Please Wait
6533
بحث التعارض بین العلم و الدین بحث مستورد من الغرب المسیحی، و أما بالنسبة إلى الدین الإسلامی فلابد من حل الإشکال بالتوجه إلى النقاط التالیة:
1ـ بالاستفادة من النصوص الدینیة لابد من الالتفات إلى المقیدات و المخصصات (الأدلة التی تکون بمثابة القیود للأدلة المطلقة أو تکون مخصصا لعموم الأدلة) حتى لا ننسب شیئاً إلى الدین بشکلٍ عام ثم یعلم بعد ذلک أن العلم یخالف هذه العمومیة، بل لابد من الدقة و بذل الجهد فی الآیات و الروایات.
2ـ العقل حجة الله فی الإسلام، و إذا ما أثبت العلم نظریة بالبرهان و الدلیل فإنها تکون مورد قبول الدین، کما أنها تعتبر من المقیدات اللبیة (غیر اللفظیة) بالنسبة إلى الآیات و الروایات.
3ـ لا ینبغی الخلط بین العلل المعنویة المذکورة فی النصوص الدینیة لبعض الظواهر و العلل المادیة.
4ـ فی التعامل مع الاکتشافات العلمیة، لابد من التفرقة بین النظریات الثابتة و الفرضیات، بل و حتى النظریات التی لم یتم إثبات تمام فروضها، لا ینبغی أن تعامل معاملة النظریات الثابتة التی تحولت إلى قانون لأن النظریات التی تکون فی حالة تحول مستمر لا یمکن أن تتعارض مع متبنیات الدین الثابتة، فلابد من الدقة بالتعامل مع النتائج العلمیة و لا تعتبر الفرضیات أموراً قطعیة.
ظهرت مسألة تعارض العلم و الدین عقب القرون الوسطى بعد أن تطور العلم و برزت على الساحة علومٌ جدیدة بدأت المواجهة بین هذه العلوم و ما تتبناه الکنیسة ـ بشکل عام ـ و الإنجیل بحسب تفسیره الکنسی، و قد کان لجاذبیة العلوم الجدیدة و رونقها الأثر الکبیر فی إطفاء مصباح الدین المسیحی، [1] و کان اقتراح البعض لحل هذا التعارض أن قالوا: «إن لغة الدین خارجة عن محیط دائرة العقل و الاستدلال، و هی أعلى منها و کان البعض یعتقد من أمثال (کیرکجور) أن کل ما یکتشفه العقل الإنسانی و یعلمه، خارج عن دائرة الإیمان. [2] إن البحث فی مسألة التعارض بین العلم و الدین و الذی یتعلق بالرؤیة المسیحیة و نظرتهم الخاصة إلى الدین. [3] أقحم فی دائرة علوم الإسلام من دون النظر إلى ظرافة المسألة و خصوصیتها بالنسبة إلى المعتقدات و التعالیم الإسلامیة.
و للإجابة عن السؤال بخصوص تعارض العلم و الدین لابد و أن تکون لنا أبحاث فی دائرتین، الأولى بخصوص النصوص الدینیة و الثانیة بخصوص الاکتشافات العلمیة.
ألف- النصوص الدینیة:
من اللازم مراعاة بعض النقاط التی تخص النصوص الدینیة فی مسألة تعارض العلم و الدین:
1ـ عند الرجوع إلى النصوص الدینیة (الکتاب و السنة) لابد من مراعاة التخصیص و التقیید بالنسبة إلى الحکم، فلا یحکم بعموماتها و إطلاقها دون الفحص عن المخصصات و القیود.
و للتوضیح ننقل مثالاً من النصوص الدینیة: ورد فی القرآن الکریم أن العسل فیه شفاء للناس، [4] فإذا اعتقد أحدٌ أن العسل شفاء لکل مرض یصیب الإنسان ثم أثبت العلم أن العسل مضر بالنسبة لمرضٍ معین قیل أن العلم یتعارض مع النص الدینی. فی حین أن الآیة المبارکة لم تقل أن العسل شفاء لجمیع الأمراض.
یقول الفخر الرازی فی تفسیر هذه الآیة: إن الله لم یقل أن العسل شفاء لکل مرض و لکل إنسان و لکل حالة، و إنما شفاء بالإجمال. [5]
و بالتعبیر الفنی المنطقی: القضیة المهملة بقوة القضیة الجزئیة.
و من هنا ینبغی الحذر و الدقة فی التعامل مع النصوص الدینیة و لا یصار إلى القول بعمومها و إطلاقها دون نظر.
2ـ ان الاسلام و خلافاً لنظریات بعض الغربیین أعطى العقل مکانة و موقعاً مرموقاً، حتى اعتبر العقل رسولاً باطنیاً بالنسبة إلى الإنسان، حتى رجح عبادة العاقل على عبادة الآخرین. [6]
و کما أن النص الدینی یخصص بنص آخر فقد قرر فی علم الأصول أن النص الدینی یخصص بالمخصصات اللبیة (الأدلة العقلیة و العلمیة القطعیة). فلو فرضنا مثلاً وجود نص دینی ـ مقبول السند ـ یقول أن المرض لا ینتقل من شخصٍ لآخر، [7] و لکن العلم أثبت أن بعض الأمراض معدیة و تسری من المریض إلى السلیم. و فی مثل هذه الحالة لا یوجد أی تعارض. بل أن ما ثبت عن طریق العقل و العلم و التجربة یکون مخصصاً لبیاً. فنقول أن الروایة غیر ناظرة إلى جمیع الأمراض، و إنما ناظرة إلى الأمراض غیر المعدیة التی لا یسری فیها المرض من شخص إلى آخر.
و من الجدیر بالذکر أن مثل هذه الموارد یکون التعارض فیها بین العقل و النقل لا بین العقل و الدین، لأن التعالیم الدینیة تأتی عن طریق النقل و العقل.
3ـ بعض الروایات لا تبین العلة المادیة لبعض ردود الأفعال و إنما تبین العلة المعنویة، فإذا وقع اشتباه بین العلتین یتوهم التعارض بین العلم و الدین العلل المعنویة تقع فی طول العلل المادیة، بمعنى إذا وجدت العلل المعنویة لظاهرة معینة فإنها تمهد الأرضیة لوجود العلل المادیة للظاهرة ثم توجد الظاهرة.
فمثلاً لدینا روایات تقول أن الزلازل تقع بسبب ذنوب الناس فی حین أن العلم یثبت أن أسباب الزلازل مجموعة من العلل الطبیعیة التی تتحقق بالتدریج أو بشکل دفعی، و هنا لا ینبغی توهم التعارض فیقال: أن الزلازل لا تقع بسبب ذنوب البشر، و إنما بسبب سلسلة من الفعل و الانفعال فی داخل الأرض.
لأن النص الدینی یشیر إلى العلة المعنویة للظاهرة و هو ذنوب الناس و هذا لا یتنافى مع وقوع الظاهرة نتیجة سلسلة من التغیرات و التفاعلات فی باطن الأرض فی عالم المادة. و علیه لابد من التفریق بین العلل المعنویة و المادیة للظاهرة.
ب- ما یخص الاکتشافات العلمیة:
1ـ لابد من التفریق بین النظریات و الفرضیات التی لم تثبت بعد و بین العلوم الثابتة بشکلٍ قطعی، فالنظریة التی لم تثبت و الفرضیات العلمیة لا یمکن أن یقال أنها تتعارض مع النصوص الدینیة، إلى أن تبلغ مرحلة القطع و تکون قانوناًً ثابتاً. لأنها ما تزال فی مراحل الفرض، و کم من فرضیة و نظریة قد ثبت خلافها، أو أنها لا تصدق على جمیع الأفراد التی یعنیها الخطاب الدینی، و علیه ففی مثل هاتین الصورتین لا یوجد أی تعارض مع الخطاب القطعی للشریعة.
نعم إذا بلغت الفرضیات و النظریات حد الإثبات القطعی و کانت متعارضة مع الدین عندها ینظر فی حل هذا التعارض.
2ـ و مما ینبغی الالتفات إلیه فی دائرة العلم؛ أن البعض یعتقد بالنسبة لفلسفة العلم أن النظریات العلمیة لا تحکی الواقع الخارجی، و إنما تعتمد على ما یبنیه الإنسان فی ذهنه، أی أنها تکون مفیدة فی تحلیل حوادث العالم فتلقى القبول بسبب ذلک. فمثلاً نظریة دارون فی النشوء و التکامل ترى أن الإنسان متحدر عن القرد، و لم تقل ذلک بالقطع، و إنما تقول لو فرضنا ذلک فإن الکثیر من مجهولاتنا بخصوص حیاة الإنسان تلقى طریقها إلى الحل، و هذه النظریة تجد رواجاً فی عالم العلم المعاصر و تسمى «نظریة استغلال الدین». [8] و لذلک یدعی البعض أن لا تعارض بین العلم و الدین، فما یقوله الدین هو الحقیقة و ما یقوله العلم أساطیر وضعت کحلول عملیة.
3ـ قال البعض: إن عمل العلم مختلفٌ کلیاً مع عمل الدین، و التعارض بین شیئین إنما یأتی عندما یرد کلا الأمرین على موضوع واحد و لکل منهما حکم مخالف للآخر، و لا یوجد مثل هذا بالنسبة للعلم و الدین.
یقول أیان باربور فی هذه المسألة: فی دائرة العلم غالباً ما یسلک المحللون طریق (الوسیلیة)، أی أنهم یرون أن النظریات (أکثر فائدة) من الواقع العلمی فی حین أنهم یرون أن لغة الدین عبارة عن مجموعة توصیات أخلاقیة تهدف إلى تصحیح المسار السلوکی. [9]
و رغم النقاط الإیجابیة التی ینطوی علیها هذا الرأی. إلا أن ما یؤخذ علیه إغفاله ما یتعرض له النص الدینی من حقائق طبیعیة ـ فقد جاء الکلام فی کل الکتب المقدسة ـ و منها القرآن ـ عن الریاح و المطر و غیرها الحوادث الطبیعیة، و ذلک مما لا یمکن إنکاره، و لیس لنا أن نهمل قسماً من الخطاب الدینی الذی یتعرض للظواهر الطبیعیة للهروب من التعارض المدعى بین الدین و العلم، ثم نؤکد على جانب من الخطاب الدینی الذی یتعلق بالتوصیات الأخلاقیة و السلوکیة.
صحیح أن الدین یستهدف حمل الناس على التسلیم لله تعالى أو أنه یوصی بنوع من السلوکیات و الأخلاق، و لکن هذا الدین قال کلمته بشأن الکثیر من الظواهر فی هذا العالم، و فی بعض الأحیان یظهر أن هذا الخطاب یتعارض مع معطیات العلم، و علیه لابد من التفکیر فی الحلول. [10]
و فی الختام إن الأمر الذی ینبغی التوجه إلیه هو أن القرآن کتاب الإسلام السماوی لیس فقط لا یتعارض مع العلوم التجریبیة، و إنما فیه إعجاز علمی کبیر، أی أنه أشار إلى بعض المطالب و المسائل فی دائرة العلوم التجریبیة، لم یتمکن العلم من الوصول إلیها إلا بعد قرون من الزمان. و مثال ذلک ما جاء فی الآیة 125 من سورة الأنعام فی قوله تعالى: «و من یرد أن یضله یجعل صدره ضیقاً حرجاً کأنما یصعد فی السماء»، فی حین أن ما یعتقده العلماء إلى حدٍ قریب أن الهواء لیس له ضغط و لا وزن حتى عام 1643میلادی حیث اکتشف «توریچلی» جهاز وزن الهواء فتوصلوا إلى معرفة وزن الهواء، و هکذا صار معلوماً أن ضغط الهواء الخارجی یتعادل مع الضغط داخل الجسم فیؤثر فی عملیة التنفس و بذلک أصبح ما ترمی إلیه الآیة من ضیق الصدر عند الصعود فی الهواء واضحاً. [11]
و بالتوجه إلى التغییرات الواسعة فی العلوم التجریبیة و النقاط الأخرى التی تقدم بیانها صار من الواضح أن قوانین الدین الإسلامی و تعالیمه و مقرراته القطعیة المعتبرة لا تتعارض و لا تتنافى ـ بأی حال من الأحوال ـ مع العلوم القطعیة الثابتة المبرهنة، و أن العلوم التجریبیة الثابتة تکون حجةً لله تعالى، و لیس فیها تعارض مع المنقولات الثابت صدورها عن الله فی القرآن الکریم و روایات المعصومین الواصلة إلینا. [12]
للاطلاع أنظر المواضیع:
1ـ المقارنة بین العلم و الدین، السؤال 912 (الموقع: 1302) .
2ـ الإسلام و العقلانیة، السؤال 3053 (الموقع: 3408) .
[1] الأسس الکلامیة للاجتهاد، هادوی طهرانی، ص313.
[2] المصدر نفسه، ص 315.
[3] المصدر نفسه، ص 315.
[4] «شفاء للناس»، النحل، 69.
[5] التفسیر الکبیر، فی تفسیر الآیة المشار إلیه؛ وسفینة البحار، ج 3، ص 483.
[6] سفینة البحار، ج 3، ص 541.
[7] تلخیص مقباس الهدایة، علی أکبر الغفاری، ص 48.
[8] الجوادی محسن و الأمینی علی رضا، المعارف الإسلامیة، ج 2، ص 40.
[9] أیان باربور، العلم و الدین، ص153 ـ 155، منقول عن المعارف الإسلامیة، ج2، ص43.
[10] الأمینی، علی رضا ـ الجوادی محسن، المعارف الإسلامیة، ج2، ص 243.
[11] العلوم القرآنیة، محمد هادی معرفت، ص 425.
[12] مأخوذ من بحث العلم والدین، للأستاذ جوادی الآملی، فی تاریخ 1/12/84، جلسة درس التفسیر.