء تلقائياً و ينفي وجود القوة المجردة عن المادة؟ و بحسب تعبير العلامة الشعراني: إن البحث عن المبدأ و آثار و علل الحياة من المباحث التي تقع مسؤوليتها على كاهل الفلاسفة؛ خلافا للبحث عن بعض الآثار الخاصة فيتكفل بها علم الأحياء و نظائره من علوم الحياة.[3]
و من هنا يرى بعض الباحثين أنّ إحدى أسباب الأزمات المعاصرة تكمن في هيمنة المنحى العلمي(scienticism) على الكثير من الباحثين و المفكريين التجريبيين، معتقدين بأن العلوم التجريبية هي النافذة الوحيدة على المعارف و هي المصدر الفريد الذي ينبغي أن يرتوي منه الباحثون و تعالج من خلاله القضايا الشائكة على جميع المستويات و السبيل الوحيد للوصول إلى الحقيقة. علما أن نظرية القول بضرورة المنحى العلمي و الركون إلى التجربة في حد ذاتها تفتقر إلى الدليل و لا يمكن إثباتها وفقا لقوانين المادة لعدم خضوعها للتجربة العلمية.
فقد وقع التجريبيون (من الفيزيائيين و علماء الأحياء و النفس و...) تحت تأثير الانبهار بالعلوم و الركون إلى معطياتها مازجين بين العلم و الهيمنة العلمية مما وفر الأرضية للوقوع في اشكالات خطيرة و خلط بين دائرتي الماديات و المجرّدات، و بين الطبيعة و ما ورائها.[4]
و من هنا فإن القانون الذي ذكره هوكينغ و إن إدى إلى نتائج عقدية (Theological) و خلق ردّة فعل من قبل أساتذة جامعة كارمبج قسم الإلهيات (Faculty of Divinity, University of Cambridge) إلا أنّ ذلك لا يخرج القضية من دائرة العلوم التجريبية و لا يمنحه حق الخوض في قضايا فلسفية أو دينية بلغة تجريبية صرفة.
ثانياً: لقد أخطأ هوكينغ في تصوره لله تعالى حيث وضع هوكنيغ اللهَ في عداد سائر العلل، و مع معرفة العلة المادية للاشياء تنتفي العلل الأخرى و منها وجود الله. و الحال أن هذه الصورة للإله لا تنطبق إلا على الإله الاسطوري و التخيلي؛ لا الإله الحقيقي و العرفاني و هذه في الحقيقة هي المشكلة الكبرى للثقافة الغربية التي يجهل الكثير منهم الفهم الاسلامي و العرفاني الدقيق لمفهوم الإله، بالرغم من أنّه يستحيل على العقل الانساني القاصر إدراك حقيقة كنه الإله[5] كما صرّح بذلك الإمام علي عليه السلام حينما قال: «الَّذِي لَا يُدْرِكُهُ بُعْدُ الْهِمَمِ وَ لَا يَنَالُهُ غَوْصُ الْفِطَن».[6]
و عليه فان الشيء الميسر للانسان و المساحة التي يمكن له التحرّك فيها بالنسبة إلى معرفة الله تعالى هي معرفة ذاته تعالى عن طريقة التجليات والظهورات التعيّنية التي باتت تعرف بمقام الإسماء و الصفات.[7]
و على كل حال فإنّ الإله الحقيقي هو الحاضر في عمق كلّ الوجود و المتجلي في تمام شبكة العلل المادية.
و بعبارة أخرى: إنّ المؤمن الحقيقي و الموحد الواقعي هو من يجمع بين القول بوجود العلل المادية الكثيرة و بين الإيمان بوجود إله خارج نطاق المادة هو علل العلل و إليه تنتهي سلسلة العلل و المعاليل، و إنّ العالم كلّه مظهر و تجل للباري تعالى. و عليه ما ذهب إليه هوكينغ من اعدام فكرة الإله و أنه لا حاجه له بعد معرفة العلة المادية، لا تمثل إلا رؤية ساذجة و سطحية لحقيقة القضية؛ و ذلك لأنّ قانون الجاذبية و نظرية الكم التي ذكرها هوكينغ تقع ضمن سائر القوانين التي جعلها الله تعالى لعلل تكوينية لإدارة العالم و خلقه، و عليه لابد من توجيه السؤال لهوكينغ عن الفارق بين قانون الجاذبية و غيره من القوانيين و ما هي مبررات استثنائه عنده؟
و بعبارة أخرى: إنّ الايمان بوجود الله لدى الإلهيين لا ينطلق من جهلهم بسلسلة العلل و المعاليل الطبيعية، بل كلما غاص الانسان في العمق التجريبي و الطبيعي للعلوم المادية ازداد عمق إيمانه بوجود الخالق الحقيقي للكون، حيث يأخذ من نتاجات العلوم الحديثة منطلقا للتعمق العقلي و الفكري و الانتهاء إلى نتيجة مؤداها وجود علة العلة التي غير خاضعة للقوانين المادية التي تعني وجود الله تعالى لقصور المناهج التجريبة من اخضاع الاشياء غير المادية إلى مبضع جراحتها، و هذا ما أكدته الآية الكريمة «يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ»[8] و ما جاء في الآية الأخرى: «إِنَّ في خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ»[9] و تجلى ذلك واضحا في قوله تعالى «إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماء».[10]
ثالثاً: لو سلمنا جدلا بأنّ النظرية المذكورة تزعم انتفاء الحاجة لخالق للكون فإنّ ذلك لا يؤدي إلى حصول أدنى خدشة في الإيمان الديني؛ لعدم انحصار سبل معرفة الله تعالى في رصد الأمور الطبيعية و المادية و بحسب التعبير القرآني الآيات الآفاقية[11]، بل يمكن اعتماد الدليل الأنفسي الذي هو اعمق دلالة على وجود الله انطلاقا من ذات الانسان و عشقه له تعالى والذي يعد من البراهين التي لا تتزعزع.[12] و إلى هذا المعنى يشير الإمام الحسين عليه السلام بقوله: «خَسِرَتْ صَفْقَةُ عَبْدٍ لَمْ تَجْعَلْ لَهُ مِنْ حُبِّكَ نَصِيبا».[13]
و عليه فالمؤمن المنزهة عن شائبة النفاق و بالخصوص النفاق العلمي منه - الذي يعد من أشدّ أنواع النفاق- يعيش الحصانة من آفات عبادة العلم و الانبهار بالتقنيات، بعيدا عن الحداثوية التي تجعل من النتاج العلمي و التقني الغربي قدوتها التي تتحرّك و فقاً لمعطياتها و ترسم مسيرتها الدين طبقا لنتاجاته، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى دين يشوبه الشرك و النفاق. و يعد هوكينغ نموذجا واضحا لهذا الاتجاه المنبهر بالمعطيات العلمية حتى بدأت تساوره الشكوك عن خطأ نظريته عن الثقوب السوداء و التي بدأ في تطويرها عام 1997م. فكما نعرف جميعًا أن الثقوب السوداء تتولد من موت النجوم وينتج عنها قوة جذب هائلة حتى الضوء لا يستطيع الإفلات منها ولكن هوكينغ في عام 1975 قال: إن الثقوب السوداء ليست سوداء فعلًا و لكنها تشع الطاقة. و دافع عنها بقوّة و في نهاية المطالف أعلن عن خطئه في عام 2004م. و من نماذج هذا الاتجاه الكثير من العلماء الذين اصروا قبل غاليلو على ثبات الأرض و حركة الشمس حولها.
فالمتحصل: أن الراصد لطريقة البحث الفلسفي و الكلامي و الأدلة التي طرحها الفلاسفة و المتكلمون يرى بوضوح أن النظرية المذكورة عاجزة عن توجيه أيّة خدشة و أنّ أيّا منها لم تعتمد بحال من الأحوال على مقولة الانفجار العظيم.
نظرية هوكينغ لدى علماء الغرب
من المحتم لأقوال كهذه أن تثير قدرًا هائلاً من الجدل وسط العلماء من بعض أهل العلوم و أهل الدين و العامة على حد سواء. و من الطبيعي أيضا أن يرحب شخص مثل عالم الأحياء البروفيسير البريطاني رتشارددوكينغز، الذي اشتهر بكتابه "وهم الإله" (2006)، بنظرية هوكينغ إنطلاقا من إلحاده المعلن. لكن آخرين من المفكرين و العلماء و الكتاب دخلوا حلبة الجدل بين متحفظ و معارض و قارع لنواقيس الخطر. و نقتطف في ما يلي طائفة من آرائهم:
1. جورج إيليس، البروفيسير في جامعة كيب تاون ورئيس "الجمعية الدولية للعلوم والدين" يقول: إن السؤال لا يتعلق بما إن كان هوكينغ على خطأ أو صواب. و يعلن: "مشكلتي الكبرى مع ما ذهب إليه هي أنه يقدم للجمهور أحد خيارين: العلوم من جهة و الدين من الجهة الأخرى. وسيقول معظم الناس: "حسنا.. نختار الدين"، و هكذا تجدالعلوم أنها الخاسرة".
2. فرانك كلوز، و هو مثل هوكينغ فيزيائي نظري بجامعة أوكسفورد يذهب إلى القول: "بالنظر إلى العدد الهائل من النجوم و الكواكب في الكون المعروف لدينا، فيمكن التساؤل حول فعالية أي خالق لها. و لكن إذا كان الغرض الوحيد هو خلقي و خلقك و خلق ستيفن هوكينغ، أما كانت مجموعة شمسية واحدة تكفي لذلك؟
2. غراهام فارميلو، بروفيسير الفيزياء النظرية بجامعة نورث إيسترن الأميركية و كبير الباحثين بالزمالة في متحف العلوم بلندن يقول: "يبدو أن هوكينغ يعتقد أن بالوسع تبني نظرية إم بدلا عن فكرة وجود خالق للكون. و الخبراء يطمئنونا إلى الاحتمالات الهائلة التي تفتحها هذه النظرية، و أنا على استعداد لتصديقهم. لكن إحدى المشاكل الكبرى المتعلقة بهذه النظرية هي أن اختبارها يظل غاية في العسر إلى أن يتمكّن الفيزيائيون من بناء مسرِّع للجزيئات في حجم مجرّة كاملة".
ويضيف فارميلو قوله: "حتى لو استطاع هؤلاء إيجاد بديل لهذا المسرّع و نجحت نظرية إم في كلّ الاختبارات، ستظل أسباب الترتيب الحسابي الكامن في قلب الترتيب الكوني لغزًا غامضًا لا يخضع للتفسير. و من الطبيعي أن يجتذب موضوع الدين و العلوم أعدادًا هائلة من الناس، و لذا فهو أفضل نوع من الدعاية والوسيلة الأسرع لبيع كتاب ما".
3. بن ميلر، ممثل وكوميدي بريطاني يُعتبر فيزيائياً أيضاً، و هو يتناول الأمر من زاوية خفيفة نوعا بقوله: "نظرية إم غامضة إلى حد أن لا أحد يعلم ما الذي يشير إليه حرف إم هذا. (…) وهي توحي بأن ثمة 11 بعدًا زمنيًا – مكانيًا في الكون، و أن هذه الأبعاد هي التي تقرر ترتيب الثوابت الأساسية في الطبيعة… لكن ما هو السبيل لفهم هذه الأبعاد و هذا الترتيب؟ لا فكرة لدي!".
و يمضي قائلاً: "ظلت الفيزياء تجتذبني لأن لي نهماً بما تفرزه العقول العظيمة المشتغلة في مجالها. لكنني لا أريد فهم تفاصيل جاذبية الكم و دواخلها. أريد أن استمتع بالتأمل في صعوبتها و كونها عصيّة على الفهم و قصيّة عنا… مثل طفل ينظر إلى النجوم في السماء. و لهذا فسيظل سرّ الكون كما هو بغض النظر عن محاولات الإنسان رفع النقاب عن مسألة الخلق. و النسبة لمعظمنا، فإن أسرار الطبيعة عديمة الفائدة في أيدينا على أي حال".[14]
المرحلة الثانية: رأي فلاسفة المسلمين في نشأة الكون
يرى الفلاسفة و المتكلمون الإسلاميّون أن الله خلق الكون من العدم، و للفلاسفة و العرفاء الاسلاميين تعبيرات مخلتفة في هذا المجال فقد ذهب ابن سينا إلى القول بأنّ خلق العالم كان ثمرة العشق الإلهي. و لم نعثر في كلمات المسلمين السابقين - لعدم معاصرتنا لهم- على ما يشير إلى اتكائهم على الفيزياء في إثبات الخالق. نعم، خاض بعض الحكماء الإسلاميين المعاصرين في هذا الأمر الخطير كالمرحوم السيد عباس معارف في بحثه الموسوم بـ «ماترژن یا ذره موج بنیادین» (Matrzhn fundamental wave or particle) استنادا إلى معطيات و أصول كل من فيزياء الكم و النظرية النسبية و نظرية Planck's constant و التوفيق بينها و بين نظرية الجوهر الفرد التي طرحها الفلاسفة الاسلاميون، ليثبت في نهاية المطاف خلق الاشياء من العدم وفقا لمعطيات العلم و الفلسفة.[15]
المرحلة الثانية: رأي فلاسفة المسلمين في نشأة الكون
يرى الفلاسفة و المتكلمون الإسلاميّون أن الله خلق الكون من العدم، و للفلاسفة و العرفاء الاسلاميين تعبيرات مخلتفة في هذا المجال فقد ذهب ابن سينا إلى القول بأنّ خلق العالم كان ثمرة العشق الإلهي. و لم نعثر في كلمات المسلمين السابقين - لعدم معاصرتنا لهم- على ما يشير إلى اتكائهم على الفيزياء في إثبات الخالق. نعم، خاض بعض الحكماء الإسلاميين المعاصرين في هذا الأمر الخطير كالمرحوم السيد عباس معارف في بحثه الموسوم بـ «ماترژن یا ذره موج بنیادین» (Matrzhn fundamental wave or particle) استنادا إلى معطيات و أصول كل من فيزياء الكم و النظرية النسبية و نظرية Planck's constant و التوفيق بينها و بين نظرية الجوهر الفرد التي طرحها الفلاسفة الاسلاميون، ليثبت في نهاية المطاف خلق الاشياء من العدم وفقا لمعطيات العلم و الفلسفة.[15]
[1]. انظر: ستيفن هوكينغ: الفيزياء الحديثة تنفي وجود خالق للكونwww.limala.ps/atemplate.php?id=143
[2]. انظر: کاپلستون، فردریك، تاریخ الفلسفة، ترجمه: مجتبوي، سید جلال الدین، ج 1، ص 31 - 38، طهران، سروش، الطبعة الرابعة، 1380ش.
[3]. حسن زاده آملي، حسن، معرفة النفس، الدفتر الثاني، ص 307، طهران، رجا،، الطبعة الأولى، 1360ش.
[4]. سعيدي مهر، محمد، دیواني، أمیر، معارف اسلامي، ج 1، ص 17، قم، نشر معارف، الطبعة الخامسة و الثلاثين، 1382ش.
[5]. طه، 110: «يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْديهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحيطُونَ بِهِ عِلْماً».
[6]. السید الرضي، محمد بن حسين، نهج البلاغة .
[7]. یزدان پناه، سید یدالله، مباني و أصول عرفان نظري، ص 312 - 318، قم، مؤسسة الإمام الخمینی(ره)، 1388ش.
[8] الروم، 7.
[9] آل عمران، 190.
[10]. فاطر، 28.
[11]لمزيد الاطلاع انظر: السؤال 1041( الفطرة و معرفة الإله) و 16927 (اثبات و إنکار وجود الله) و 716(امكان معرفة الله).
[12]. فصلت، 53: «سَنُريهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ في أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهيدٌ».
[13]. المجلسي، محمد باقر بن محمد تقي، بحار الأنوار، ج 95، ص 226، بیروت، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثانية، 1403ق.
[14]. انظر: ستيفن هوكينغ: الفيزياء الحديثة تنفي وجود خالق للكونwww.limala.ps/atemplate.php?id=143
[15]. لم تنشر الرسالة على المستوى العام.
س ترجمات بلغات أخرى
التعليقات