بحث متقدم
الزيارة
5738
محدثة عن: 2011/12/17
خلاصة السؤال
ما هی السبل و الشروط التی توفر لنا الانتفاع الامثل بالطبیعة؟
السؤال
ما هی السبل و الشروط التی توفر لنا الانتفاع الامثل بالطبیعة؟
الجواب الإجمالي

خلافا للاتجاهات و المدارس التی رسمت للانسان طریقا آحادی الجانب - الترکیز على البعد المادی و اهمال الجانب المعنوی بالمطلق، أو الترکیز على البعد المعنوی و إهمال الجانب المادی بکل ابعاده- نظر الاسلام الى القضیة نظرة متوسطة و متزنة فلم یهمل البعد المادی کما لم یهمل البعد المعنوی، بل جعل الانسان یرتقی بالجناحین معا للوصول الى التکامل و تحصیل القرب الالهی، و لم یر فی الدنیا منافاة للبعد المعنوی فیما اذا احسن التصرف فیها، بل هی مزرعة الآخرة.

ثم ان الانتفاع من الدنیا بحد ذاته و من الطبیعة لابد أن یکون متوازنا بعیدا عن التبذیر و الاسراف و التقتیر و العبث بالطبیعة و من هنا نجد القرآن الکریم یصرح بان من صفات المؤمنین " وَ الَّذینَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ یُسْرِفُوا وَ لَمْ یَقْتُرُوا وَ کانَ بَیْنَ ذلِکَ قَواما".

الجواب التفصيلي

و ضعت الادیان و المذاهب المدارس الفکریة المطروحة فی الساحة الاجتماعیة، مجموعة من القوانین و الدساتیر و التوصیات لغرض تأمین متطلبات الانسان و تلبیة حاجاته الضروریة و الاخذ بیده نحو السعادة و الاستقرار.

أما المدارس المادیة فقد أهملت بنحو مطلق البعد المعنوی للانسان و قد افرط بعضها الى درجة لم یؤمن بهذا البعد أساساً، و ذهب الى تبنی النظریة التی تحصر السعادة البشریة بعامل المنفعة و الاستفادة القصوى من اللذات المادیة. و فی المقابل نجد بعض المدارس و الاتجاهات الاخرى ذهبت فی الاتجاه المعاکس للنظریة الاولى معتقدة بان سعادة الانسان تکمن فی تعزیز البعد المعنوی و تقویة الروح الى درجة أنها لم تهمل البعد المادی فقط، بل ذهبت الى القول بان السعادة البشریة تکمن فی الابتعاد المطلق عن اللذات و المظاهر المادیة داعیة البشریة الى التحرز و الابتعاد عن هذا الجانب مطلقاً.

و بطبیعة الحال أن کل نظریة تطرح على الساحة لابد أن تنطلق من رؤیة کونیة و تفسیر للکون و الحیاة.

و هنا یمکن القول بان الانجراف المفرط مع المادیات و الانتفاع اللامحدود بالملاذ المادیة المختلفة و الانحلال المطلق الذی ساد العالم المادی المعاصر و خاصة المجتمعات الغربیة، مثل ردة فعل عنیفة ضد المدارس التی ضیقت على الانسان حرکته و منعته من الانتفاع بالملاذ المادیة.

أما المدرسة الاسلامیة فقد وقفت موقفا وسطا بین الاتجاهین المذکورین، و تبنت رأی متوازنا یوفر للانسان البعد المادی و المعنوی معا، ففی الوقت الذی أهتم فیه الاسلام بالبعد المعنوی لم یهمل الجانب المادی و حاجة الانسان الى الانتفاع بها، روی عن الامام الصادق (ع) أنه قال: "   إِنَّ اللَّه تبارک و تعالى أَعطى محمَّداً (ص) شرائع نوح و إِبراهیم و موسى و عیسى (ع) التوحید و الإخلاص و خلع الأَنداد و الفطرةَ الْحنیفِیَّةَ السَّمحةَ و لا رَهْبَانِیَّةَ و لا سیاحَةَ، أَحلَّ فیها الطَّیِّبَاتِ و حرَّمَ فیها الخبائث و وضع عنهم إِصرهم و الأَغلال الَّتی کانَتْ علیهِم‏". [1]

و قد حذر النبی الاکرم (ص) و الائمة الاطهار (ع) الامة الاسلامیة من الرهبانیة و العزلة فی کثیر من المواطن، منها:

- احتجاج أَمیر المؤمنین (ع) على عاصم بن زیادٍ حین لبس العَبَاءَ و ترکَ المُلاءَ و شکَاهُ أَخوه الرَّبِیعُ بن زیاد إِلى أَمیر المؤمنین (ع) أَنَّهُ قد غَمَّ أَهلهُ و أَحزَنَ ولْدَهُ بذلک! فقال أَمیر المؤمنین (ع): علیَّ بعاصم بن زیادٍ فجِی‏ءَ به فلمَّا رآهُ عبس فی وجهه، فقال لهُ: أَ ما استحییتَ من أَهْلِکَ أَ ما رحمت ولْدَکَ أَ ترى اللَّهَ أَحلَّ لکَ الطَّیِّبَاتِ و هو یکرهُ أَخذکَ منها؟! أَنْتَ أَهونُ على اللَّه من ذلک. [2]

لکن ینبغی الالتفات الى أن البعد المذموم من الدنیا هو التعلق بها و الانجرار وراء ملذاتها بلا قید و شرط بنحو ینسی الانسان فیه تکالیفه الاساسیة و وظیفته الکبرى اتجاه الله و المخلوقات، و الاغترار بها و نسیان الآخرة، بالاضافة الى التفاخر و الاسراف و غیر ذلک من النتائج السلبیة المترتبة علیها. و لا تجد ذما للدنیا اذا أخذت قنطرة یعبر من خلالها الانسان الى عالم الآخرة و القرب الالهی. و قد اشارت الروایات الکثیرة الى هذا المعنى، نکتفی بذکر روایتین منها:

1.  قال أمیر المؤمنین (ع) و قد سمع رجلا یذمُّ الدُّنْیَا: أَیها الذَّامُّ للدُّنیا المغترُّ بغرورها المخدوعُ بِأَبَاطِیلِهَا أَ تَغْتَرُّ بِالدُّنْیَا ثُمَّ تَذُمُّهَا أَنْتَ الْمُتَجَرِّمُ عَلَیْهَا أَمْ هِیَ الْمُتَجَرِّمَةُ عَلَیْکَ مَتَى اسْتَهْوَتْکَ أَمْ مَتَى غَرَّتْکَ؟ أَ بِمَصَارِعِ آبَائِکَ مِنَ الْبِلَى أَمْ بِمَضَاجِعِ أُمَّهَاتِکَ تَحْتَ الثَّرَى.... إِنَّ الدُّنْیَا دَارُ صِدْقٍ لمنْ صدقها و دارُ عافیةٍ لمن فهم عنها و دارُ غنى لمنْ تزوَّدَ منها و دارُ موعظةٍ لمن اتَعظَ بها، مسجدُ أَحبَّاء اللَّهِ، و مصلَّى ملائکةِ اللَّهِ، و مَهْبِطُ وحی اللَّهِ و متجرُ أَوْلِیَاءِ اللَّهِ اکْتَسَبُوا فِیهَا الرَّحْمَةَ و ربحوا فیها الْجَنَّةَ فمَنْ ذَا یَذُمُّهَا؟!. [3]

2. عن عبد اللَّه بن أَبی یعفُور قال: قال رجلٌ لأَبی عبد اللَّه (ع): و اللَّه إِنَّا لنطْلُبُ الدُّنْیَا و نحبُّ أَنْ نُؤْتَاها! فقال: تحبُّ أَنْ تصنعَ بها ما ذَا؟ قال: أَعود بها على نفسی و عیالی و أَصل بها و أَتصدَّقُ بها و أَحجُّ و أَعتمرُ. فقال (ع): لیس هذا طلبَ الدُّنیا هذا طلبُ الآخرة. [4]

اتضح ان الموقف الاسلامی من هذه القضیة هو الموقف الوسطی بین الافراط و التفریط. ثم ان الانتفاع من الدنیا بحد ذاته و من الطبیعة لابد أن یکون متوازنا بعیدا عن التبذیر و الاسراف و التقتیر و العبث بالطبیعة و من هنا نجد القرآن الکریم یصرح بان من صفات المؤمنین "   وَ الَّذینَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ یُسْرِفُوا وَ لَمْ یَقْتُرُوا وَ کانَ بَیْنَ ذلِکَ قَواما". [5]

کذلک نجد فی الحدیث الشریف اشارة الى المسؤولیة الکبرى اتجاه البیئة و ما فیها من اشیاء، قال أمیر المؤمنین (ع): "ْ اتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ فِی عِبَادِهِ وَ بِلَادِهِ إِنَّکُمْ مَسْئُولُونَ حَتَّى عَنِ الْبِقَاعِ وَ الْبَهَائِم‏". [6]

لمزید الاطلاع انظر المواضیع التالیة:

الرفاه و النعیم الدنیوی و الاخروی، رقم السؤال 7576 (الموقع: 7674).

السعی للدنیا و الآخرة، 1821 (الموقع: 2130).


[1] الکلینی، محمد بن یعقوب، الکافی، ج 8، ص 17، ح1، دار الکتب الاسلامیة، طهران، 1365ش.

[2] نفس المصدر، ج1، ص410.

[3] نهج البلاغة، ص492، الحکمة 131، دار الهجرة، قم.

[4] انظر:   الکافی ج : 5 ص : 72، الحدیث 10.

[5] الفرقان، 67.

[6] العلامة المجلسی،    بحارالأنوار ج : 32 ص : 7، مؤسسة الوفاء، بیروت، 1404هـ.

س ترجمات بلغات أخرى
التعليقات
عدد التعليقات 0
يرجى إدخال القيمة
مثال : Yourname@YourDomane.ext
يرجى إدخال القيمة
يرجى إدخال القيمة

التصنیف الموضوعی

أسئلة عشوائية

الأكثر مشاهدة

  • ما هي أحكام و شروط العقيقة و مستحباتها؟
    280259 العملیة 2012/08/13
    العقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم أسبوعه، و الافضل ان تكون من الضأن، و يجزي البقر و الابل عنها. كذلك من الافضل تساوي جنس الحيوانات المذبوح مع المولود المعق عنه في الذكورة و الانوثة، و يجزي عدم المماثلة، و الافضل أيضاً أن تجتمع فيها شرائط ...
  • كيف تتم الإستخارة بالقرآن الكريم؟ و كيف ندرك مدلول الآيات أثناء الإستخارة؟
    258835 التفسیر 2015/05/04
    1. من أشهر الإستخارات الرائجة في الوسط المتشرعي الإستخارة بالقرآن الكريم، و التي تتم بطرق مختلفة، منها: الطريقة الأولى: إِذا أَردت أَنْ تَتَفَأَّلَ بكتاب اللَّه عزَّ و جلَّ فاقرأْ سورةَ الإِخلاص ثلاث مرَّاتٍ ثمَّ صلِّ على النَّبيِّ و آله ثلاثاً ثمَّ قل: "اللَّهُمَّ تفأَّلتُ بكتابكَ و توكّلتُ عليكَ ...
  • ماهي أسباب سوء الظن؟ و ما هي طرق علاجه؟
    129631 العملیة 2012/03/12
    يطلق في تعاليمنا الدينية علی الشخص الذي يظن بالآخرين سوءً، سيء الظن، و من هنا نحاول دراسة هذه الصفه بما جاء في النصوص الإسلامية. فسوء الظن و سوء التخيّل بمعنى الخيال و الفكر السيء نسبة لشخص ما. و بعبارة أخرى، سيء الظن، هو الإنسان الذي يتخيّل و ...
  • كم مرّة ورد إسم النبي (ص) في القرآن؟ و ما هو السبب؟
    115649 علوم القرآن 2012/03/12
    ورد إسم النبي محمد (ص) أربع مرّات في القرآن الکریم، و في السور الآتية: 1ـ آل عمران، الآية 144: "وَ مَا محُمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلىَ أَعْقَابِكُمْ وَ مَن يَنقَلِبْ عَلىَ‏ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضرُّ اللَّهَ ...
  • ما الحكمة من وجود العادة الشهرية عند النساء؟
    89557 التفسیر 2012/05/15
    إن منشأ دم الحيض مرتبط باحتقان عروق الرحم و تقشّر مخاطه ما يؤدي إلى نزيف الدم. إن نزيف دم الحيض و العادة النسوية مقتضى عمل أجهزة المرأة السالمة، و إن خروجه بالرغم من الألم و الأذى و المعاناة التي تعاني منها المرأة يمثل أحد ألطاف الله الرحيم ...
  • هل يستر الله ذنوب عباده عن أبصار الآخرين يوم القيامة كما يستر عيوب و معاصي عباده في الدنيا، فيما لو ندم المرء عن ذنبه و تاب عنه؟
    61041 الکلام القدیم 2012/09/20
    ما تؤكده علينا التعاليم الدينية دائماً أن الله "ستار العيوب"، أي يستر العيب و يخفيه عن أنظار الآخرين. و المراد من العيوب هنا الذنوب و الخطايا التي تصدر من العباد. روي عن النبي محمد (ص) أنه قال: " سألت الله أن يجعل حساب أمتي إليّ لئلا تفتضح ...
  • ما هو النسناس و أي موجود هو؟
    60369 الکلام القدیم 2012/11/17
    لقد عرف "النسناس" بتعاريف مختلفة و نظراً إلى ما في بعض الروايات، فهي موجودات كانت قبل خلقة آدم (ع). نعم، بناء على مجموعة أخرى من الروايات، هم مجموعة من البشر عدّوا من مصاديق النسناس بسبب كثرة ذنوبهم و تقوية الجانب الحيواني فيهم و إبتعادهم عن ...
  • لماذا يستجاب الدعاء أكثر عند نزول المطر؟
    57377 الفلسفة الاخلاق 2012/05/17
    وقت نزول الأمطار من الأزمنة التي يوصى عندها بالدعاء، أما الدليل العام على ذلك فهو كما جاء في الآيات و الروايات، حيث يمكن اعتبار المطر مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهية فوقت نزوله يُعتبر من أوقات فتح أبواب الرحمة، فلذلك يزداد الأمل باستجابة الدعاء حینئذ. ...
  • ما هو الذنب الذي ارتكبه النبي يونس؟ أ ليس الانبياء مصونين عن الخطأ و المعصية؟
    51625 التفسیر 2012/11/17
    عاش يونس (ع) بين قومه سنين طويلة في منطقة يقال لها الموصل من ارض العراق، و لبث في قومه داعيا لهم الى الايمان بالله، الا أن مساعيه التبليغية و الارشادة واجهت عناداً و ردت فعل عنيفة من قبل قومه فلم يؤمن بدعوته الا رجلان من قومه طوال ...
  • ما هي آثار القناعة في الحياة و كيف نميز بينها و بين البخل في الحياة؟
    47715 العملیة 2012/09/13
    القناعة في اللغة بمعنى الاكتفاء بالمقدار القليل من اللوازم و الاحتياجات و رضا الإنسان بنصيبه. و في الروايات أحيانا جاء لفظ القناعة تعبيرا عن مطلق الرضا. أما بالنسبة إلى الفرق بين القناعة و البخل نقول: إن محل القناعة، في الأخلاق الفردية، و هي ترتبط بالاستخدام المقتَصَد لإمكانات ...