Please Wait
8360
للحریة معان متعددة، و إن حدود الحریة مختلفة بلحاظ المعانی المتفاوتة لها.
1. الحریة بمعنى الاستقلال الوجودی، و هذا النوع یتعلق بالوجود المطلق و ینحصر بالذات الإلهیة التی لا تقبل أی نوع من أنواع الحدود.
2. الحریة بمعنى الاختیار، و هذا بحث فلسفی و کلامی؛ یعنی أن الإنسان مختار فی أفعاله الإرادیة، مع إمکانیة کونه محدوداً من الناحیة الحقوقیة و الشرعیة و ذلک من خلال بعض الممنوعات، و لا بد من عدم الخلط و الوقوع فی المغالطة بین هذه المعانی.
3. الحریة الحقوقیة_ الحریة فی اختیار المسکن، و الملبس، و العمل، و الزوج، و حریة العقیدة و الفکر و البیان..._ و فی نظر الإسلام و التشیع فإن حدود هذه الحریة عدم المساس و الإضرار بمصالح الناس المادیة و المعنویة فی الدنیا و الآخرة.
و الحریة المدنیة أو الاجتماعیة تحظى بالأولویة فی الأبحاث السیاسیة و تدخل فیها، و السؤال فی هذه المقالة یتلخص بالقول: إلى أی حد یمکن أن تتدخل الدولة و القانون فی مسألة فرض الحدود و القیود على حریة الأفراد؟
و الجواب عن هذا السؤال: إن الفکر السیاسی الإسلامی لا یجوّز الحریة المفرطة للإنسان و التی تؤدی إلى إفساده و خسرانه، و لا تنظر إلى الإنسان نظرة ازدراء تفرض علیه قبول أی لون من ألوان الحکومة غیر العادلة التی تهدر کرامته و تحوله من موجود حر مختار فعّال و مسؤول إلى ألعوبة و جثة هامدة دون إرادة.
فی طبیعة الإنسان و فطرته لا توجد قیمة أو شیء یضارع قیمة الحریة و الاستقلال، و لذلک إذا توفرت کل النعم و الخیرات لشخص ما و لکنه مقیّد و محدود و لا استقلال له فإنه یرفض هذه الحالة و لا یرتضیها، ویفضل الحریة و یمیل إلیها أکثر من کل ذلک.
و من أهم الأسرار التی تکمن فیها حفظ قداسة الأنبیاء و احترام الناس لهم هی حاجة البشریة إلى هذا الحق الفطری الطبیعی من جانب، و حمل الأنبیاء لهذا الشعار المقدس و الدفاع عنه و بیانه من جانب آخر، فالأنبیاء (ع) هم أو ّ ل من حمل لواء الدفاع عن هذا الحق الإنسانی الفطری، و قد أهدوا للإنسانیة معرفة هذا الحق و کیفیة الحفاظ علیه و صیانته، و ذلک من خلال الجهود الجبارة التی بذلوها فی هذا الطریق، و قد بقیت جهود الأنبیاء و جهادهم عالقة فی أذهان بنی البشر على مر العصور و تعاقب الأجیال، بینما لم یتحقق مثل هذا الخلود للمخترعین فی عالم الصناعة و الابتکار، و مع أنهم بذلوا جهوداً لرفع احتیاجات الناس المادیة إلا أن ذکرهم یتلاشى شیئاً فشیئاً عن الأذهان مع تطور العلم و تقدم الصناعة، فلا أحد فی هذا العصر یکن الاحترام و التقدیس لمخترع الزجاج فی عصر الفراعنة فی مصر، و لم یذکر اسمه فی المحافل.
و على کل حال فالحریة حق طبیعی للإنسان و حاجة تمتزج مع فطرته.
و أما بالنسبة إلى حق الحریة، فلا بد من مراعاة المسألة التالیة:
إن مفهوم الحریة من المفاهیم ذات المعانی المتعددة، و من الممکن لشخص عالما کان أو جاهلا أن یسری حکماً من أحکام أحد معانی الحریة إلی معان أخرى ، و حتى لا نقع فی الخلط و المغالطات فی موضوع معانی الحریة و أحکامها من اللازم أن نتعرف على المعانی المختلفة لمفهوم الحریة:
ألف. الحریة بمعنى الاستقلال الوجودی:
أحد معانی الحریة استقلال الموجود بشکل کامل بحیث لا یکون تحت سیطرة و نفوذ أی موجود آخر، فالذی لا یؤمن بوجود الله مثلاً، یقول: إن عالم الوجود لا یرتبط بأی شیء، و إنما یقف على قدمیه، أو بعض الذین یعتقدون بوجود الله إلا أنهم یقولون: إن الله خلق العالم ثم ترکه و شأنه، و لا حاجة للعالم إلى الله بعد خلقه، و یقولون بوجود مثل هذه الحریة للإنسان، و لکن الإسلام یرى أن هذا النوع من الحریة منحصر بالذات الإلهیة فقط، و الله وحده الذی لا یحدّه أی لون من ألوان المحدودیة الوجودیة، و هو وحده المستقل الذی لا یحتاج إلى سواه، و أما سائر الموجودات فإنها ترتبط به جمیعاً و فی أمس الحاجة إلیه.
ب. الحریة بمعنى الاختیار [1] :
المعنى الثانی للحریة الذی یرتبط أیضاً بدائرة الإلهیات و الفلسفة و الکلام و کذلک بعلم النفس الفلسفی هو الحریة مقابل الجبر، و هذا البحث موجود منذ القدم بین العلماء و أصحاب النظر. فهل إن الإنسان حر فی أعماله واقعاً و إنه مختار فیها؟ أم أنه یتخیل أنه مختار و لکنه مجبور فی الواقع لا إرادة له على نفسه؟ [2] .
توجد ثلاث نظریات فی هذا البحث:
1. الجبر و سلب الإرادة:
یقول أتباع هذه النظریة [3] : إن الإنسان لا یملک أی إرادة فی أعماله، و إنه أشبه بالآلة فی ید الصانع و واقع الأمر یتمثل بالإرادة الإلهیة.
2. التفویض:
یقول أتباع هذه النظریة [4] : إن الله خلق الإنسان و زوده بالمخ و الجهاز العصبی، و قد أوکل أعماله إلیه، و علیه فلیس لله أی تأثیر على أعمال الإنسان و سلوکه، و لا أثر للقضاء و القدر کذلک.
3. الاختیار أو الأمر بین الأمرین [5] :
لا جبر و لا تفویض، بل نوع اختیار: و هذه العقیدة اختارها الشیعة تبعاً لتعالیم أهل البیت(ع)، أی أن مصیر الإنسان مرهون به، فهو صاحب اختیار فی أعماله و سلوکه، و لکن ذلک بإرادة الله، و مع وجود الأثر للقضاء و القدر الإلهی. و معنى ذلک وجود إرادتین مؤثرتین فی عمل الإنسان (إرادة الله و إرادة الإنسان) و لا یوجد العمل إلا بوجود هاتین الإرادتین.
و من الطبیعی فإن هاتین الإرادتین لیستا فی عرض بعضهما (یعنی أنهما لیستا من قبیل تأثیر العلتین على معلول واحد) و إنهما فی طول بعضهما. و معنى ذلک کما یکون وجود أی موجود فی ظل الوجود الإلهی و قدرة کل قادر ترتبط بالقدرة الإلهیة، فکذلک الإرادة و الاختیار لکل مرید و مختار إنما هی فی ظل إرادة الله تعالى.
و الاستدلال على هذه النظریة أمر فی غایة البساطة، فمن جهة ننظر إلى التوحید فی الخالقیة و الربوبیة لله و عموم إرادته و قدرته على جمیع الأشیاء، و من جهة أخرى نتوجه إلى عدالة الله و شهادة الوجدان العام و الفطرة لدى الجمیع التی تستشعر الاختیار و الحریة عند الإنسان.
و المسألة التی یجب الالتفات إلیها أن الحریة المقصودة فی هذا البحث هی الحریة بمعناها التکوینی، الحاکی عن الواقعیة العینیة، و لا یمکن أن نطبق نتائج هذا البحث على الحریة الحقوقیة و القیمیة، فنقع فی شراک مغالطة الاشتراک اللفظی .
ج. الحریة بمعنى عدم التعلق [6] :
المعنى الثالث للحریة مفهوم یکثر استعماله فی میدان الأخلاق و العرفان و ملخصه أن على الإنسان أن لا یتعلق بالدنیا و ما فیها من مادیات و لذائذ لا صلة لها بالله تعالى، و لا بد أن یقتصر حبه و عشقه على الذات الإلهیة المقدسة، و إذا کان لأحد حب فی شیء لا بد و أن یکون فی ظل الحب الإلهی لکونه إشعاعاً من نور جماله.
و هذا المعنى للحریة یمثل معنىً قیمیاً، ولیس بمطلوب بشکل مطلق. یعنی إذا کان الإنسان حراً بتمام الحریة فی تعلقه و محبته لأی شیء و لأی شخص و حتى لله تعالى، فهذا مضاد للقیم، و هذا هو موضع الخطأ و المغالطة.
د. الحریة مقابل الرقیة (مقولة اجتماعیة):
کان شراء العبید و بیعهم رائجاً فی الزمان الأول. [7] و کان یتخذ بعض الناس من البعض عبیداً، و یستفیدون منهم فی میدان العمل و...و من الطبیعی فإن البعض کان حراً و لم یکن عبداً لأحد.
و عندما ظهر الإسلام خطى خطوات کبیرة فی مسألة تحریر العبید و وضع خططاً و إجراءات عملیة فعالة فی هذا المجال نعرض عن ذکرها طلباً للاختصار و نرجع القارئ إلى الکتب التی دونت لإیضاح هذا الموضوع.
هـ. الحریة بالمصطلح الحقوقی و السیاسی (حق الحاکمیة):
الإنسان الحر هو الإنسان الذی لا یکون خاضعاً لحاکمیة أحد، و هو الذی یعین منهجه و طریقه فی مسیرة حیاته.
هنا یوجد اتجاهان:
اتجاه یقول: لا بد أن یکون الإنسان حراً بشکل مطلق، و لا یخضع لحاکمیة أحدٍ حتى الله سبحانه.
اما الاتجاه الذی یمثل عقیدة الشیعة فیرى: لا ینبغی للإنسان أن یکون تحت حاکمیة سلطة الآخرین، و لکن ذلک لا یشمل حاکمیة الله سبحانه.
و معنى ذلک أن الحاکمیة تکون لله أصالةً و لله وحده، و لله أن ینقل هذا الحق إلى من یشاء من الناس.
و أیسر استدلال على ذلک فی القول: إن الله سبحانه خلق وجودنا المادی الفیزیائی، و نفخ فینا من روحه، إضافة إلى ذلک فقد زودنا بالنعم الکثیرة التی لا تعد و لا تحصى، من أمثال: الماء و الهواء و الطعام، و أعضاء البدن، و القدرة على التفکیر، و کل ما هو متعلق بحیاة الإنسان، و إن مالکیة الله لهذه النعم المادیة و المعنویة لا تقبل السلب منه. و حیث إن الله مالک و نحن عبید له، و بحسب حکم العقل، فإن للمالک حق التصرف فی ملکه کیف یشاء، و علیه فلله الحق فی التصرف بنا کیف ما یشاء، و یجب علینا التسلیم و الإذعان مقابل أحکامه و الطاعة المطلقة.
إضافة إلى ذلک لا یوجد لأی شخص معرفة و علم بقدر ما للخالق بخصوصیاتنا و حاجاتنا و کمالاتنا الوجودیة، لا یملک أی أحد خبرةً بالطرق و السبل التی تؤدی بنا إلى الکمال و الرقی و التقدم کما لله تعالى، إذن فالله وحده هو الذی یعلم بمصالحنا و یهیئ الأرضیة لتکاملنا. فإذا ما کنا حریصین على تحقیق مصالحنا علینا أن نتبع الله سبحانه و نطیع أوامره و نتبع المنهج الذی رسمه لنا و إراده منا، و نستسلم لحاکمیته و إرادته. [8]
و. الحریة الحقوقیة: [9]
المراد بالحریة الحقوقیة: هناک أمور فی حیاة الإنسان الاجتماعیة یتمکن الإنسان من فعلها، و لا یحق للدولة و الحکومة أن تمنعه من تحقیقها، مثل الحریة فی اختیار المسکن، و الملبس، و العمل، و اختیار الزوجة، أو حریة الفکر و البیان و العقیدة [10] و ...
و فی هذا المورد لا کلام فی أن الأصل هنا إن هذه الحریة و هذه الحقوق لیست مطلقة و أنها محدودة. و لا یوجد نظام حقوقی فی مکان من العالم قدیماً و حدیثاً یعطی حریة مطلقةً للأفراد، و بالأساس فإن وضع القانون و تدوین النظم الحقوقیة هو فی ذاته یعنی وضع الحدود و المدیات للأعمال التی یقوم بها الأفراد فی المجتمع و إنما البحث فی مسألة السر و العلة فی (تحدید الحریة).
و فی هذا العصر یقال عادة إن حدود حریة الفرد تقف عند حریة الآخرین. و ذلک یعنی أن الإنسان حر فی أن یعمل ما یرید إلا أن یصطدم ذلک بحریة الآخرین.
هذا ما یتبناه الاتجاه اللیبرالی بالنسبة لمسألة الحقوق، و أما إذا أردنا أن ندرس المسألة من وجهة النظر الإسلامیة، فالجواب: إن تعیین حدود الحریة یکون على أساس المصالح المادیة و المعنویة الدنیویة و الأخرویة بالنسبة إلى الإنسان. أی أن الشرط الأساسی للحریة فی اختیار أی عمل هو أن یکون مؤمّناً للمصالح المادیة و المعنویة بالنسبة للإنسان. [11]
و المسألة شبیهة بمسألة حریة المنتج للمواد الغذائیة أو المواد الدوائیة حیث یعطى الحریة فی إنتاج أی مادة غذائیة و دوائیة إلا أن تکون ضارة و مؤثرة على سلامة الإنسان، کما لو وجدت بعض المواد المنتجة التی تحتوی على مواد سامة و خطرة، و فی مثل هذه الحالة یمنع من الإنتاج و هنا لا مجال للکلام عن حریة التجارة، و لا یمکن لأحد أن یقول ان هذا المنع مخالف لحقوق الإنسان، و ما یعتنى به فی العالم من الضرر ما یلحق بجسم الإنسان المادی، و لکن الإسلام یذهب إلى أبعد من ذلک فیضیف إلى الضرر الجسمانی المادی الضرر الروحی المعنوی.
و النقطة الختامیة أن الحریة المدنیة أو الاجتماعیة التی تحظى باهتمام کبیر و تشکل المحور فی الدراسات السیاسیة تندرج ضمن هذه المقولة، و السؤال الأساسی فی باب الحریة الاجتماعیة: إلى أی حدٍ و مدىً تستطیع الدولة و الحکومة أن تضع حدوداً لحریة الأفراد؟
و فی الجواب عن هذا السؤال یمکن القول: بحسب الرؤیة الإسلامیة إن کل إنسان مزود بفطرة إلهیة تدعوه باتجاه الخیرات و المعنویات. [12] و لکن الإنسان موجود له طبیعة مادیة أیضاً و هی منشأ المیول الحیوانیة لدیه، و سعادة البشر کامنة فی تغلب فطرته على طبیعته، و لا بد من القول أن طبیعة الإنسان لا بد و أن تحصل على سهمها اللائق و المناسب.
و من جانب آخر وضع القانون الذی یعین المسار الدنیوی للإنسان و لا بد و أن یکون فی إطار الهدایة الإلهیة و فی ظل الوحی الربانی لأن الله هو العالم بما یصلح الإنسان و ما یفسده.
و فی إطار هذا البیان فالفکر السیاسی فی الإسلام یذهب إلى عدم تجویز الحریة المطلقة التی تنتهی بالإنسان إلى الخسران و الفساد و لا یزدری الإنسان و یفرض علیه قبول أی لون من ألوان الحکومة غیر العادلة التی تسلبه کرامته و تذهب بعزته، و تحوله من موجود مسؤول مختار فع ّ ال إلى دمیة و مخلوق مشلول لا إرادة له. [13]
المصادر المعتمدة فی تهیئة هذه المقالة:
1. النظریة الحقوقیة الإسلامیة، تألیف الأستاذ مصباح الیزدی، ص 303 _400.
2- طریق السعادة، تألیف العلامة الشعرانی، ص 97 و 98.
3- أصول الاعتقادات، تألیف أصغر قائمی، ص 87 _ 84.
4- الولایة و الدیانة، الأستاذ هادوی الطهرانی، ص 131 _ 134.
[1] . انظر المقالة: الإنسان و الاختیار، رقم السؤال 1085 (الموقع: ۱۴۷۴).
[2] . انظر المقالة: الإسلام و الجبر و الاختیار، رقم السؤال 891 (الموقع: ۱۲۳۸).
[3] . إن أکثر المجتمع السنی أو الجمیع تقریباً یعتقدون بهذه النظریة.
[4] . أصحاب هذه النظریة فئة من أهل السنة عرفوا باسم (المعتزلة) و قد انتهوا إلى الانقراض، و لیس لهذه النظریة مؤیدون الیوم.
[5] . انظر المقالة: الأمر بین الأمرین، رقم السؤال 1086 (الموقع: ۱۴۹۹).
[6] . انظر المقالة: الدین و الحریة، رقم السؤال 675 (الموقع: ۷۲۲).
[7] . ما زالت العبودیة موجودة فی بعض المجتمعات المتقدمة بشکل من الأشکال.
[8] . و هذه الحاکمیة تجلت فی نظام حکومة الإسلام (ولایة الفقیه)، یمکن الرجوع إلى المقالة: (الحریة و ولایة الفقیه).
[9] . لیس للبحث فی الحریة الحقوقیة ربط بالسلوک الفردی الصرف و الخصوصیات الشخصیة للإنسان، من جهة تحدیدها و عدم تحدیدها بالنسبة للحقوق، و إنما لها ارتباط بالأمور الحیاتیة الاجتماعیة.
. [10] انظر المقالة: حریة العقیدة و إعدام المرتد فی الإسلام، رقم السؤال 590 (الموقع: ۱۷۶۴).
. [11] انظر المقالة: الدین و الحریة، رقم السؤال 675 (الموقع: ۷۲۲).
. [12] «فِطْرَة اللَّهِ الَّتِی فَطَرَ النَّاسَ عَلَیْهَا» الروم، 30.
. [13] هادوی الطهرانی، مهدی، الولایة و الدیانة، ص133، 134.