Please Wait
7498
مع أن الله واحد و أن من المناسب أنه حین یخبر عن أفعاله أن یستعمل کلمة (أنا) و قد ورد هذا التعبیر فی القراّن مراراً، و لکن فی اللغة العربیة و بعض اللغات یستعمل المتکلم ضمیر الجمع بدل ضمیر المفرد و ذلک لاسباب متعددة منها:
1ـ أنه یرید أن یذکّر مخاطبه بعظمته.
2ـ أو یشیر إلى عظمة العمل الذی قام به.
3ـ أن یوجه الأنظار الى الاسباب التی جعلها دخیلة فی تحقیق الفعل.
فی الجواب عن السؤال یلزم ذکر مقدمتین:
المقدمة الاولى:
أورد علماء العقائد (علم الکلام الاسلامی) أدلة متعددة عقلیة على توحید الله. و توحید الله یعنی أنه هو وحده و باستقلاله و من دون حاجة منه إلى أی أحد و أی شیء یقوم بالخلق و الرزق و الهدایة و الاماتة و... و یعبر عن ذلک فی علم الکلام بالتوحید فی الخالقیة و التوحید فی الرازقیة و التوحید فی الهدایة و ... .
المقدمة الثانیة:
انه لیس معنى الکلام المتقدم انه لا یکون لأی شخص أو لأی شیء أی دخل أو أیٌ علیٌة فی الخالقیة و الرازقیة و الهدایة و أمثال ذلک، بل إن حکمة الله اقتضت ان یکون الخلق و الرزق و الهدایة بل أغلب أفعاله جاریة عن طریق أسبابها و مجاریها.[1]
و کمثال على ذلک فانه مع کونه تعالى یستطیع مباشرةً و بلا أی واسطة أن یشفی المرضى أو یشبع الجائعین أو یهدی الضالیّن و لکنه تعالى قدر على أساس حکمته أن یکون لکل عمل مجراه و أسبابه الخاصة و أن یأتی بالافعال عن طریق مجاریها، فهو یشبع الجائعین بالخبز الذی هو خلقه و یشفی المرضى بالأدویة التی هو خلقها و بواسطة الطبیب الذی خلقه هو و علمّه. و بالطبع فان الخبز و الطبیب و الدواء و کل الاسباب أنما توءثر بأذنه، فلیس لهذه الأثار منافاة مع توحید الله فی أبعاده و زوایاه المختلفة، فلیست هی شرکاء لله بل هی مخلوقات محتاجة فی وجودها و اّثارها الیه تعالى.
و الاّن و بعد الالتفات الى المسائل المتقدمة نتعرض لأصل الجواب:
بالرغم من کونه تعالى واحداً و ینبعی أن یستعمل ضمیر المفرد، اذا أراد أن یخبر عن أفعاله[2] و قد ورد مثل هذا التعبیر مراراً فی القران[3] و لکن فی اللغة العربیة و بعض اللغات الأخرى نرى المتکلم ـ أحیاناً و لاسباب متعددة ـ و بدلأً من أن یقول: (أنا) فعلت هذا الفعل, یقول: (نحن) فعلنا هذا الفعل.
نشیر فیما یلی الى بعض تلک الاسباب:
1ـ لقد استخدم القراّن لغة المحاورة المتداولة بین الناس و التی هی افضل وسیلة للارتباط بهم. و قد یستخدم الناس فی تعابیرهم المتداولة ألفاظاً خاصة بالمذکٌر مع أن المقصود هو الأنثى. و قد ورد فی القراّن أیضاً قوله تعالى: "أنتم الفقراء الى الله" فضمیر (أنتم)هو للمذکر مع ان الخطاب عام یشمل الرجل و المرأة فکل عاقل یفهم ان المقصود کل الناس لا الرجال فقط. بخصوص ضمیر الجمع و المفرد أیضاً نرى الکثیرین یستعملون ضمیر الجمع بدلاً من ضمیر المفرد؛ فمثلاً یقال: جئنا و لم نجدکم حیث ان المقصود من ضمیر (نا) و (کم)ـ اللذین هما من ضمائر الجمع ـ هو المتکلم و المخاطب المفرد، لکنه استعمل ضمیر الجمع لأجل التعظیم و الاحترام. و یستعمل ضمیر الجمع (نحن) أحیاناً من قبل الله تعالى أیضاً من باب التشریف و التعظیم.[4]
على أی حال، فان المتکلم و لکی ینبّه مخاطبه إلى عظمته یستعمل کلمة (نحن) التی تدلّ على جلالة المتکلم و عظمته بدلاً من إستعماله لکلمة (انا).
مثال من القرآن: یقول تعالى فی أول سورة الفتح: "إنا فتحنا لک فتحاً مبیناً" و قال بعض المفسرین: هنا و لأجل أن یشیر تعالى الى عظمته قال: (نحن) فتحنا مکة. و نسبة الفتح إلى نون العظمة و توصیفه بالمبین کل ذلک للاعتناء بشأن الفتح الذی یمتن به.[5]
و نفس هذه الملاحظة تأتی فی قوله تعالى: "إنا أرسلناک شاهداً...".[6]
2ـ و أحیاناً یرید المتکلم الإشارة الى عظمة العمل الذی قام به فبدلاً من أن یقول (انا) فعلت هذا یقول (نحن) فعلنا.
کقوله تعالى: "إنا أنزلناه فی لیلة القدر". أو قوله: "إنا أعطیناک الکوثر"، فهو یدل على عظمة (القران) و (الکوثر).
3ـ أحیاناً یرید الله تعالى أن یلفت أنظارنا الى الاسباب التی جعلها مؤثرة فی تحقق بعض الامور و لاجل ذلک، فبدلاً من أن یقول (أنا) فعلت ذلک یعبٌر بقوله (نحن) و لذا نقرأ فی ذیل الآیة الرابعة من سورة الرعد فی تفسیر المیزان قوله: ... فقیل" و نفضل بعضها على بعض فی الاکل". و لا یخلو التعبیر بلفظ المتکلم مع الغیر عن أشعار بان هناک أسباباً الهیة دون الله سبحانه عاملة بأمره و منتهیة الیه سبحانه.[7]
و کذلک ورد فی ذیل الآیة 61 من سورة یونس فی تفسیر الامثل قوله: ان التعبیر بصیغة الجمع فی حق الله سبحانه مع أن ذاته القدسیة أوحدیة من جمیع الجهات اشارة الى عظمة مقامه و ان دائماً له مأمورین مطیعین مستعدین لتنفیذ أمره و فی الواقع، فان الکلام لیس عن الله وحده بل عنه و عن کل هولاء المأمورین المطیعین.[8]
ملاحظة: من الممکن أن تجتمع فی آیة واحدة الحکم الثلاث معاً، أی أن ضمیر الجمع أستعمل فیها للأشارة الى (عظمة الفاعل) و هو یبین (عظمة الفعل و سموٌه) و أیضاً فیه الفات و أشارة الى (الاسباب) کقوله تعالى: "أنا أنزلناه فی لیلة القدر" حیث اجتمعت فی هذه الآیة هذه الموارد الثلاثة.
[1] ." أبى الله ان یجری الاشیاء الا بأسباب", الکافی، ج 1، ص 183، باب معرفة الامام والرد الیه.
[2] . فی هذه الصورة لا وجه للسوءال عن سبب أستعمال الله تعالى ضمیر المفرد فی بعض الموارد، بل یبقى سوءال واحد و هو أنه لماذا لم یستعمل الله سبحانه ضمیر المفرد دائماً ؟ و هذا هو الامر الذی نتعرض له فیما بعد.
[3] . مثل "أدعونی أستجب لکم .."، غافر، 60 و … .
[4] . للأطلاع أکثر لأحظ: مکارم الشیرازی، ناصر، أسئلة و أجوبة، ج 3، ص 256.
[5] . تفسیر المیزان، ج 18، ص 385 .
[6] الفتح، 8.
[7] . تفسیر المیزان، ج 11، ص 401 .
[8] . تفسیر ألامثل، ج 6، ص 358 ، و کذلک لاحط حول الموضوع: معارف القراّن، مصباح الیزدی، ص 106 ـ 114 .