بحث متقدم
الزيارة
7362
محدثة عن: 2012/05/17
خلاصة السؤال
كيف عدّ القرآن الكريم الموت و عذاب جهنم من النعم الإلهية؟
السؤال
تذكر سورة الرحمن عدة آيات ثم نقول: "فبأيّ ءالاءِ ربّكما تكذّبان". لكن نجد في البين آيات لا تنسجم مع هذا الأسلوب، منها الآيات 35، 41، 44 في نفس السورة، فهل ينتفي هذا السياق في هذه الآيات، أو إن هذه الأمور المذكورة تعتبر في عداد النعم الإلهية؟ أرجو توضيح الحالة الثانية.
الجواب الإجمالي

تعدد سورة الرحمن مجموعة من النعم الإلهية و بعد ذكر كل نعمة تذكر الآية " فبأيّ ءالاءِ ربّكما تكذّبان" و كأنها تريد بهذه الآية أخذ الإقرار من المخاطب على هذه النعم. لقد  ذُكرت في هذه السور نعم مختلفة مادية و معنوية. و بيان هذه المصاديق بعنوان أنها نعم إلهية لا يكون بمعنى أنها في كل حالاتها تكون مدعاة للخير و السعادة، بل يحسن بنا لإعتبارها نعمه أو عدم إعتبارها كذلك أخذ المسألة الكلية بنظر الإعتبار. نعم، نحن في النظرة الأولى قد يصعب علينا عدّ الموت أو العذاب الإلهي في جهنم في عداد النعم الإلهية، لكن عندما نوسع رؤيتنا و ننظر إلى المسألة من كل جوانبها، نجد أن الموت في كثير من الحالات يعتبر وسيلة للوصول إلى الآمال و الأمنيات كما أنه وسيلة للفرار من هذه الدنيا المادية و الوصول إلى الله الباري تعالى، كما إذا نزل بالإنسان المؤمن العاشق.

كما أن الموت أيضاً وسيلة للتذكير بالآخرة و هذا ما يجعل الموت في عداد النعم الإلهية، و كذلك عذاب جهنم قله دور أساسي مهم في التقرب إلى الله سبحانه و ترك المحرمات، و يعتبر بحال من الأحوال له دور رادع مؤثر جداً في هذا المضمار. و في النتيجة عندما نأخذ المواضع الإيجابية في هذه المصاديق بنظر الإعتبار و عند الموازنه بينها و بين المواضع الأخرى يمكن عندئذ جعلها في عداد النعم الإلهية.

الجواب التفصيلي

توضح هذه السورة بصورة عامة النعم الإلهية المختلفة، سواء كانت مادية أو معنوية و التي تفضل بها الباري عزوجلّ على عباده و غمرهم بها و يمكن تسميتها لهذا السبب بـ "سورة الرحمة" أو "سورة النعمة" و لهذا فإنها بدأت بالإسم المبارك "الرحمن" الذي يشير إلى صنوف الرحمة الإلهية الواسعة.[1]

لكن ليس من الضروري كون المخلوق الذي يمكن جعله في عداد النعم الإلهية أن يكون في كل وجوهه مدعاة للراحة و السعادة. بل يكفي لعدة نعمة أن يكون جانب الخير فيه أكثر من جانب الشر و عندما نلحظه بصورة عامه نجد أن منفعته أكثر من ضروره، و إن كان مدعاة للعذاب في بعض الأحيان.

و يحسن بنا هنا لحاظ نفس الأمر في الآيات مجال البحث، كما يحسن بنا لحاظ كلية الموارد المذكورة حتى يمكن عندئذ الحكم بصحة عدّ هذه الموارد في عداد النعم الإلهية أم لا؟ نلاحظ في الآية 26 من سورة الرحمن " كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ" و التي هي في مجال بيان النعم الإلهية، تذكر مسألة فناء الإنسان. يذكر صاحب تفسير الأمثل عدة احتمالات لإمكان عد الموت و الفناء في عداد النعم الإلهية حیث تساءل كيف يكون الفناء نعمة إلهية؟

و للجواب عن السؤال ذكر مجموعة من الاحتمالات نشیر الی بعضها: من الممكن ان لا يكون المراد بالفناء هنا هو الفناء المطلق، و إنما هو الباب الذي يُطل منه على عالم الآخرة و الجسر الذي لا بد منه للوصول إلى دار الخلد، بلحاظ إن الدنيا بكل نعمها هي سجن المؤمن و الخروج منها هو التحرر من هذا السجن المظلم. أو إن النعم الإلهية الكثيرة ـ المذكورة سابقاً ـ يمكن أن تكون سبباً لغفلة البعض و إسرافهم فيها بأنواع الطعام و الشراب و الزينة و الملابس و المراكب ممّا يستلزم تحذيراً إلهياً للإنسان بأن هذه الدنيا ليست المستقر فالحذر كل الحذر من التعلق بها، و لا بد من الإستفادة من هذه النعم في طاعة الله ... إن هذا التنبيه و التذكير بالرحيل عن هذه الدنيا هو نعمة عظيمة".[2]

فعلى كلٍ من هذه الإحتمالات المذكورة، يمكن عدّ الموت من النعم الإلهية و يتضح أن الموت لو نظرنا إليه بنظرة كلية و بلحاظ جميع وجوهه، لا يكون إلا نعمة و عندئذ لا يمكن تخريجه من سياق هذه السورة.

أما القسم الثاني من آيات سورة "الرحمن" و التي تحتاج إلى تأمل أكثر لجعلها في عداد النعم، هي الآيات التي تتكلم عن جهنم و العذاب الإلهي. منها "يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَ نحُاسٌ فَلَا تَنتَصِرَان".[3] "يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصيِ وَ الْأَقْدَام".[4] "يَطُوفُونَ بَيْنهَا وَ بَينْ‏َ حَمِيمٍ ءَان".[5]

و هذه الآيات أيضاً يتجه إليها نفس الإشكال بل و بشكل آكد، فمن الممكن أن يعتبرها الفرد بنظرة أولية بعيدة عن الرحمة الإلهية فيكون ضمها إلى النعم الإلهية مدعاة للعجب، لكن يحسن بنا النظر إلى هذه الأمور بنظرة أعمق. و ذكر هذه الأمور كمثل الأم التي تحذر ابنها من الإفراط في الأكل بذكر الأمراض الناجمة عنه حتى يبتعد عن هذا الإشتباه. فعلى هذا، يمكن اعتبار العذاب من النعم الإلهية من هذه الجهة، و كما إن جعل العقوبات في القوانين الدولية و إجراءها من قبل قوى الشرطة و الأمن يمكن جعله في إطار استباب الأمن و النظم في المجتمع و لا يمكن إعتباره خلافاً للحق، نفس الكلام يتّجه لخلق جهنم و عذابها فلابد من فرضه امتداداً لهداية البشرية.

 


[1]  مكارم الشيرازي، ناصر، تفسير الأمثل، ج 17، 359، مدرسة الإمام علي بن أبي طالب (ع)، قم، 1427 ق.

[2]  نفس المصدر/ 17 / 397 ـ 398.

[3]  الرحمن، 35.

[4]  الرحمن، 41.

[5]  الرحمن، 44.

 

س ترجمات بلغات أخرى
التعليقات
عدد التعليقات 0
يرجى إدخال القيمة
مثال : Yourname@YourDomane.ext
يرجى إدخال القيمة
يرجى إدخال القيمة

التصنیف الموضوعی

أسئلة عشوائية

الأكثر مشاهدة

  • ما هي أحكام و شروط العقيقة و مستحباتها؟
    280259 العملیة 2012/08/13
    العقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم أسبوعه، و الافضل ان تكون من الضأن، و يجزي البقر و الابل عنها. كذلك من الافضل تساوي جنس الحيوانات المذبوح مع المولود المعق عنه في الذكورة و الانوثة، و يجزي عدم المماثلة، و الافضل أيضاً أن تجتمع فيها شرائط ...
  • كيف تتم الإستخارة بالقرآن الكريم؟ و كيف ندرك مدلول الآيات أثناء الإستخارة؟
    258835 التفسیر 2015/05/04
    1. من أشهر الإستخارات الرائجة في الوسط المتشرعي الإستخارة بالقرآن الكريم، و التي تتم بطرق مختلفة، منها: الطريقة الأولى: إِذا أَردت أَنْ تَتَفَأَّلَ بكتاب اللَّه عزَّ و جلَّ فاقرأْ سورةَ الإِخلاص ثلاث مرَّاتٍ ثمَّ صلِّ على النَّبيِّ و آله ثلاثاً ثمَّ قل: "اللَّهُمَّ تفأَّلتُ بكتابكَ و توكّلتُ عليكَ ...
  • ماهي أسباب سوء الظن؟ و ما هي طرق علاجه؟
    129631 العملیة 2012/03/12
    يطلق في تعاليمنا الدينية علی الشخص الذي يظن بالآخرين سوءً، سيء الظن، و من هنا نحاول دراسة هذه الصفه بما جاء في النصوص الإسلامية. فسوء الظن و سوء التخيّل بمعنى الخيال و الفكر السيء نسبة لشخص ما. و بعبارة أخرى، سيء الظن، هو الإنسان الذي يتخيّل و ...
  • كم مرّة ورد إسم النبي (ص) في القرآن؟ و ما هو السبب؟
    115649 علوم القرآن 2012/03/12
    ورد إسم النبي محمد (ص) أربع مرّات في القرآن الکریم، و في السور الآتية: 1ـ آل عمران، الآية 144: "وَ مَا محُمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلىَ أَعْقَابِكُمْ وَ مَن يَنقَلِبْ عَلىَ‏ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضرُّ اللَّهَ ...
  • ما الحكمة من وجود العادة الشهرية عند النساء؟
    89557 التفسیر 2012/05/15
    إن منشأ دم الحيض مرتبط باحتقان عروق الرحم و تقشّر مخاطه ما يؤدي إلى نزيف الدم. إن نزيف دم الحيض و العادة النسوية مقتضى عمل أجهزة المرأة السالمة، و إن خروجه بالرغم من الألم و الأذى و المعاناة التي تعاني منها المرأة يمثل أحد ألطاف الله الرحيم ...
  • هل يستر الله ذنوب عباده عن أبصار الآخرين يوم القيامة كما يستر عيوب و معاصي عباده في الدنيا، فيما لو ندم المرء عن ذنبه و تاب عنه؟
    61041 الکلام القدیم 2012/09/20
    ما تؤكده علينا التعاليم الدينية دائماً أن الله "ستار العيوب"، أي يستر العيب و يخفيه عن أنظار الآخرين. و المراد من العيوب هنا الذنوب و الخطايا التي تصدر من العباد. روي عن النبي محمد (ص) أنه قال: " سألت الله أن يجعل حساب أمتي إليّ لئلا تفتضح ...
  • ما هو النسناس و أي موجود هو؟
    60369 الکلام القدیم 2012/11/17
    لقد عرف "النسناس" بتعاريف مختلفة و نظراً إلى ما في بعض الروايات، فهي موجودات كانت قبل خلقة آدم (ع). نعم، بناء على مجموعة أخرى من الروايات، هم مجموعة من البشر عدّوا من مصاديق النسناس بسبب كثرة ذنوبهم و تقوية الجانب الحيواني فيهم و إبتعادهم عن ...
  • لماذا يستجاب الدعاء أكثر عند نزول المطر؟
    57377 الفلسفة الاخلاق 2012/05/17
    وقت نزول الأمطار من الأزمنة التي يوصى عندها بالدعاء، أما الدليل العام على ذلك فهو كما جاء في الآيات و الروايات، حيث يمكن اعتبار المطر مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهية فوقت نزوله يُعتبر من أوقات فتح أبواب الرحمة، فلذلك يزداد الأمل باستجابة الدعاء حینئذ. ...
  • ما هو الذنب الذي ارتكبه النبي يونس؟ أ ليس الانبياء مصونين عن الخطأ و المعصية؟
    51625 التفسیر 2012/11/17
    عاش يونس (ع) بين قومه سنين طويلة في منطقة يقال لها الموصل من ارض العراق، و لبث في قومه داعيا لهم الى الايمان بالله، الا أن مساعيه التبليغية و الارشادة واجهت عناداً و ردت فعل عنيفة من قبل قومه فلم يؤمن بدعوته الا رجلان من قومه طوال ...
  • ما هي آثار القناعة في الحياة و كيف نميز بينها و بين البخل في الحياة؟
    47715 العملیة 2012/09/13
    القناعة في اللغة بمعنى الاكتفاء بالمقدار القليل من اللوازم و الاحتياجات و رضا الإنسان بنصيبه. و في الروايات أحيانا جاء لفظ القناعة تعبيرا عن مطلق الرضا. أما بالنسبة إلى الفرق بين القناعة و البخل نقول: إن محل القناعة، في الأخلاق الفردية، و هي ترتبط بالاستخدام المقتَصَد لإمكانات ...