Please Wait
5722
تثار فی کل عصر و برهة زمنیة کثیر من التساؤلات و المستجدات التی تحث العلماء الکبار و المفکرین البارزین لوضع الحلول الناجعة لها، و یعد الشیخ الطوسی من هؤلاء الأعلام الذین تصدوا لمعالجة ما أثیر فی عصره و وضع الحلول لما یلیه من أفکار و نظریات سیاسیة عامة، و یمکن تلخیص الأصول العامة لفکره السیاسی بالامور التالیة:
1. إنه لا یؤمن بنظریة فصل الدین عن السیاسة.
2. تعد الأدلة العقلیة التی أقامها لضرورة تشکیل الحکومة و النظام السیاسی و حضور القیادة من أبرز نظریاته و آرائه السیاسیة.
3. اعتمد قاعدة اللطف للانطلاق منها فی إثبات ضرورة نصب القائد اللائق و الجدیر بالقیادة من قبل الله تعالى المتمثل بالنبی و الإمام و نائبه، بنحو تعد القیادة السیاسیة إحدى الوظائف الموکل بالقیام بها.
4. الایمان بالزعامة السیاسیة للفقهاء فی المجتمع، و السعی لتعزیز هذه القضیة فی أوساط الجماهیر و محاولة الربط بینها و بین زعامة المعصومین و قیادتهم، و کذلک البحث عن إختیار القائد الاسلامی.
بالاضافة الى کون تصدیه لمسند تدریس الکلام الاسلامی فی عاصمة الحکم العباسی من قبل الخلیفة یکشف بوضوح عن إیمانه بعدم فصل الدین عن السیاسة، بل کان یرى السیاسة من صمیم الدیانة.
قبل الدخول فی تفصیل البحث نرى من المناسب الاشارة إجمالا الى ترجمة الشیخ الطوسی (ره):
ولد شیخ الطائفة أبو جعفر محمد بن علی الطوسی المعروف بالشیخ الطوسی فی طوس خراسان، فی شهر رمضان عام 385 هجریة، فرضع من ثدی الایمان الصادق، و الولایة المخلصة الحقة، و تربى تربیة سالمة من شوائب الأدران، فجعلت منه أمة فی وضعه و سیرته، امة فی أخلاقه و أفعاله، و بالتالی أمة عظمى فی فکره و قلمه. فکان شعلة وهاجة لا تنطفی فی جولان من الخواطر، یبرمج و یخطط لمستقبله الزاهر الذی ینتظره.
دخل حقل العلم و المعرفة و هو فی أیام صباه و ریعان شبابه فی مدن طوس، نیشابور، سبزوار، الری و قم، التی کانت تعد من الحواضر العلمیة و کانت مدینة قم المقدسة تحتضن کبار العلماء الشیعة. عاصر الشیخ الطوسی فی شبابه السلطان محمود الغزنوی فی غزنه و خراسان و الذی کان شدید التعصب لمذهب التسنن و من جهة ثانیة کان معاصراً لاسرة آل بویة الشیعیة التی حکمت قسما مهماً من ایران و التی اتخذت من الری و فارس و بغداد مرکزاً لقیادتها.[1]
شد الرحال الى بغداد- عاصمة العلم آنذاک- فی عام 408 هجریة، للاغتراف من نمیر علمائها، و الارتشاف من مناهل غدرانها، و هو ابن ثلاثة و عشرین عاماً، و ذلک ابان زعامة و مرجعیة شیخ الفرقة الحقة آنذاک (محمد بن محمد بن النعمان) المشتهر بالشیخ المفید، عطر الله رمسه، و نور الله ضریحه. فلازم الشیخ المفید ملازمة الظل للاستزادة من عبیق یمه الصافی، و الغور فی بحر علومه، استمرت ثلاثة و عشرین عاماً و فی عام 413 هجریة التحق الشیخ المفید بالرفیق الأعلى، و انتقلت زعامة الطائفة إلى السید الشریف المرتضى، فانضوى الطوسی تحت لوائه، فاهتم السید به غایة الاهتمام، و بالغ فی إجلاله و تقدیره و الترحیب به، فلم یکد لیغیب یوماً واحداً عن درس أستاذه الأعظم، همه الاستماع لآرائه و أفکاره، و التدقیق فی معانیها و نقضها و إبرامها.
و استمرت الحال سنون متمادیة حتى اختار الله للسید المرتضى اللقاء به سنة 436 هجریة.[2]
تسنم منصب زعامة الشیعة بعد رحیل السید المرتضى، و لما تناهت أخباره العلمیة و مکانته فی مجال العلم و الفقاهة و التقوى و مدى ورعه و عفته الى مسامع الخلیفة العباسی القائم بأمر الله أسند الیه کرسی الکلام فی مرکز الخلافة، و کان هذا المنصب یعد فی تلک الایام ذا شأن خاص لا یمنح الا لاکبر العلماء فی البلاد.
و لقد کشف الشیخ الطوسی عن مقدرته العلمیة و مکانته الإجتهادیة فی الإبحاث الأولى من کتابه "تهذیب الأحکام فی شرح المقنعة" و الذی ألفه فی زمن استاذه الشیخ المفید و هو فی سن السابعة و العشرین من عمره، و یعد هذا الکتاب الیوم من الکتب الحدیثیة الأربعة التی یعتمد علیها فقهاء الشیعة و علمائهم کافة.
و لقد ترجم له علماؤنا الابرار و أثنوا علیه غایة الثناء مشیرین الى مکانته العلمیة و مقامه فی سماء المرجعیة، منهم العلامة الحلی. و نحن لا یسعنا التعرض لکل هذه الکلمات هنا.[3]
و اذا أردنا التعرض لمکانة الشیخ الطوسی السیاسیة و الاجتماعیة لابد أن نلقی الاضواء على الوضع السیاسی و المذهبی فی عصر الشیخ رحمه الله؛ کانت بغداد فی القرن الخامس الهجری تعیش حالة التحول و النمو الفکری السیاسی و کانت تحتضن کبار العلماء و المفکرین و المحدثین و المتکلمین، فی تلک الاثناء حط الشیخ الطوسی رحاله فیها عام 408هـ.
کانت الخلافة العباسیة و خاصة فی عصر المتوکل العباسی (232- 247هـ) تدعم المنهج السلفی الافراطی موجهة سهام حربها لمن خالفهم من أصحاب المنهج العقلی و على رأس هؤلاء علماء و فقهاء الاتجاهین المعتزلی و الشیعی.
فی عام 334 هـ تمکن البویهیون من دخول بغداد، و مع کونهم ینتمون الى المذهب الشیعی الا أنهم لم یستغلوا قدرتهم و سلطانتهم لفرض هیمنة المذهب الشیعی على سائر المذاهب الأخرى، بل اطلقوا العنان لجمیع المذاهب تنشر افکارها بکل حریة، الأمر الذی عزز حالة الاستقرار الأمنی فی المجتمع. و قد بذل البویهیون جهوداً جبارة و خطوات مهمة فی التطور العلمی حیث تعد تلک البرهة من أکثر العصور إزدهاراً فی المجال العلمی و التطور الثقافی بالاضافة الى الحریة الفکریة.
و قد اولت الحکومة البویهیة اهتماماً بعلماء الشیعة منهم الشیخ المفید و الشیخ الطوسی الأمر الذی انعکس على الحکومة العباسیة فجعلت تنظر الیهم بعین الاحترام و الرضا.[4]
أسس و اصول الفکر السیاسی عند الشیخ الطوسی
فی کل عصر من العصور تثار مجموعة من القضایا السیاسیة و الفکریة تحث المفکرین و الباحثین للتفکیر فیها و وضع العلاج لها. و لا ریب أن عصر الشیخ الطوسی لیس بدعاً من العصور حیث نرى الشیخ الطوسی - من الفقهاء و المتکلمین فی القرنین الرابع و الخامس الهجریین و المعاصر لآل بویه- قد تصدى لمعالجة الموضوعات التی أثیرت برؤیة فقهیة کلامیة شیعیة.
فقد أهتم الفکر السیاسی للشیخ الطوسی بقضایا من قبیل تشکیل الحکومة و ما یلازمها، العلاقة بین الحکومة و الشعب، سبل التصدی للحکومات المستبدة.
و نحاول هنا الإشارة الى بعض المبانی و الأسس السیاسیة و الحکومیة عند الشیخ الطوسی:
1. ضرورة تشکیل الحکومة: یعتقد الشیخ بضرورة تشکیل الحکومة و النظام السیاسی و وجود القیادة منطلقا فی ذلک کله من الأدلة العقلیة مدعومة بالادلة النقلیة، قال فی کتابه الاقتصاد الهادی:
علماء الأمة المعروفون مجمعون على وجوب الإمامة سمعا، و الخلاف القوی فی وجوب الإمامة عقلا، فإنه لا یقول بوجوبها عقلا غیر الإمامیة و البغدادیین من المعتزلة و جماعة من المتأخرین، و الباقون یخالفون فی ذلک و یقولون المرجع فیه الى السمع.
و لنا فی الکلام فی وجوب الإمامة عقلا طریقان: إحداهما أن نبین وجوبها عقلا سواء کان هناک سمع أولم یکن، و الثانیة أن نبین أن مع وجود الشرع لا بد من امام له صفة مخصوصة لحفظ الشرع باعتبار عقلی.[5]
و بعد بیان الطریقین المذکورین اعتمد الطریق الاول منها ثم شرع فی الاشارة الى الادلة الداعمة له فقال:
و الذی یدل على الطریقة الاولى:
الف: انه قد ثبت أن الناس متى کانوا غیر معصومین و یجوز منهم الخطأ و ترک الواجب إذا کان لهم رئیس مطاع منبسط الید یردع المعاند و یؤدب الجانی و یأخذ على ید السفیه و الجاهل و ینتصف للمظلوم من الظالم کانوا الى وقوع الصلاح و قلة الفساد أقرب، و متى خلوا من رئیس على ما وصفناه وقع الفساد و قل الصلاح و وقع الهرج و المرج و فسدت المعایش.[6]
ب: الاعتماد على قاعدة اللطف فی اثبات ضرورة کون الامام معصوما من القبائح و الإخلال بالواجبات فقال: لأنه لو لم یکن کذلک لکانت علة الحاجة قائمة فیه الى امام آخر، لان الناس انما احتاجوا الى امام لکونهم غیر معصومین، و محال أن تکون العلة حاصلة و الحاجة مرتفعة، لأن ذلک نقص العلة.
و لو احتاج الى امام لکان الکلام فیه کالکلام فی الإمام الأول، و ذلک یؤدی الى وجود أئمة لا نهایة لهم أو الانتهاء الى امام معصوم لیس من ورائه امام، و هو المطلوب.
و انما قلنا «ان علة الحاجة هی ارتفاع العصمة» لأن الذی دلنا على الحاجة [دلنا على جهة الحاجة. ألا ترى أن دلیلنا] فی وجوب الرئاسة هو أن الفساد تقل عند وجوده و انبساط سلطانه و تکثر الصلاح، و ذلک لا یکون الا ممن لیس بمعصوم لأنهم لو کانوا معصومین لکان الصلاح شاملا أبدا و الفساد مرتفعا، فلم یحتج إلى رئیس یعلل ذلک. فبان أن علة الحاجة هی ارتفاع العصمة و یجب أن تکون مرتفعة عن الامام و الا أدى الى ما بینا فساده.[7]
2. لمن الحاکمیة؟
انطلاقا من کون الحاکمیة لله تعالى و ان الناس غیر معصومین و عدم قدرتهم على تشخیص القائد اللائق، ذهب الى أن قاعدة اللطف تقتضی أن یتم نصب الحاکم من قبل الباری تعالى، و الذی تمثل أولا فی حکومة النبی الأکرم حیث قال تعالى "النبی أولى بالمؤمنین من أنفسهم"[8] و قد ذهب المفسرون الى کون الاولویة هی أولویة تدبیر شؤون الناس و تکلیفهم باطاعة النبی الأکرم. و من بعده لا تکون الاولویة الا الى الإمام الواجب الطاعة على الجمیع.[9]
3. حکومة الامام (ع)
ذهب الشیخ الطوسی شأنه شأن سائر الفقهاء الى کون حکومة الامام (ع) تجلیاً من تجلیات الامامة و القیادة العامة له (ع) بان یدیر شؤون الناس الدینیة و الدنیویة و یصلحها و فی المقابل یجب على الناس طاعته و التسلیم له لتتحق الحکومة.[10]
4. حکومة نائب الامام: لقد سلط الشیخ الطوسی البحث هنا على صورتین الاولى: عن النبی (ص) و الامام المعصوم (ع) فاشترط فیهما خصائص و صفات معینة على رأسها خصیصیة العصمة و التقدم على سائر الناس من جمیع الجهات، و الثانی البحث عن نواب الامام المعصوم و خلفائه حیث ذهب الى ضرورة تولی نواب الامام زمام المقالید فی حال لم تتمکن الأمة من الوصول الى المعصوم، و ذلک من أجل حفظ النظام الاسلامی و اجراء و تنفیذ القوانین و الدساتیر الالهیة.
فعندما یبحث الشیخ الطوسی عن الإمام بلحاظ مفهوم الزعامة السیاسیة تراه دائماً یرکز على بعض الخصال التی هی من لوازم القیادة و الحکومة. أضف الى ذلک أنه – انطلاقا من شمولیة وعمومیة اختیارات وصلاحیات الفقهاء الشیعة فی الافتاء، القضاء و إجراء الاحکام و الامور المالیة فی عصر الغیبة – کان یرى أن دائرة صلاحیات الفقیه الجامع للشرائط نفس دائرة صلاحیات الامام (ع). الا فی بعض الموارد التی تترتب على الصفات المنحصرة فی المعصوم باعتبار أن الفقیه فاقد لمثل هکذا خصائص و صفات. من هنا نرى الشیخ الطوسی لم یستعمل مصطلح "نیابة الفقیه العامة عن المعصوم" فی جمیع مصنفاته و لکنه یشیر الى علامات و مؤشرات النیابة العامة و اعطائه اختیارات وصلاحیات الحکومة.[11]
و هناک أبحاث سیاسیة أخرى کثیرة تعرض لها فی مصنفاته من قبیل بیان دائرة صلاحیات الحاکم الاسلامی، اهداف الحکومة الاسلامیة، العلاقة المتبادلة بین الحاکم و الجماهیر، مکانة الجماهیر فی الحکم الاسلامی، حکام الجور و الطواغیت و موقف الشعب منهم و... و نظراً لمحدودیة المجال لا یسعنا التفصیل فی هذه الامور فمن أراد المزید من الاطلاع علیها علیه بمراجعة.[12]
[1] علی الدوانی، الفیة الشیخ الطوسی، ج 1، ص 3 و 4.
[2] انظر الخلاف للشیخ الطوسی، مقدمة التحقیق، اصدار دفتر النشر الاسلامی التابع لجماعة المدرسین فی الحوزة العلمیة، قم المقدسة، 1407 هـ ق، الطبعة الاولى.
[3] السید محمد رضا موسویان، اندیشه سیاسی شیخ طوسی ( الفکر السیاسی عند الشیخ الطوسی)، ص 18 – 25 (بتلخیص).
[4] نفس المصدر، ص27- 31 بتلخیص.
[5] الشیخ الطوسی، الاقتصاد الهادی، ص 183.
[6] نفس المصدر.
[7] نفس المصدر، ص189.
[8] الاحزاب،6.
[9] الرسائل العشر، ج 112.
[10] نفس المصدر، 103.
[11] اندیشه سیاسی شیخ طوسی ( الفکر السیاسی عند الشیخ الطوسی)، ص58.
[12] السؤال رقم 1725(الرقم فی الموقع: 1740) ابعاد الفکر السیاسی عند الشیخ الطوسی.