Please Wait
6891
أسطورة الغرانیق من صنع أعداء الإسلام و القرآن، و هدفهم فی وضعها إضعاف منزلة القرآن و الانتقاص من قدر النبی الأکرم (ص). و قد قالوا فی الأسطورة: کان النبی (ص) منشغلاً بقراءة سورة النجم فی مکة، و عندما وصل إلى الآیة التی تذکر أسماء أصنام المشرکین فی قوله تعالى: «أفرأیتم اللات...»، ألقى الشیطان «و العیاذ بالله» جملتین على لسان النبی (ص) و هما: «تلک الغرانیق العلى، و إن شفاعتهن لترتجى»! و عندها سجد النبی (ص) فسجدوا معه، فنزل جبرائیل ینذر النبی (ص) بأنه لم یأتِ بهذا الکلام و أن الشیطان ألقى الجملتین على لسانه.
و هناک الکثیر من القرائن و الشواهد تثبت أن هذا الحدیث موضوع و مفتعل، و لذلک أجمع علماء المسلمین سنة و شیعة على رد هذا الحدیث بقوّة و نسبوه إلى وضع الوضاع.
نقلت روایات عجیبة عن ابن عباس بخصوص أسطورة الغرانیق فی کتب أهل السنة و من جملتها: کان النبی منشغلاً بقراءة سورة النجم فی مکة، و عندما وصل إلى الآیات التی تذکر أصنام المشرکین و ذلک فی قوله تعالى: « أَفَرَأَیْتُمُ اللاَّتَ وَ الْعُزَّى * وَ مَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى»[1] أجرى الشیطان جملتین على لسان النبی: «تلک الغرانیق العلى، و إن شفاعتهن لترتجى»[2] و قد انشرح المشرکون لهذا الکلام و أبدوا ارتیاحهم و قالوا: «ما زال محمد یذکر آلهتنا بخیر» و عندها سجد النبی و سجد المشرکون معه. فنزل جبرئیل و أخبر النبی بأنه لم یأتِ بالجملتین مع ما أوحی له، و أن هذا الکلام من عمل الشیطان و خدعه، فنزلت الآیات مورد البحث فی قوله تعالى: «وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِکَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِیٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّیْطَانُ فِی أُمْنِیَّتِهِ فَیَنْسَخُ اللَّهُ مَا یُلْقِی الشَّیْطَانُ ثُمَّ یُحْکِمُ اللَّهُ آیَاتِهِ وَ اللَّهُ عَلِیمٌ حَکِیمٌ» کإنذار للنبی و المؤمنین.[3]
و مع أن الکثیر من المتربصین بالإسلام و ما یبدون من محاولات للحط من منزلة النبی (ص) قد نقلوا الروایة ظناً منهم أنهم وجدوا فرصة ملائمة لتحقیق أهدافهم، فأعطوها أکبر من حجمها و أضافوا إلیها الکثیر. إلا أن القرائن و الشواهد الکثیرة دل على أن هذه الروایة موضوعة تستهدف سلب القرآن و کلام النبی ما یتمتع به من قوة و تأثیر من خلال إلصاق صفة الشیطانیة به، و من الأدلة على وضعها:
أولاً: یقول المحققون أن رواة هذا الحدیث من الضعفاء و غیر الموثوقین و أن صدور الروایات عن ابن عباس لیس بالأمر المعلوم. و کما یقول «محمد بن اسحاق» إن هذا الحدیث من وضع الزنادقة، و قد کتب کتاباً بهذا الموضوع.[4]
ثانیاً: وردت روایات و أخبار کثیرة فی مسألة نزول سورة النجم و سجود النبی (ص) و المسلمین و فی کتب مختلفة، و لم یکن لأسطورة الغرانیق أثرٌ یذکر فی هذه الکتب، مما یدل على أن هذه القضیة زیدت على الروایات فی وقت متأخر.[5]
ثالثاً: إن الآیات الواردة فی صدر سورة النجم تنفی هذه الأسطورة بصراحة فإذا کان تعالى یقول: «و ما ینطق عن الهوى»،[6] فکیف تنسجم هذه الآیة مع ما تدل علیه أسطورة الغرانیق؟
رابعاً: إن الآیات التی جاءت بعد ذکر أسماء الأصنام سیقت لذمها حیث صرحت بذلک: «إِنْ هِیَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّیْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَ آبَاؤُکُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ یَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ مَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَ لَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى»،[7] فکیف ینسجم هذا الذم الشدید مع المدح المدعى فی الآیات المتقدمة، إضافةً إلى أن الله تعالى صرح بأن القرآن محفوظ من کل تحریف و «لا یَأْتِیهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَیْنِ یَدَیْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِیلٌ مِنْ حَکِیمٍ حَمِیدٍ». «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّکْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ».[8]
خامساً: إن صراع النبی مع الأصنام و عبدتها صراعٌ مریر لا هوادة فیه منذ بعثته و حتى وفاته، و قد أظهر النبی صلابة نادرة فی محاربة الأصنام و عبادتها، دون أن یعتریه أی ضعف أو تردد فی ذلک و لم یقدم أی تنازل یذکر فی هذا الصراع حتى فی أحلک ظروفه و أسوء حالاته، فکیف یمکن له أن یذکر مثل هذه الألفاظ و تجری على لسانه!.
سادساً: حتى أولئک الذی لا یعتقدون بأن النبی مبعوث من الله فإنهم یعترفون بأنه رجل حکیم و مدبر و واع حیث تمکن من أن یحقق الکثیر من الانتصارات نتیجة لتدبیره و حکمته، فهل یمکن لشخصٍ مثل النبی (ص) الذی کان شعاره الأساسی «لا إله إلا الله» یشغله الشاغل مقارعة الشرک و المشرکین و تحطیم الأصنام و إزالتها بالکامل.
فهل من الممکن أنه یترک أهدافه و ینسى شعاره و یجری على لسانه مدح الأصنام و الثناء علیها؟!
و من الواضح أن ما تقدم من البحث یثبت أن أسطورة الغرانیق وضعها أعداء الإسلام الذین یحاولون النیل من القرآن و النبی الأکرم (ص)، و لذلک فإن جمیع المحققین من السنة و الشیعة یرفضون هذه الروایة رفضاً قاطعاً، و ینسبونها إلى وضع الوضاع.[9]
و لکن بعض المفسرین ذکروا تفسیراً و تعلیلاً لهذه الروایة یحسن ذکره على فرض القبول بثبوت الروایة، و مما جاء فیه: حیث إن النبی کان یقرأ آیات القرآن بتأنٍ و رویة، و قد یتخلل ذلک لحظات من السکوت لیتمکن من جذب قلوب الناس، و عندما کان مشغولاً بتلاوة آیات سورة النجم: «أفرأیتم اللات...» استغل بعض شیاطین المشرکین سکوته فنطقوا بالجملة المذکورة: «تلک الغرانیق العلى، و إن شفاعتهن لترتجى» و کانت بلحنٍ خاص مستهدفین إضفاء لحن معوج على ما کان یلقی النبی من القرآن، إضافة إلى إیهام الناس و إلقاء الشبهات فی أذهانهم، و لکن الآیات التی تلت ذلک جاءت بردٍ شدید، و إدانةٍ لقضیة الأصنام بشدة.[10]
و من هنا اتضح أن الذین أرادوا جعل قصة الغرانیق دلیلاً على میل النبی إلى عبدة الأصنام و استمالتهم إلى الإسلام قد وقعوا فی خطأ کبیر، و إن هؤلاء لم یدرکوا موقف النبی التاریخی من الأصنام و عبدتها، و لعلهم لم یطلعوا على التاریخ و مصادره الأساسیة لیعلموا جیداً ما کان من محاولات المشرکین الکثیرة و عروضهم المغریة التی عرضوها على النبی شریطة أن یقدم تنازلاً عن بعض أهدافه و غایته إلا أنه رفض کل ذلک و لعلهم رأوا ذلک و لکنهم تجاهلوه.[11]
[1] النجم 19 و 20.
[2] غرانیق جمع غرنوق، نوع من الطیور المائیة البیضاء أو السوداء و کذلک جاءت بمعان أخرى (قاموس اللغة).
[3] جاء فی المیزان فی تفسیر الآیة المشار إلیها، ورد هذا الحدیث نقلاً عن جماعة من حفاظ أهل السنة من جملتهم ابن حجر.
[4] التفسیر الکبیر، الفخر الرازی، ص 23، ص 50.
[5] المصدر نفسه.
[6] النجم 3 و 4 "و ما ینطق عن الهوى إن هو إلا وحیٌ یوحى".
[7] النجم، 23.
[8] الحجر، 9.
[9] مجمع البیان، التفسیر، الفخر الرازی، القرطبی، فی ظلال، تفسیر الصافی، روح المعانی و المیزان و تفاسیر أخرى.
[10] تفسیر «القرطبی» ج 7، ص 4474 و کذلک نقلها «المرحوم الطبرسی» فی «مجمع البیان» کأحد الاحتمالات.
[11] نقلاً عن التفسیر الأمثل، ج 14، ص 142 ـ 145.