بحث متقدم
الزيارة
5951
محدثة عن: 2011/12/13
خلاصة السؤال
ألیس خلق عیسى (ع) من دون أب یعد قیمة و امتیازاً؟ و إذا کان کذلک فلماذا لم یکن هذا الامتیاز لأشرف مخلوق، أی الرسول الأکرم محمد (ص)؟
السؤال
أ لیس خلق عیسى (ع) من دون أب یعد قیمة و امتیازاً؟ و إذا کان کذلک فلماذا لم یکن هذا الامتیاز لأشرف مخلوق، أی الرسول الأکرم محمد (ص)؟
الجواب الإجمالي

مع أن رسول الإسلام الأکرم (ص) هو أفضل الأنبیاء و أعلاهم درجة، و لکن هذه الخصوصیة لا تقتضی أن یکون رسول الله حاویاً لجمیع خصوصیات الأنبیاء و الرسل، و الولادة من دون أب و إن کانت میزةً کانت لازمة لإتمام الحجة و إیصال البلاغ الإلهی فی وقتها و لکنها لیست خصوصیة و امتیازاً بذاتها یحسب للشخص.

إن هذه المیزة کانت وسیلة جیدة فی زمن عیسى (ع) لتبلیغ الأحکام الإلهیة. و لکن إذا نظرنا للأوضاع فی صدر الإسلام نجد أن الشرک منتشر فی أوساط المسیحیین و الیهود، و کذلک نجد مشرکی الحجاز یصنعون أصنامهم بأیدیهم ثم یعبدونها، و لعل ظهور رسول آخر متولد من غیر أب و بشکلٍ معجز یحمل المشرکین على احتسابه مولوداً جدیداً لله تعالى فتعود أفکار الشرک بثوب جدید، و هذا لا ینسجم مع الأهداف الإلهیة فی إرسال الرسل. و لذلک یؤکد الباری فی القرآن الکریم على بشریة النبی و لمرات عدیدة لیزرع ذلک فی وعی الناس.

الجواب التفصيلي

مع أن رسول الإسلام (ص) هو أفضل الأنبیاء و أعلاهم درجة و لکن هذا لا یعنی أنه یتمتع بجمیع خصوصیات الأنبیاء و امتیازاتهم، هناک امتیازات و صفات عامة لا تختص بزمان و مکان کالعلم و التقرب إلى الله و هذه الامتیازات یتقدم فیها رسول الله على جمیع الأنبیاء و لکن بعض الصفات التی ترتبط بزمان مخصوص و لیست ضروریة لإثبات أفضلیة الرسول الأکرم (ص) فإن مثل هذه الأمور لیس من اللازم وجودها فی شخص رسول الله (ص).

إن الطریق الطبیعی لعالم الخلق هو أن الإنسان یولد من ألاب و الأم اللذین یعرفان بالوالدین، و لکن الله تعالى جعل الأمر مغایراً بالنسبة لنبیین من الأنبیاء حیث جاءوا إلى الدنیا من دون أب و أم و هما (آدم) من دون أب و أم، و عیسى خلقه من دون أب، و قد أشار تعالى فی آیة من آیات القرآن إلى ذلک، قال تعالى: «إن مثل عیسى عند الله کمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له کن فیکون»[1].

إن وجود هذین النبیین من أنبیاء الله دلیل على قدرة الله الأزلی التی لا تحددها القوانین الطبیعیة التی وضعها سبحانه، بمعنى أن الله الذی وضع قانون تولد الإنسان من أب و أم لا یقیّده هذا القانون و قد ثبت هذا الأمر بخلق نبیین من أنبیائه.

 

رسول الله(ص) و میزة خلقته البشریة:

فی بدایة بعثة رسول الله (ص) کان الیهود و النصارى أتباع المسیح قد انحرفوا نحو الشرک و کل دین جعل لله ولداً، یقول تعالى: «وَ قَالَتِ الْیَهُودُ عُزَیْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَ قَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِیحُ ابْنُ اللَّهِ»[2]. و فی نفس الوقت کان مشرکو الحجاز قد اتخذوا العدید من الآلهة و یحسبون أن الملائکة بنات الله[3].

إن هذه العقائد ترسخت لدى الناس و استحکمت فی نفوسهم إلى حدٍ ما کانوا یتوقعون معه أن سیأتی رسول یأکل الطعام و یمشی فی الأسواق[4]، و یجلس على الأرض و ینام کما ینامون، و إنما الرسول فی نظرهم یجب أن تکون ولادته و تحرکاته و سکناته و جمیع شؤونه أموراً غیر عادیة.

فی هذا الجو الملوث بالشرک و الذی یسود فیه الاعتقاد أن الأنبیاء أبناء الله، إذا ولد نبی جدید کولادة عیسى (ع) من غیر أب، أو کولادة آدم (ع) فکم یترک من الأثر التخریبی فی أذهان الناس؟ ألا یجعل هذا الأمر من المعتقدات الخاطئة أکثر قوة و استحکاماً؟

فهل یمکن لنبی فی مثل هذه الخلفیة العقائدیة أن یدعو الناس للتوحید و عبادة الله الواحد و یوفق فی دعوته؟

و قد حارب القرآن الکریم هذه الأفکار، و أعلن مرات عدیدة و بکل صراحة على مسامع الناس هذه الواقعیة الواضحة التی تخالف عقائدهم، و أکد أن الرسول بشر مثلهم و لهذا نجد الرسول (ص) یعلن مراراً و تکراراً أنه بشر مثل الآخرین و کان القرآن یخاطب النبی و یطلب منه أن یعلن هذا الأمر إلى الناس و یؤکد علیه و ذلک فی قوله تعالى: «قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُکُمْ یُوحَى إِلَیَّ»[5].

و محصلة الکلام هی أن هذه الخصوصیة إذا کانت فی زمن عیسى (ع) تعد امتیازاً لصالح تبلیغ الرسالة فإنها لو کانت فی زمن رسول الإسلام (ص) لاعتبرت من نقاط ضعف الدین الإسلامی.

 

عیسى کلمة الله

یذکر عیسى (ع) فی القرآن الکریم على أنه کلمة الله[6]، و یمتدح و یکرم کسائر الأنبیاء على الصبر و المقاومة[7]. کان صدّیقاً[8]، و مخلَصاً[9] و تواباً[10] بصیراً[11] و لکن لم نجد أی مدح و لا ثناء على عیسى (ع) فی القرآن الکریم و روایات أهل البیت من جهة کونه مولوداً من غیر أب.

ففی بعض الآیات یعدد الباری تعالى الأفضال و النعم التی أنعم بها على عیسى (ع) و أمه، و یقول: «إِذْ قَالَ اللَّهُ یَا عِیسَى ابْنَ مَرْیَمَ اذْکُرْ نِعْمَتِی عَلَیْکَ وَ عَلَى وَالِدَتِکَ إِذْ أَیَّدْتُکَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُکَلِّمُ النَّاسَ فِی الْمَهْدِ وَ کَهْلًا وَ إِذْ عَلَّمْتُکَ الْکِتَابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ التَّوْرَاةَ وَ الْإِنْجِیلَ وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّینِ کَهَیْئَةِ الطَّیْرِ بِإِذْنِی فَتَنْفُخُ فِیهَا فَتَکُونُ طَیْرًا بِإِذْنِی وَ تُبْرِئُ الْأَکْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ بِإِذْنِی وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِی وَ إِذْ کَفَفْتُ بَنِی إِسْرَائِیلَ عَنْکَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَیِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِینَ کَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِینٌ»[12].

إن ولادة عیسى (ع) من أم دون أن یکون لها زوج أمر لا یخلو من حکمة، ففضلاً عن إثبات قدرة الله اللامحدودة التی کان بنو إسرائیل یؤمنون بها، هی آیة و برهان یکون وسیلة لهدایة الناس و لکن عدد من الناس فشلوا فی هذا الإمتحان.

یقول تعالى فی القرآن الکریم: «وَ الَّتِی أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِیهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَ ابْنَهَا آیَةً لِلْعَالَمِینَ»[13].

و یقول العلامة الطباطبائی بخصوص هذه الآیة: «أفرد الآیة فعدهما أعنی مریم و عیسى (علیهما السلام) معا آیة واحدة للعالمین لأن الآیة هی الولادة کذلک و هی قائمة بهما معا و مریم أسبق قدما فی إقامة هذه الآیة و لذا قال تعالى: «و جعلناها و ابنها آیة» و لم یقل: و جعلنا ابنها و إیاها آیة»[14].

و على هذا الأساس فإن الأمر دلیل على قدرة الله و وسیلة لهدایة الناس و امتحانهم[15]، مع أنه یمکن أن یقال أن معجزة ولادة عیسى (ع) من دون أب فی ذلک الزمان الذی کان فیه علم الطب متطوراً و شائعاً دلیل على قدرة الله اللامحدودة و نوع تکریم و امتیاز لعیسى (ع)، و قد استفاد من هذه المیزة لتبلیغ شریعته و أحکامها الإلهیة.



[1]آل عمران، 59.

[2]التوبة، 30.

[3] «وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَکَاءَ الْجِنَّ وَ خَلَقَهُمْ وَ خَرَقُوا لَهُ بَنِینَ وَ بَنَاتٍ بِغَیْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى عَمَّا یَصِفُونَ» الأنعام: 100.

[4]«وَ قَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ یَأْکُلُ الطَّعَامَ وَ یَمْشِی فِی الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَیْهِ مَلَکٌ فَیَکُونَ مَعَهُ نَذِیرًا»

[5]الکهف، 110؛ فصلت، 6.

[6]النساء، 171.

[7]ص 41.

[8]مریم، 41.

[9]مریم، 51.

[10]ص 17.

[11]ص 45.

[12]المائدة، 110.

[13]الأنبیاء، 91.

[14]الطباطبائی، محمد حسین، ترجمة المیزان، ج14، ص447، مکتب المنشورات الإسلامیة، قم، 1374.

[15] ورد فی بعض الروایات انها اختبار للناس فقد روى المسعودی  ابوالحسن، فی إثبات الوصیة للإمام علی بن ابی طالب، ص80، انتشارات انصاریان، الطبعة الثالثة، 1426ه: " روی أن إبلیس مضى فی طلبه (ای طلب عیسى) فی وقت ولادته فلما وجده وجد الملائکة قد حفّت به فذهب لیدنو فصاحت به فقال: من أبوه؟ فقالوا له: مثله کمثل آدم. فقال: و اللّه لأضلّن به أربعة أخماس الخلق".

س ترجمات بلغات أخرى
التعليقات
عدد التعليقات 0
يرجى إدخال القيمة
مثال : Yourname@YourDomane.ext
يرجى إدخال القيمة
يرجى إدخال القيمة

التصنیف الموضوعی

أسئلة عشوائية

الأكثر مشاهدة

  • ما هي أحكام و شروط العقيقة و مستحباتها؟
    280259 العملیة 2012/08/13
    العقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم أسبوعه، و الافضل ان تكون من الضأن، و يجزي البقر و الابل عنها. كذلك من الافضل تساوي جنس الحيوانات المذبوح مع المولود المعق عنه في الذكورة و الانوثة، و يجزي عدم المماثلة، و الافضل أيضاً أن تجتمع فيها شرائط ...
  • كيف تتم الإستخارة بالقرآن الكريم؟ و كيف ندرك مدلول الآيات أثناء الإستخارة؟
    258835 التفسیر 2015/05/04
    1. من أشهر الإستخارات الرائجة في الوسط المتشرعي الإستخارة بالقرآن الكريم، و التي تتم بطرق مختلفة، منها: الطريقة الأولى: إِذا أَردت أَنْ تَتَفَأَّلَ بكتاب اللَّه عزَّ و جلَّ فاقرأْ سورةَ الإِخلاص ثلاث مرَّاتٍ ثمَّ صلِّ على النَّبيِّ و آله ثلاثاً ثمَّ قل: "اللَّهُمَّ تفأَّلتُ بكتابكَ و توكّلتُ عليكَ ...
  • ماهي أسباب سوء الظن؟ و ما هي طرق علاجه؟
    129631 العملیة 2012/03/12
    يطلق في تعاليمنا الدينية علی الشخص الذي يظن بالآخرين سوءً، سيء الظن، و من هنا نحاول دراسة هذه الصفه بما جاء في النصوص الإسلامية. فسوء الظن و سوء التخيّل بمعنى الخيال و الفكر السيء نسبة لشخص ما. و بعبارة أخرى، سيء الظن، هو الإنسان الذي يتخيّل و ...
  • كم مرّة ورد إسم النبي (ص) في القرآن؟ و ما هو السبب؟
    115649 علوم القرآن 2012/03/12
    ورد إسم النبي محمد (ص) أربع مرّات في القرآن الکریم، و في السور الآتية: 1ـ آل عمران، الآية 144: "وَ مَا محُمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلىَ أَعْقَابِكُمْ وَ مَن يَنقَلِبْ عَلىَ‏ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضرُّ اللَّهَ ...
  • ما الحكمة من وجود العادة الشهرية عند النساء؟
    89557 التفسیر 2012/05/15
    إن منشأ دم الحيض مرتبط باحتقان عروق الرحم و تقشّر مخاطه ما يؤدي إلى نزيف الدم. إن نزيف دم الحيض و العادة النسوية مقتضى عمل أجهزة المرأة السالمة، و إن خروجه بالرغم من الألم و الأذى و المعاناة التي تعاني منها المرأة يمثل أحد ألطاف الله الرحيم ...
  • هل يستر الله ذنوب عباده عن أبصار الآخرين يوم القيامة كما يستر عيوب و معاصي عباده في الدنيا، فيما لو ندم المرء عن ذنبه و تاب عنه؟
    61041 الکلام القدیم 2012/09/20
    ما تؤكده علينا التعاليم الدينية دائماً أن الله "ستار العيوب"، أي يستر العيب و يخفيه عن أنظار الآخرين. و المراد من العيوب هنا الذنوب و الخطايا التي تصدر من العباد. روي عن النبي محمد (ص) أنه قال: " سألت الله أن يجعل حساب أمتي إليّ لئلا تفتضح ...
  • ما هو النسناس و أي موجود هو؟
    60369 الکلام القدیم 2012/11/17
    لقد عرف "النسناس" بتعاريف مختلفة و نظراً إلى ما في بعض الروايات، فهي موجودات كانت قبل خلقة آدم (ع). نعم، بناء على مجموعة أخرى من الروايات، هم مجموعة من البشر عدّوا من مصاديق النسناس بسبب كثرة ذنوبهم و تقوية الجانب الحيواني فيهم و إبتعادهم عن ...
  • لماذا يستجاب الدعاء أكثر عند نزول المطر؟
    57377 الفلسفة الاخلاق 2012/05/17
    وقت نزول الأمطار من الأزمنة التي يوصى عندها بالدعاء، أما الدليل العام على ذلك فهو كما جاء في الآيات و الروايات، حيث يمكن اعتبار المطر مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهية فوقت نزوله يُعتبر من أوقات فتح أبواب الرحمة، فلذلك يزداد الأمل باستجابة الدعاء حینئذ. ...
  • ما هو الذنب الذي ارتكبه النبي يونس؟ أ ليس الانبياء مصونين عن الخطأ و المعصية؟
    51625 التفسیر 2012/11/17
    عاش يونس (ع) بين قومه سنين طويلة في منطقة يقال لها الموصل من ارض العراق، و لبث في قومه داعيا لهم الى الايمان بالله، الا أن مساعيه التبليغية و الارشادة واجهت عناداً و ردت فعل عنيفة من قبل قومه فلم يؤمن بدعوته الا رجلان من قومه طوال ...
  • ما هي آثار القناعة في الحياة و كيف نميز بينها و بين البخل في الحياة؟
    47715 العملیة 2012/09/13
    القناعة في اللغة بمعنى الاكتفاء بالمقدار القليل من اللوازم و الاحتياجات و رضا الإنسان بنصيبه. و في الروايات أحيانا جاء لفظ القناعة تعبيرا عن مطلق الرضا. أما بالنسبة إلى الفرق بين القناعة و البخل نقول: إن محل القناعة، في الأخلاق الفردية، و هي ترتبط بالاستخدام المقتَصَد لإمكانات ...