كيف من الممكن أن يسمع مائة ألف صحابي حديث الغدير ولا يسجل أحد منهم اعتراضه يوم السقيفة؟
السؤال المتقدم يتألف من قسمين، القسم الأول الذي وقع مورداً للنقض في سياق السؤال، و في حالة إثباته تأتي النوبة إلى القسم الثاني، لأنه مع انتفاء الفرض الأول و هو اجتماع هذا العدد الكبير من الصحابة في واقعة غدير خم، فلا يبقى محل للفرض الثاني من السؤال.
و لذلك فمن اللازم إثبات الفرض الأول من السؤال ابتداءً و بالاستعانة بالأدلة العقلية و التاريخية.
أ- الدليل العقلي:
من اللازم لتوضيح الدليل العقلي أن نضع أمامنا خارطة إجمالية لجغرافية المنطقة في غدير خم. و قعت حادثت الغدير في منقطة تسمى رابغ[1]، على بعد مائتي كليومتر من مكة المكرمة، و المنطقة تمثل مفترق أربعة طرق تتشعب إلى العراق، و المدينة[2]، و مصر، و اليمن، و لذلك فإن جميع الحجاج العائدين إلى بلدانهم بعد إتمام مناسك الحج لا محيص لهم من المرور في هذه المنطقة.
و أما بلحاظ العامل الزمني فلا بد من القول أن واقعة الغدير حدثت في الثامن عشر من ذي الحجة[3] و هو آخر أشهر السنة الهجرية العاشرة، و قد كان عدد الحجيج هو الأكثر في هذا العام ذلك لأن عدداً من الآيات القرآنية نزلت للتأكيد على أن الحج من شعائر الله، إضافة إلى التبليغ المستمر و الدعوة إلى الإسلام مما حمل الكثير من الناس إلى إعلان إسلامهم و الانضمام إلى هذا الدين الجديد.
علاوة على ذلك فإن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أصدر أمراً إلى الجميع بالإعلان و إخبار الناس أن النبي سيتوجه بنفسه إلى أداء فريضة الحج و يتولى تعليم الشعائر و إيضاح الأحكام بنفسه.[4]
كل هذه العوامل أدت إلى أن يكون عدد الحجاج هو الأكثر في هذا العام بالنسبة إلى الأعوام السابقة، و حيث أن واقعة الغدير كانت في منطقة رابغ مما يعني أن هذا الجمع الكبير لم يتفرق بعد، و لذلك كان ما وقع في غدير خم استعراضاً عظيماً و حدثاً جليلاً.
الدليل التاريخي:
فيما يخص البحث التاريخي، فمن الجدير بالذكر أن الكثير من الكتب السنية و الشيعية اعترفت بنقل حادثة الغدير[5]، و اعتبرتها من المسلمات التاريخية، يقول خليل عبد الكريم، و هو من كبار المعاصرين من أهل السنة في معرض بحثه عن جمع القرآن الكريم: إنّ عدد أصحاب النبي صلى الله عليه و آله في حجة الوداع (التي وقعت فيها حادثة الغدير) كان مائة و أربعة و عشرين ألفاً[6] و يقول ابن كثير: إنّ الأخبار و الأحاديث بخصوص واقعة غدير خم متواترة جداً، و نحن ننقل بعضها منها و بحسب الإمكان إن شاء الله تعالى.[7]
و بغض النظر عن الكتب التاريخية التي ذكرناها، فقد وردت الكثير من الروايات في معاجم الحديث عند أهل السنة التي نقلت حادثة الغدير، و تفاصيل وقائعها و قد نقل بعضهم الحديث بمضمون واحد و بطرق متعددة، و نذكر منهم النسائي بعنوان المثال، حيث نقل الحديث بمائتين و خمسين سنداً[8].
كل ما تقدم يمثل الشواهد على عظم حجم التواجد حين وقوع حادثة الغدير، مما لا يترك أي شك أو تردد لأحد سواء بخصوص أصل القضية و وقوعها أو عدد الصحابة الذين شهدوا الواقعة و اطلعوا على تفاصيلها.
و الآن نصل إلى القسم الثاني من السؤال: كيف يمكن لصحابة النبي الذين حضروا في غدير خم و شاهدوا و سمعوا كل وقائعها، و علاوة على كل ذلك مبايعتهم لعلي عليه السلام، و لا يمنعهم ذلك من مبايعه شخص آخر في السقيفة[9] لتولي هذا الأمر الإلهي.
و للإجابة عن هذا القسم من السؤال لا بد من القول أن ادعاء عدم الاعتراض من الصحابة بشأن حادثة الغدير لا عمومية له، و ليس قليلاً أولئك الصادقين الذين أصحروا بالحقيقة و واجهوا أصحاب السقيفة و حذروهم من هذا العمل الخطير.
كان الإمام علي عليه السلام مشغولاً في مراسم دفن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، و لم يتمكن من الوقوف بوجه مؤامرة السقيفة بترك أمر مهم كتجهيز النبي صلى الله عليه و آله و سلم.
و أما الآخرون من أمثال سلمان و أبي ذر و طلحة و الزبير[10] و ... فإنهم أعلنوا مخالفتهم و بسطوا ألسنتهم و لم يمدوا يد البيعة لأبي بكر، ولم يكتفوا بذلك، و إنما أقدم الزبير على تجريد سيفه بوجه الظالمين من أقطاب السقيفة.[11]
و أما أولئك الذين ينظرون إلى واقع الأمور بحذر كالعباس عم النبي فإنهم على رغم سكوتهم و عدم إعلان مخالفتهم للحفاظ على السلم و تجنب إراقة الدماء، إلا أنهم امتنعوا عن البيعة.[12] و أما عامة الناس ممن حضر في واقعة الغدير فلا يخرجون عن حالتين، إما أن يكون من المنتفعين مما جرى في السقيفة و ما تمخضت عنه من نتائج، مثل أقارب الانقلابيين و إما أن يكونوا أجبروا على الخضوع و السكوت بالترغيب و الترهيب، يقول الشيخ المفيد في هذا المضمون: قال عمر لجمع من الأعراب، اذهبوا و بلغوا الناس و احملوهم. على بيعة خليفة رسول الله، و من امتنع منهم فاعلوا رأسه بالسيف[13] و في نهاية الأمر بقيت مجموعة من الناس أقدمت على البيعة نتيجة الجهل و الخوف و ملابسات ذلك اليوم، و هؤلاء من شهد واقعة الغدير و لكنه توهم أن البيعة أخذت لعلي لا إلى أبي بكر لأنهم ظنوا أن أبا بكر هو علي الذي أخذت له البيعة في غدير خم، يقول الإسكافي في تاييد هذا القول: إن من جهل الناس و عدم معرفتهم في ذلك الوقت، كانوا يقولون: علي ابن الخطاب، عمر ابن أبي قحافة، عثمان ابن أبي طالب، و أبو بكر ابن عفان...[14]
المصادر:
1- غدير، سند گوياى ولايت" الغدير، وثيقة الشهادة على الولاية"، مجموعة المعارف و التحقيقات الإسلامية، قم، منشورات مدرسة الإمام علي بن أبي طالب، الطبعة الثانية، لعام 1380هـ.ش.
2- الغدير، الشيخ عبد الحسين الأميني، دار الكتاب العربي، المجلدات الأحد عشر.
3- التنبيه و الإشراف، المسعودي، المتوفى، 345، هـ.ق ط بمجلد واحد.
4- فرازهايى از تاريخ پيامبر اسلام" شعاع من حياة رسول الإسلام"، جعفر السبحاني، منشورات المشعر، الطبعة الخامسة، عام 1375 هـ.ش.
5- مجتمع يثرب، خليل عبد الكريم، الطبعة الثانية، المجلد 1، عام 1997 م.
6- تاريخ اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن أبي واضح، طبعة دار صادر، بيروت.
7- البداية و النهاية، الحافظ ابن كثير الدمشقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى، عام 1408هـ.ق.
8- معجم لغة الفقهاء، محمد القلعچي، المجلد 1.
9- أسرار آل محمد، سليم بن قيس الهلالي، منشورات الهادي، الطبعة الأولى، لعام 1375 هـ.ش.
10- فرائد السمطين، إبراهيم بن محمد الجويني الخراساني، بيروت، 1398 هـ.ق.
11- السقيفة و فدك، أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري، منشورات مكتبة نينوى الجديدة، طهران.
12- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، دار إحياء الكتب العربية.
13- الجمل، الشيخ المفيد رحمه الله، نقلاً عن المصدر التاسع.
14- الكافي، محمد صالح المازندراني، المتوفى 1081 هـ.ق.
15- المعيار و الموازنة، أبو جعفر الإسكافي، المتوفى 220 هـ.ق.
[1] المصدر الأول: ص7.
[2] المصدر الثاني: ص8.
[3] المصدر الثالث: ص222.
[4] المصدر الرابع: ص504.
[5] المصدر السادس، ج2، ص112.
[6] المصدر الخامس: ص20.
[7] المصدر السابع: ج5، ص213.
[8] المصدر الأول: ص15.
[9] السقيفة المكان المسقف بهدف التظليل، المصدر الثامن ص264.
[10] المصدر العاشر، ج2، ص82.
[11] المصدر الحادي عشر، ص50.
[12] المصدر الثاني عشر: ج1، ص73.
[13] المصدر الثالث عشر، ص59، المصدر الرابع عشر: ص260.
[14] المصدر الحادي عشر، مع قليل من التصرف و التلخيص، ص19-23.